كانت الساعة التاسعة مساءً حين ظهر 3 رجال، اثنان منهم مدججان بالسلاح، عند باب منزل حسين. وخسر حسين وظيفته قبل شهرين وكان يدين بـ1400 دولار هي تكلفة إيجار شهرين لمنزله في جنوبي بيروت. وجاء الرجال الغرباء إلى منزل حسين يحملون رسالة: صاحب البيت يرغب في رحيله.
ويعد حسين، مالك مستودع سابقاً، واحداً من عشرات الآلاف من اللبنانيين الذين ألقوا خارج بيوتهم المريحة بسرعة هائلة نتيجة أسوأ كارثة مالية ونقدية يشهدها لبنان منذ 30 عاماً.
وفي مساء ذلك اليوم من شهر يناير/كانون الثاني، جمع الرجل البالغ من العمر 50 عاماً أفراد أسرته ورحل. وقال لهم: "علينا أن نترك الماضي وراء ظهورنا، وننسى كيف اعتدنا العيش، أو التسوق".
واعتاد حسين كسب 2000 دولار شهرياً وعاش حياة رغيدة. فبعد سداد إيجار سكن بأربع حجرات نوم، أمكنه تحمل نفقات الدراسة الجامعية والمدرسية لأطفاله الثلاثة، وتبقى لديه ما يكفي من أموال للنزهات العائلية، بحسب تقرير لصحيفة The Financial Times البريطانية.
لكن الآن، ومع عدم توفر فرص عمل في الأفق، باع حسين سيارته طراز BMW، ومجوهرات زوجته وأغلب أثاثه. ومُنِعَت ابنته من متابعة نظام التعليم الجامعي الإلكتروني بسبب عجزه عن سداد الرسوم.
لبنان غارق في أزمة الديون
يغرق لبنان في كارثة منذ ما يقرب من عام حين اشتعل غضب جماهيري ضد طبقة سياسية يُنظَر لها على أنها فاسدة وتخدم مصالحها الخاصة مما أدى إلى احتجاجات حاشدة وتعطيل الاقتصاد. والآن يهدد شبح البطالة بإثارة الاحتجاجات مرة أخرى، وتحذر الحكومة الفيدرالية من أنَّ 60% من السكان قد ينحدرون إلى الفقر بنهاية 2020.
وقالت المديرة التنفيذية لبنك الغذاء اللبناني سهى زعيتر: "كانت لدينا فئة تسمى الأثرياء الجدد، لكن الآن لدينا فئة يُطلَق عليها الفقراء الجدد، وهم أفراد سابقون في الطبقة المتوسطة".
وفي إشارة إلى عدد العائلات المعرضة لخطر الجوع، وزَّعت المنظمة هذا العام 6 أضعاف عدد صناديق الطعام التي وزعتها طوال عام 2019. ولفتت سهى زعيتر إلى أنه من بين المحتاجين، الموظفون من ذوي الياقات البيضاء، بدايةً من المحاسبين إلى رئيس سابق لقسم التسويق والدعايا.
وطلبت الحكومة اللبنانية مساعدة صندوق النقد الدولي، لكن لم يتوصل الطرفان إلى اتفاق حول برنامج المساعدة إلى حدود اللحظة.
وأصبحت الأسر ذات الدخل المتوسط والمنخفض مهددة أكثر من غيرها نتيجة الانكماش الاقتصادي؛ لأنَّ حكومة لبنان التي تعاني من ضائقة مالية، والتي تعثرت في سداد ديونها الخارجية في مارس/آذار، لا يمكنها توفير شبكة أمان.
وفي هذا السياق، قال جاد صقر، رئيس مكتب منظمة Save the Children (إنقاذ الطفل) في لبنان: "لبنان ليس البلد الذي يمكنك أن تتمتع فيه بحماية اجتماعية". واعتادت منظمة إنقاذ الطفل مساعدة اللاجئين الفلسطينيين والسوريين في لبنان، لكنها صارت تدعم الآن مئات الأسر اللبنانية.
كورونا زاد الطين بلة
وأصبحت الأزمة الاقتصادية أكثر حدة خلال جائحة فيروس كورونا المستجد. وكشف استطلاع رأي نشرته منظمة العمل الدولية في حزيران/يونيو أنَّ 37% من المشاركين عاطلون عن العمل وأكثر من 80% منهم تعرضوا للتسريح من العمل نهائياً أو مؤقتاً، أثناء حالة الإغلاق الناجمة عن تفشي فيروس كورونا المستجد.
لكن القضية الأساسية هي أنَّ لبنان ظل لسنوات ينفق بقدر يتجاوز حدود إمكانياته؛ ويرجع ذلك جزئياً لتمويل فاتورة استيراد تشمل ما يصل إلى 80% من الغذاء الذي يحتاجه لبنان، وفقاً لدراسة أجرتها الأمم المتحدة.
وبدلاً من الاستثمار في الإنتاج المحلي، استُخدِمَت العملات الأجنبية التي جذبتها البنوك اللبنانية من خلال وضع أسعار فائدة مرتفعة، لتمويل الحكومة ودفع ثمن الواردات ودعم الليرة اللبنانية -المرتبطة بالدولار- مما زاد القوة الشرائية المحلية زيادة مصطنعة.
وقال شربل نحاس، اقتصادي وسياسي معارض: "استفادت الطبقة المتوسطة الجديدة من السياسة النقدية (التي تبنتها الحكومة طوال العقود الثلاثة الماضية). وهذا يعكس الأسلوب الاستهلاكي المتباهي"، الذي عزز سمعة لبنان بأنها عاصمة الاحتفالات في الشرق الأوسط.
لكن تهاوت هذه السياسة النقدية في العام الماضي، حين أدى تراجع ثقة الجمهور إلى جفاف إمدادات الدولار الأمريكي في البلاد. وانهارت قيمة الليرة اللبنانية وارتفع التضخم، حتى شهدت أسعار الأغذية الأساسية ارتفاعاً بنسبة 55%.
معاناة أصحاب الأجور الضعيفة
ومع اختفاء العملة الأجنبية وفرض البنوك قيوداً فعلية على أصحاب الحسابات، عانى المستوردون لدفع أجور الموردين وبدأوا في الإفلاس. وبحسب إحصائيات ميناء بيروت، تراجع حجم واردات أكبر 5 شركات ووكلاء شحن في لبنان بنحو 50% على أساس سنوي في الربع الأول من عام 2020.
وعلى مدى سنوات، شغل العمال المهاجرون، من مصر إلى إثيوبيا، الوظائف ذات الأجور المتدنية في لبنان طمعاً في الحصول على أجر بالدولار الأمريكي، بالرغم من الظروف السيئة في لبنان في كثير من الأحيان.
وفي غضون ذلك، شجعت الحكومة اللبنانية مواطنيها في الخارج -الذين لديهم مؤهلات عليا وفرّوا من الحرب الأهلية في الثمانينيات أو غادروا البلد منذ ذلك الحين- على إيداع أموالهم بالدولار الأمريكي في البنوك المحلية مقابل أسعار فائدة عالية. بدورهم، توجه هؤلاء إلى تحويل ودائع إلى البنك المركزي؛ مما وفر للبلد العملة الصعبة التي يحتاجها لتمويل الواردات.
وأوضح شربل نحاس أنَّ تدفقات المهاجرين المؤهلين من الطبقة المتوسطة إلى الخارج عَمِلت بمثابة "منتج قابل للتصدير يحظى بتقدير كبير"، وساهمت في تسهيل عمل النظام النقدي غير العادي في لبنان.
ومع ذلك، حرمت الهجرة الجماعية البلاد من أفضل محترفيها تأهيلاً، وهو أمر يخشى شربل نحاس من تكرار حدوثه الآن في ظل اختفاء فرص العمل. وقال نحاس: "قد يعني هذا تغييراً جذرياً في هيكل المجتمع لمدة 40 [أو] 50 سنة. هذا أشد وطأة واستدامة من الخسائر المحاسبية".
إلى جانب ذلك، يحاول العديد من العمال الأجانب في لبنان الرحيل، بعد أن تحول أصحاب العمل في القطاعات منخفضة الأجر إلى دفع أجور الموظفين بالليرة اللبنانية التي تنخفض قيمتها. وفي أواخر العام الماضي، بدأت الفلبين في عرض رحلات لإعادة مواطنيها.