"لو بيتي إيجار لأصبحت في الشارع وشحدت الخبز والملح".. هذه العبارة تُلخّص حكاية المُعلِّم الثلاثيني بمدرسة إعدادية في حلحول شمال الخليل جنوب الضفة الغربية، محمد كراجة، الذي شأنه كشأن سائر الموظفين الحكوميين المُربكين بعدما أعلنت السلطة الفلسطينية عن أزمة مالية مرتبطة بالتطورات الخاصة بخطة "الضمّ" الإسرائيلية المرتقبة.
"كيف أعيّش عيلتي بأزمة ما حكولنا كم عمرها"
ويوضح كراجة الذي يصل راتبه الشهري إلى 3000 شيكل (860 دولاراً) وهو بالكاد يسعف حاجياته العائلية الأساسية في ظل غلاء المعيشة ولا يتيح الفرصة أساساً لأي نوع من "الرفاهية": "معي الآن فقط 200 شيكل ومش عارف كيف بدي أعيّش عيلتي بأزمة ما حكولنا كم عمرها".
وتابع: "لن أستطيع وضع ابني في الحضانة أو توفير لوازمه.. ولا دفع فواتير الكهرباء والماء.. حتى أنني أردت شراء سيارة لكن بعد الإعلان المفاجئ للسلطة عن عدم صرف رواتبنا، تراجعت عن الخطوة؛ لأن شيكات الدفوعات الشهرية ستكون بلا رصيد لعدم توفر قيمتها في حسابي البنكي".
نقابات واتحادات الموظفين صامتة
أبدى كراجة غضبه من الحكومة الفلسطينية التي جعلت موظفيها لا يستطيعون التكلم والشكوى خوفاً من تخوينهم رغم وضعهم الذي يتجه كل يوم للأسوأ.. فإذا "تكلمنا وطلبنا إجابات عن أسئلتنا اتهمنا بأننا خارج الصف الوطني".. معتبراً أن "الموظفين هم الطرف الأضعف الذي يتم إلقاء عبء أي أزمة سياسية على كاهلهم".
ويوجه الموظفون العموميون انتقاداتهم لاتحاداتهم ونقاباتهم التي يعتريها الصمت المطبق. فلا تجرؤ حتى اللحظة على إصدار بيان يطالب الحكومة بتوضيح الصورة بدلاً من الإجابات الغامضة. وبالفعل أقر مصدر من اتحاد المعلمين في حديث لـ"عربي بوست" بعجز الاتحاد عن الكلام في هذه المرحلة فهو محتار بين الصمت والكلام خوفاً من التخوين والإدانة من قبل السلطة.
فتحنا حصّالة الأولاد
بدوره، أجاب الأربعيني إبراهيم حمدان على سؤال "عربي بوست" بشأن واقعهم بعد الحديث عن بدء أزمة الرواتب، وعدم وجود إجابة حول موعد الصرف أو نسب صرفها على الأقل، على إثر رفض السلطة الفلسطينية استلام أموال "المقاصة" من إسرائيل والتي تشكل ثلثي الموازنة العامة، قائلاً: "فتحنا حصّالة الأولاد حتى نلبّي مصروف البيت".
بالرغم من أن زوجة إبراهيم هي الأخرى موظفة حكومية ويحصلان معاً على راتب جيد نسبياً، فإنه يوضح أن مجرد انقطاع الراتب يعني أزمات متعددة فهما بالنهاية يعتمدان على راتب محدود، وبصعوبة بالغة يقومان بجدولة صرف الراتب حتى مطلع الشهر الذي يليه الآن وقد تجاوزنا منتصف شهر يونيو/حزيران، بينما لم يتم صرف راتب الشهر الماضي، فيما يقتصر جواب الحكومة فقط على كلمتين هما "اصبروا" و"اصمدوا".
لم تقدم الحكومة شرحاً وافياً عن طبيعة المرحلة المالية التي تمر بها، ولم تنشر أي خطة واضحة بهذا الشأن، ومروراً بكيفية تعامل سلطة النقد مع القروض البنكية الخاصة بالموظفين، وفواتيرهم والتزاماتهم لصالح شركات الاتصالات والماء والكهرباء.. مضيفاً: "ما حد برحمك.. والحكومة خلتنا مش عارفين شو نعمل".
الموظف لا يساوم بين الوطن والراتب
لم يختلف كثيراً حال (م.ب) الموظفة في أحدى الأجهزة الأمنية وطلبت عدم ذكر اسمها، لأنه ممنوع عليها التكلم وإلا سيتم فصلها، بدت ملامح الإحباط على وجهها، موضحة: "عندي قروض والتزامات كبيرة. ما بعرف لوين رايحين".
الحال أن أصواتاً فلسطينية شككت في عدم قدرة الحكومة الفلسطينية على صرف راتب كامل على الأقل عن الشهر الماضي، مشيرين إلى أنه بالرغم من جدية الأزمة المالية لكنه لدى خزينة الحكومة المال الكافي لصرف رواتب الشهر الماضي.
وتعزز هذه الشكوك معلومة حصل عليها "عربي بوست" مفادها أن رئيس الوزراء محمد شتية تحدث في جلسة مغلقة عن أن حكومته استلمت أموال المقاصة عن شهر مايو/أيار من إسرائيل بشكل مسبق أي تم إضافتها إلى المقاصة الخاصة بأبريل/نيسان، إذ إن تل أبيب حوّلتها دفعة واحدة عن شهري أبريل/نيسان ومايو/أيار.. ولعلّ هذه المعلومة تناقض ما أعلنته السلطة رسمياً حول رفضها استلام المقاصة عن الشهر الماضي، من منطلق عدم القبول بـ"المقايضة والابتزاز الإسرائيلي" قبيل تنفيذ "الضم".
و"المقاصة" هي أموال الضرائب الفلسطينية التي تجبيها إسرائيل من الفلسطينيين وفق بروتوكول باريس الناظم للعلاقة الاقتصادية مع السلطة، بحيث تستلمها الأخيرة من تل أبيب شهرياً بعد اجتماع مشترك يجري بين وزارتي المالية الفلسطينية ونظيرتها الإسرائيلية، إذ تقوم السلطة خلال الاجتماع بالتوقيع كإجراء تقليدي لاستلام "المقاصة".
ويعتقد الصحفي المتخصص في الشأن الاقتصادي محمد خبيصة في حديثه لـ"عربي بوست" أن الانطباع إزاء قدرة الحكومة الفلسطينية على صرف راتب الشهر الماضي يقترب من الدقة، محاولاً تقديم تفسيرين لذلك:
الأول، أن السلطة بالفعل تمتلك أموالاً بالخزينة لكنها تكفي فقط لصرف رواتب لـ130 ألفاً من موظفيها، ولا تستطيع صرف هذه الرواتب دون صرف ما تسمى "أشباه الرواتب" (رواتب المتقاعدين)، فمن الناحية الإجرائية يتم صرفهما معاً.
وأما التفسير الثاني لتعجيل السلطة في الحديث عن أزمتها المالية، فيكمن في أن السلطة تدرك أن ضعفها الاقتصادي هو الوسيلة الوحيدة للضغط على إسرائيل والمجتمع الدولي، ما دفعها للحديث عن الأزمة قبل شهر من وقوعها فعلياً.
خزينة السلطة فارغة فعلاً؟
بيدَ أنّ الخبير الاقتصادي نصر عبدالكريم يتبنى وجهة نظر أخرى، حيث استبعد في حديثه لـ"عربي بوست" قدرة الحكومة على صرف راتب الشهر الماضي، معتقداً أن خزينة السلطة تكاد أن تكون فارغة فعلياً.
وتابع: "بالقلم والورقة محسوبة.. المقاصة تشكل ثلثي الخزينة فيما لم تستلمها الحكومة.. أما الجباية الداخلية فتبلغ في أحسن أحوالها وفي الظروف الطبيعية 250 مليون شيكل شهرياً. والآن انخفضت إلى النصف خلال شهر مايو. وبالنسبة للمساعدات الدولية، فإنها تبلغ بالمتوسط الشهري 120 مليون شيكل بواقع 50 مليون دولار".
وهذا يعني -بحسب عبدالكريم- "صفر مقاصة"، بالترافق مع نفقات شهرية بعد "التقشف الاضطراري" بواقع مليار شيكل شهرياً، بينها فاتورة رواتب الموظفين والمتقاعدين التي تبلغ 750 مليون، بموازاة نفقات تشغيلية وحركة أمن ورعاية صحية.. الأمر الذي يجعل الفجوة التمويلية بغياب المقاصة على الأقل 800 مليون شيكل.
ووفق عبدالكريم، فإن الحكومة إذا استطاعت الاقتراض من البنوك هذا الكمّ أو استلمت مساعدات دولية استثنائية، يمكنها دفع رواتب الموظفين.. ودون ذلك ستكون السلطة غير قادرة على دفع 10% من الراتب.
لا معطيات لدى الحكومة
في المقابل، يؤكد نصر عبدالكريم أحقية انتقادات الموظفين للحكومة التي لا تعلمهم أي شيء حول عمر الأزمة، ولم تضعهم بكامل الصورة حتى يصبروا.
ويقول عبدالكريم: "لقد كان إعلان السلطة عدم مقدرتها على صرف رواتب موظفيها مفاجئاً للجميع حتى لي كمراقب.. فجأة من راتب كامل إلى صفر بالمئة إلى غياب معلومة وحالة لا يقين".
ويشدد عبدالكريم إلى أنه كان من المفروض أن تُحدّث الحكومة موظفيها عن السيناريوهات مع حلول منتصف الشهر الماضي عندما اتضحت أمور المقاصة وبدأت المواجهة السياسية مع إسرائيل. لكنه يقرّ في الوقت ذاته أن وزارة المالية لا تمتلك المعطيات الواضحة حتى تعلنها للشعب، ما يمنعها من الخروج بمؤتمر صحفي يوضح الوضع المالي الدقيق.
بكل الأحوال، يُجمع مراقبون على أن السلطة الفلسطينية لا تستطيع تحمل أزمة مالية أكثر من شهرين أو ثلاثة، كما أن المجتمع الدولي لن يسمح باستمرار هذه الأزمة التي تؤدي إلى انهيار السلطة والأوضاع الميدانية.. حيث سيتدخل بالوقت المناسب.
وفي السياق، يقدّر الباحث في معهد "ماس" للبحوث الاقتصادية مسيف مسيف لـ"عربي بوست" أن السلطة لا تستطيع أن تتحمل أزمة مالية شديدة أكثر من ثلاثة أشهر، معتبراً أن "عُمر السلطة من عُمر المقاصة".