كثير من الأمريكيين، ربما من الشباب، اندهشوا لدى علمهم أنه في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لا يكون أعضاء المجمع الانتخابي ملزمين باختيار المرشح الذي نال أغلبية الأصوات في الدائرة التي يمثلونها، فما قصة هذا المجمع الانتخابي؟ وهل يمكن أن تلغيه المحكمة الدستورية العليا؟
بدعة أمريكية
الحقيقة أن المجمع الانتخابي اختراع أمريكي صِرف لا يوجد له مثيل في أي نظام ديمقراطي آخر حول العالم، ويعود تاريخ تأسيسه إلى المؤتمر الدستوري الذي انعقد عقب استقلال الولايات المتحدة الأمريكية عن التاج البريطاني وكان ذلك عام 1787.
وألقى تقرير لموقع The Conversation الأمريكي الضوء على ذلك الاختراع وخلفياته، يشير إلى أن النظام الدستوري الأمريكي عندما وضع ضوابط عملية لاختيار الرئيس جاءت العملية في صورة مجموعة من التوافقات الصعبة، هي ما تم التوصل إليه في اللحظة الأخيرة قبل نهاية المؤتمر الدستوري.
فالمجتمعون اختلفوا حول إذا ما كان الكونغرس أو الولايات هم أصحاب الحق في اختيار رئيس الدولة التي اعتمدت النظام الفيدرالي، كما لم يستطيعوا التوافق حول ما إذا كانت الولايات جميعها يجب أن تتمتع بثقل متساوٍ أم أن الولايات الأكثر كثافة سكانية يجب أن تحظى بثقل أكبر؟ كما لم يتفقوا حول ما إذا كان اختيار كل ولاية للرئيس يكون من خلال المشرعين المنتخبين في الولاية أم من خلال أصوات جميع الناخبين؟
وفي النهاية أنشأت لجنة الأجزاء غير المحسومة من الدستور هيكلاً حكومياً غير تقليدي، جاء عبارة عن توافقات وحلول وسط بشأن كل النقاط الجدلية، وكان مؤسسو الولايات المتحدة متقبلين تلك التوافقات وتم على الفور قبول وإقرار الآلية الجديدة لاختيار الرئيس، لكن الأمر لم يعد كذلك بالنسبة للأمريكيين المعاصرين.
الآلية تقوم على اختيار عدد صغير من المواطنين يطلق عليهم "المنتخبون" عن كل ولاية ويجتمعون معاً لاتخاذ قرار الرئاسة بشكل جماعي، ولا يتدخل الكونغرس إلا إذا فشل "المنتخبون" في التوصل لقرار بالأغلبية، ويعادل عدد "المنتخبون" في كل ولاية عدد ممثليها في مجلسي الشيوخ والنواب، وهو ما يعني أن الولايات الصغيرة تحظى بتمثيل أكبر من عدد سكانها لكنه أقل من تمثيل الولايات الكبيرة.
ويمكن أن يستغل المشرعون في كل ولاية نفوذهم عند اختيار "المنتخبون"، ما قد ينتج عنه أشكال نخبوية من الديمقراطية في ولايات مختلفة، ففي البداية على سبيل المثال كانت ولاية بنسلفانيا تعقد انتخابات عامة يصوّت مِن خلالها مَن له حق التصويت لاختيار "المنتخبون"، بينما كانت ولايات أخرى تعين "المنتخبون" من خلال برلمان الولاية نفسه واستمر ذلك حتى منتصف القرن التاسع عشر.
وفي العقود التي تلت تأسيس البلاد، كان الأمريكيون يحتضنون ديمقراطية الأغلبية، فتوقع أغلب الناس أن أصوات الأغلبية في كل ولاية ستحدد لمن تذهب أصواتها من المرشحين للرئاسة، وفي معظم الولايات يعطي البرلمان الحق للحزب الفائز في اختيار "المنتخبون" (أعضاء المجمع الانتخابي عن الولاية) والذين هم في نفس الوقت أعضاء في الحزب صاحب الأغلبية تعهدوا بالتصويت لمرشح الحزب في الانتخابات الرئاسية ويكون ذلك خلال الاجتماع العام للمجمع الانتخابي في ديسمبر/كانون الأول، أي بعد شهر من إجراء التصويت العام في الانتخابات الرئاسية.
وفي هذه الحالة تذهب أصوات المجمع الانتخابي للولاية إلى المرشح الفائز بالأغلبية الشعبية، لكن من الممكن أن يقرر أحد أعضاء المجمع الانتخابي أن يصوت لصالح مرشح آخر، ولهذا السبب بالتحديد توجد الآن قضية منظورة أمام المحكمة الدستورية العليا تنتظر الحكم خلال يونيو/حزيران الجاري.
من هم "المنتخبون غير المخلصين"؟
المقصود هنا هم أعضاء المجمع الانتخابي الذين لا يلتزمون بتصويت الأغلبية في الولاية ويصوتون لصالح من يرونه الأصلح من وجهة نظرهم، والقضية التي تنظرها المحكمة العليا الآن رفعها ألكساندر هاملتون، وهو من المنادين بديمقراطية النخبة لأنه لا يثق بتصويت المواطنين العاديين ويؤمن بأن المجمع الانتخابي هو النموذج الأمثل للديمقراطية، ويبرر موقفه بأن عملية اختيار الرئيس في حد ذاتها تعكس ما يريده الناس ككل، لكنها في الواقع تتم فعلياً "من خلال عدد صغير من الناس يختارهم المواطنين في انتخابات مباشرة".
ويؤمن هاملتون بأن "المنتخبون" تكون لديهم "المعلومات والتمييز الضروريان" بينما يصوت العامة على الأرجح لرئيس "موهوب في إثارة المشاعر والألاعيب الشعبوية الصغيرة"، وكان هدفه الصريح في انتخابات 2016 هو إقناع عدد كافٍ من أعضاء المجمع الانتخابي بالتصويت "عكس نتائج انتخابات الولاية كي يغير النتيجة لصالح هيلاري كلينتون، وقد انضم له عدد من المشاهير ومنهم النجم السينمائي مارتين شين الذي ناشد "المنتخبون الجمهوريون" أن يكونوا "أبطالاً أمريكيين" عن طريق منع دونالد ترامب من الوصول للبيت الأبيض.
وكانت النتيجة الرسمية في المجمع الانتخابي في الانتخابات الماضية هي 304 أصوات لصالح ترامب مقابل 227 فقط لصالح كلينتون، وهو ما يعني أن العدد الإجمالي 538 غير صحيح، والسبب أن 7 من أعضاء المجمع لم يكونوا "مخلصين" لقرارات الأغلبية في تصويت الولايات، فقد صوت 2 من الجمهوريين لصالح مرشحين آخرين كما رفض 5 من الديمقراطيين رفضوا اتباع أصوات الأغلبية في ولاياتهم فصوّت ثلاثة منهم لصالح وزير الخارجية الأسبق كولين باول، وواحد لبيرني ساندرز، وآخر للأمريكي من الهنود الحمر الناشط فيث سبوتيد إيغل، وهو ما يعني أن أعضاء المجمع الانتخابي يمكنهم التصويت لأشخاص غير مترشحين للرئاسة أساساً.
ماذا يعني "المنتخبون غير المخلصين" لانتخابات 2020؟
صحيح أن الأعضاء السبعة في المجمع الانتخابي الذين لم يكونوا مخلصين لأصوات الأغلبية في ولاياتهم لم يكونوا مؤثرين في فوز ترامب أو خسارة كلينتون بسبب الفارق الكبير بينهما، لكن السؤال الآن هو: ماذا لو كان الفارق بين ترامب ومنافسه الديمقراطي جو بايدن ضئيلاً وتسبب "منتخبون غير مخلصون" في ترجيح كفة أحدهما؟
الإجابة عن هذا السؤال مرتبطة الآن بحكم المحكمة الدستورية العليا المنتظر هذا الشهر بشأن ما إذا كانت الولايات المتحدة لا تزال تطبق عناصر الديمقراطية النخبوية ولا يمكن للولايات أن تقوم بتغييرها أم أنه من حق مشرعي الولايات تأسيس ديمقراطية شعبية داخل كل ولاية عن طريق جعل "المنتخبون" مجرد أداة توصيل للإرادة الشعبية، رغم أن النص الدستوري (وهذه حجة هاملتون) يحتمل تفسير حرية الإرادة لدى "المنتخبون".
ففي حالة جاء الحكم لصالح هاملتون، يمكن أن يختار المجمع الانتخابي في ديسمبر/كانون الأول رئيساً لم يحظَ بأغلبية أصوات الناخبين يوم 3 نوفمبر/تشرين الثاني، وفي ظل ما تشهده الولايات المتحدة منذ وصول دونالد ترامب للبيت الأبيض وحتى اليوم من المستحيل تخيل ما قد يترتب في حالة حدوث هذا السيناريو.
وبالطبع قضية المجمع الانتخابي ومدى الصلاحية التي يتمتع بها "المنتخبون" عن كل ولاية قد أثيرت مرات قبل انتخابات 2016، بل إن ولاية كولورادو قد شرعت قانوناً يسمح باستبدال "المنتخبون غير المخلصين" على الفور كما فرضت ولاية واشنطن غرامة 1000 دولار على "المنتخب" الذي يصوّت عكس اختيار الأغلبية، كما رفع اثنان من المنتخبون غير المخلصين قضية تتحدى قدرة الولايات على تقييد تمييزهم الخاص بموجب الدستور.