تسبب مثول القيادي في ميليشيات الجنجويد السودانية، علي كوشيب، أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، ردود أفعال واسعة في السودان، كونه أحد 4 مسؤولين حكوميين مطلوبين لدى المحكمة، بتهم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب في دارفور، خصوصاً أن التداعيات المترتبة على مثول كوشيب ربما تطال نافذين في مجلس السيادة السوداني، بخاصة رئيسه الفريق أول عبدالفتاح البرهان، ونائبه الفريق أول محمد حمدان حميدتي.
وبجانب كوشيب، هناك الرئيس السابق عمر البشير ووزير دفاعه عبدالرحيم محمد حسين ومساعده أحمد هارون، المعتقلون حالياً لدى الحكومة الانتقالية، التي تشكّلت عقب سقوط النظام السابق في 11 أبريل/نيسان 2019.
وكانت المحكمة الجنائية الدولية، أعلنت يوم الأربعاء 10 يونيو/حزيران، أن كوشيب سلّم نفسه طواعية لبعثة الأمم المتحدة في إفريقيا الوسطى الحدودية مع السودان، حيث تم نقله لاحقاً إلى مقر المحكمة في لاهاي.
وعمل كوشيب في قوات الشرطة السودانية مساعداً طبياً، قبل أن يتقاعد منها في نهاية تسعينيات القرن الماضي. وحينما اشتد التمرد في دارفور عام 2003، التحق بقوات الدفاع الشعبي، بعدما قررت الحكومة وقتها تسليح بعض القبائل لمواجهة الحركات المتمردة، فكان ذلك مدخلاً لانخراط كوشيب في ميليشيا الجنجويد المتهمة بارتكاب انتهاكات في دارفور، ما دعا المحكمة الجنائية الدولية لإصدار مذكرة توقيف ضده في 27 أبريل/نيسان 2007، بتهمة قيادة العمليات العسكرية ضد المدنيين على أساس عرقي.
هروب وقرار شخصي
مكث كوشيب في ولاية جنوب دارفور، أكثر من 10 شهور عقب سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير، دون أن تعترضه سلطات الحكومة الانتقالية، لكنه غادر فجأة إلى دولة إفريقيا الوسطى الحدودية مع السودان في فبراير/شباط 2020، وهو ما اعتبره أستاذ العلوم السياسية بالجامعات السودانية، دكتور عز الدين المنصور، ناتجاً بدرجة رئيسية عن مذكرة التوقيف التي أصدرتها النيابة العامة السودانية، نهاية العام الماضي، للقبض عليه.
وقال المنصور لـ "عربي بوست"، إن كوشيب شعر بالخطر على نفسه، بعد أن توافقت الحكومة الانتقالية مع الحركات المسلحة في دارفور، خلال المفاوضات التي تجري بين الطرفين في جوبا عاصمة دولة جنوب السودان، على تسليم المحكمة الجنائية الدولية، المسؤولين السودانيين المطلوبين لديها.
وذكر عز الدين أن كوشيب هرب من مسقط رأسه في رهيد البردي إلى منطقة أم دافوق الحدودية بين السودان وإفريقيا الوسطى، مستغلاً عربتي دفع رباعي، واحدة لحمايته والثانية لنقله، كما استعان بالعشرات من شبان قبيلته الذين رافقوه باستخدام الدراجات النارية.
وأكد أستاذ العلوم السياسية أن تحركات كوشيب كانت معلومة لكثير من الأهالي في تلك المناطق، وأيضاً مرصودة لكثير من أجهزة المخابرات، ولذلك ذاعت معلومة مغادرته السودان إلى إفريقيا الوسطى، حيث نشرت عدد من المنصات الإعلامية الخبر، وبالتالي وجد الرجل نفسه مضطراً للبحث عن سبيل آمن يوصله إلى المحكمة الجنائية، خاصة أن عشيرته نصحته بأن بقاءه في السودان يجعله تحت ملاحقة الحكومة الجديدة، وتحت تهديد أسر ضحايا النزاع في دارفور، لاسيما أنه عانى قبل وبعد سقوط نظام البشير، من اعتداءات بعض الأهالي.
وكانت أسرة كوشيب أعلنت تعرضه لثلاث محاولات اغتيال، جرت إحداها في سوق نيالا بولاية جنوب دارفور، عام 2013، وتسببت في مقتل سائقه وأحد حراسه، قبل أن يتمكن بعض مرافقيه من قتل الشخص المهاجم.
وفي يونيو/حزيران 2018، اعتقل جهاز مخابرات الرئيس السابق عمر البشير اثنين من الشباب في منطقة رهيد البردي، بتهمة التخطيط لاختطاف كوشيب، وتسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية، بالتنسيق مع مخابرات خارجية، وبتدبير من حركة تحرير السودان بقيادة عبدالواحد محمد نور، لكن محكمة الإرهاب في الخرطوم برأت المتهميْن لعدم كفاية الأدلة.
صفقة وشاهد ملك
لكن وخلافاً لما ذهب إليه أستاذ العلوم السياسية بالجامعات السودان عز الدين المرضي، فإن المحل السياسي عبدالله مجاهد، يرى أن كوشيب ذهب إلى المحكمة في إطار صفقة نسّقتها أجهزة مخابرات دولية (لم يسمها)، بمشاركة بعض النافذين من المكوّن المدني في حكومة الفترة الانتقالية.
وقال مجاهد لـ "عربي بوست"، إن الحكومة الانتقالية في السودان تهدف إلى إقناع المجتمع الدولي بأن موقفها من العدالة الدولية يختلف عن موقف نظام الرئيس السابق عمر البشير، الذي كان يرفض التعامل مع المحكمة الجنائية الدولية، بحجة أنها "مسيّسة".
ولفت المحلل السياسي إلى أن الحكومة الانتقالية تسعى جاهدة لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وفقاً للتصنيف الأمريكي، وفي سبيل ذلك يمكن أن تفعل أي شيء، بما في ذلك استدعاء بعثة أممية يمكن أن تنتهك السيادة السودانية، على حد تعبيره.
وكان مجلس الأمن الدولي صادق أخيراً على إنشاء بعثة أممية تحت الفصل السادس، بطلب من رئيس الوزراء الدكتور عبدالله حمدوك، "للمساعدة في بناء السلام واستكمال التحول الديمقراطي في السودان"، لكن أحزاباً سياسية عديدة عارضت الفكرة، بينما رحب بها آخرون.
وشدد مجاهد على أن الصفقة تقتضي أن يتحوّل كوشيب إلى "شاهد ملك"، خلال مثوله أمام المحكمة الجنائية الدولية، بما يقود لتوفير أدلة ضد الرئيس السابق عمر البشير ووزير دفاعه عبدالرحيم محمد حسين ومساعده أحمد هارون، المطلوبين للمحكمة.
واستشهد المحلل السياسي بالزيارة التي نفذها عضو مجلس السيادة محمد حسن التعايشي إلى منطقة أم دافوق الحدودية بين السودان وإفريقيا الوسطى، قبل أيام قليلة من تسليم كوشيب نفسه إلى الجنائية، وقال إنها "تبرهن على وجود صفقة في محاكمة كوشيب".
وأشار مجاهد إلى أن عضو مجلس السيادة تعود أصوله إلى قبيلة التعايشة، التي ينحدر منها كوشيب، ما يعزز فرضية وجود تنسيق بين الرجلين.
ولم يتسن لـ"عربي بوست" الحصول على تعليق من عضو مجلس السيادة محمد حسن التعايشي، المتحدث الرسمي باسم وفد الحكومة في المفاوضات مع حركات دارفور المسلحة.
وكان التعايشي أول من كشف عن اتفاق الحكومة وحركات دارفور على تسليم رموز النظام السابق إلى المحكمة الجنائية في فبراير/شباط الماضي، وشدد على أن محاكمتهم ستمهد الطريق أمام نجاح مفاوضات السلام المتعثّرة في جوبا، وهي التصريحات التي غادر بعدها كوشيب إلى إفريقيا الوسطى.
وفي موازاة ذلك، شدد عضو هيئة الدفاع عن الرئيس السوداني، المحامي محمد الحسن الأمين، على وجود "صفقة ومؤامرة"، الهدف منها تحويل كوشيب إلى شاهد ملك، بما يقود لتسليم مطلوبين آخرين إلى المحكمة الجنائية.
وقال الأمين لـ "عربي بوست" إن "الدلائل على وجود الصفقة والمؤامرة ظهرت بوضوح خلال أولى جلسات محاكمة كوشيب، حيث طلب محاميه من المحكمة الوقوف حداداً على الضحايا الذين تزعم الجنائية أن موكله كوشيب متورّط في قتلهم، مع أن المنطق العدلي يؤكد أن هذا الدور يجب أن يقوم به محامي الاتهام – إذا كان ضروياً – وليس محامي الدفاع، الذي يتوجب عليه أن ينكر وجود ضحايا، أو أن ينكر علاقة موكله بهم، ولكن يبدو أن هذا الدور مرسوم بعناية".
ولفت عضو هيئة الدفاع عن الرئيس السابق عمر البشير إلى أن هناك أسئلة تحتاج إلى إجابة حول طريقة وصول كوشيب إلى لاهاي، وهل القبض عليه تم بالقوة أم بالاتفاق، مشيراً إلى أن غالبية النافذين في الحكومة الانتقالية لهم علاقة بالمنظمات الأممية والدولية، ما يؤكد وجود صفقة وراء الحادثة.
وكانت كبيرة ممثلي الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا، دعت الحكومة السودانية، خلال اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء السوداني الدكتور عبدالله حمدوك، لتسليم البشير واثنين من معاونيه، وذلك عقب ساعات من تسلمها كوشيب.
ولم يصدر من مجلس السيادة المعنيّ بالشؤون السيادية للسودان أي تعليق على مثول كوشيب أمام المحكمة الجنائية، بينما اكتفى مجلس الوزراء بتعليق مقتضب على لسان وزير الإعلام، فيصل محمد صالح، رحب فيه بتسليم كوشيب نفسه إلى المحكمة، وأشار إلى أنهم على استعداد لمناقشة أمر تسليم باقي المطلوبين إليها.
البرهان وحميدتي هل يُحاكمان دولياً؟
بالنسبة لكثيرين، لا تبدو التداعيات المترتبة على مثول كوشيب أمام المحكمة الجنائية الدولية مقتصرة على رموز النظام السابق وحدهم، وأنها ربما تطال نافذين في مجلس السيادة السوداني، بخاصة رئيسه الفريق أول عبدالفتاح البرهان، ونائبه الفريق أول محمد حمدان حميدتي، قائد قوات الدعم السريع التي شاركت في النزاع بدارفور إلى جانب الحكومة السابقة.
وكان تقرير صادر عن منظمة هيومن رايتس ووتش عام 2015 وصف جنود الدعم السريع بأنَّهم "رجال بلا رحمة"، ووجه لهم اتهامات بارتكاب جرائم حرب، وانتهاكات جسيمة ضد المدنيين في دارفور، بينها عمليات تعذيب، وقتل خارج نطاق القضاء، واغتصاب جماعي.
هنا يقول المحلل السياسي عبدالله مجاهد إن احتمالية أن تقوم المحكمة الجنائية الدولية بملاحقة البرهان وحميدتي تظل واردة الحدوث، على اعتبار أن كلا الرجلين شارك في النزاع بدارفور إلى جانب نظام البشير.
ولفت مجاهد إلى أن رئيس حركة تحرير السودان، عبدالواحد محمد نور، طالب في خطاب رسمي أرسله إلى قادة المجتمع الدولي، بإصدار مذكرة توقيف من المحكمة الجنائية ضد البرهان، بتهمة المشاركة في الإبادة وجرائم الحرب بدارفور، وذلك بعد ساعات من مثول كوشيب أمام المحكمة، كما طالب نور الحكومة السودانية بتسلم البشير ووزير دفاعه عبدالرحيم محمد حسين ومساعده أحمد هارون إلى الجنائية.
وكان محمد نور كشف، في مقطع فيديو تم تصويره بعد أيام قليلة من الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير، معلومات تفصيلية عن البرهان، وقال إنه وقع في الأسر لدى حركة تحرير السودان، خلال معارك جرت بينها وبين القوات الحكومية في دارفور.
ولفت نور إلى أنه "قام بإطلاق سراح البرهان، لكنه بدلاً من تغيير أفكاره، انخرط في إبادة القبائل غير العربية في دارفور".
وتوقع عضو هيئة الدفاع عن الرئيس السوداني، المحامي محمد الحسن الأمين، أن تنشط المحكمة الجنائية في تحريك إجراءات ضد البرهان وحميدتي، لكنه استبعد شروع المحكمة في محاكمتهما فعلياً.
وقال الأمين إن المجتمع الدولي سيستخدم تلك الإجراءات للضغط على البرهان وحميدتي لتقديم تنازلات في سياسة السودان الخارجية والداخلية، بما يجعله تابعاً للغرب، مشيراً إلى أن الغرض من مثول كوشيب للمحكمة، الوصول إلى كروت ضغط على نافذي مجلس السيادة، وصولاً إلى تدمير الجيش السوداني، وبالتالي تدمير السودان.