انشغل الرأي العام الفلسطيني في الأيام الأخيرة بتفسير إصرار دولة الإمارات على إرسال مساعدات طبية جواً إلى الفلسطينيين عبر إسرائيل للمرة الثانية في غضون شهر، بالرغم من أن السلطة في رام الله ترفض تسلمها دون التنسيق معها.
ومع العلم أنه لا تربط الإمارات بإسرائيل علاقات دبلوماسية "علنية" على غرار دول عربية أخرى، لكن أبوظبي سمحت في الفترة الأخيرة لرياضيين ومسؤولين إسرائيليين بدخول أراضيها للمشاركة في فعاليات دولية ومؤتمرات. وساعدت في إجلاء يهود عالقين في المغرب إلى إسرائيل.
الطائرة الثانية بالعَلم الإماراتي
حطت في مطار بن غوريون بتلّ أبيب، مساء الثلاثاء، طائرة شحن تابعة لمجموعة "الاتحاد للطيران" الإماراتية، فيما رفضت السلطة تسلمها على غرار حمولة الطائرة الاولى؛ لأن أبوظبي لم تنسق بشأنها على الإطلاق مع سفير فلسطين في أبوظبي ولا مع القيادة الفلسطينية في رام الله.
يقول الوزير في الحكومة الفلسطينية عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، أحمد مجدلاني، لـ"عربي بوست" إن كل دول العالم "اتصلت بنا على مدار شهرين ونصف الشهر منذ بدء أزمة كورونا لتقديم المساعدة، باستثناء الإمارات التي لم تفعل ذلك واكتفت بمساعدة كرواتيا وسلوفينيا ودول أخرى بعشرات الملايين، فما الذي جدّ؟ ولماذا التنسيق المباشر مع إسرائيل؟".
هدية القطاع الخاص
مصدر رسمي فلسطيني آخر أكد لـ"عربي بوست" أن الأمم المتحدة حاولت التدخل لإقناع السلطة باستلامها بزعم أنها آتية من القطاع الخاص الإماراتي وأنها بالتنسيق مع الهيئة الأممية وليست من الحكومة في أبوظبي، لكنّ السلطة رفضت ذلك بكل الأحوال، مضيفاً "أنه لا يوجد شيء اسمه قطاع خاص إماراتي، بالمحصلة نتحدث عن دولة الإمارات والسياق سياسي بامتياز وليس إنسانياً".
وأشار إلى أن الإمارات لم تحاول إطلاقاً الاتصال بالقيادة في رام الله حتى بعد وصول الطائرة الأولى والثانية.
ورفض هذا المسؤول ذكر اسمه نظراً لوجود تعليمات من رئيس السلطة محمود عباس بعدم إطلاق أي تصريحات جديدة في الموضوع للحيلولة دون زيادة وتيرة التوتر الإعلامي والسياسي مع أبوظبي في هذا التوقيت تحديداً، والاكتفاء فقط بإعلان رفض تسلم المساعدة المذكورة ومبرر ذلك.
لسنا جسراً للتطبيع
واتهم المسؤول الفلسطيني الإمارات بأنها تريد أن "تتخذ من الفلسطينيين جسراً حتى يمروا من فوقنا للتطبيع مع إسرائيل". واعتبر أن المساعدات للتغطية أيضاً على الفضيحة التي تمثلت بتلبية المدير السابق للمخابرات الإماراتية هزاع بن زياد (شقيق ولي العهد محمد بن زايد) لطلب تقدم به رجل الأعمال اليهودي الأمريكي شيلدون أديلسون من أجل إرسال طائرة إماراتية إلى المغرب لإجلاء يهود عالقين هناك إلى إسرائيل الشهر الماضي، وذلك بعد إغلاق المغرب أجواءها أمام حركة الطيران بسبب وباء كورونا.
اللافت أن ثمة فيديو نشره الإعلام الإسرائيلي ليهودي كان على متن الطائرة الإماراتية أثناء تحليقها متوجهة من الإمارات إلى إسرائيل ووصفها بـ"الفاخرة".
أين حمولة الطائرتين؟
ووفق المعطيات المتوافرة لـ"عربي بوست" من شخصيات مطلعة في أراضي 48، فإن حمولة المساعدات الطبية الإماراتية التي وصلت عبر طائرتها منتصف مايو/أيار الماضي، لا زالت موجودة حالياً بالمخازن الإسرائيلية ولم تذهب إلى قطاع غزة.. لكن مصدراً آخر في قطاع غزة يقول إن "لجنة التكافل الوطني" في غزة التابعة للسياسي المفصول من حركة فتح، محمد دحلان هي من
تسلّم الحمولة. ويُرجح أن الأمر نفسه يسري على حمولة الطائرة الإماراتية الثانية التي لا زالت في المخازن الإسرائيلية في هذه الأثناء.
في المقابل، نفى القيادي في حركة حماس، حماد الرقب، علمه بالأمر، وقال رداً على سؤال لـ"عربي بوست" بشأن مصير حمولة الطائرة الأولى: "لا توجد معلومات لديّ حول هذه الوقائع".
وبإجراء مقارنة بين الطائرتين الإماراتيين نجد مفارقة غريبة وجديرة بالاهتمام.. فالأولى التي حطت في المطار الإسرائيلي الشهر الماضي لم تحمل يومها شعار الشركة الحكومية الإماراتية خلافاً للطائرة الثانية التي حطّت مساء الثلاثاء في المطار الإسرائيلي، في سابقة من نوعها.. هذه المفارقة أثارت أيضاً تشكيكاً فلسطينياً إزاء المقصد الإماراتي الحقيقي من وراء ذلك.
لماذا رفضت السلطة
الواقع أن الإجابة عن هذا السؤال المطروح: لماذا رفضت السلطة تسلم شحنة المساعدات؟ يستلزم العودة لخلفية التوتر في العلاقة بين الإمارات والسلطة الفلسطينية منذ أن فصل رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس القيادي في حركة فتح محمد دحلان ولجأ الأخير إلى أبوظبي. وقد رفض عباس مراراً وساطات إماراتية لحل الخلاف مع دحلان.
المُفارقة أن محمود عباس كانت علاقته ممتازة مع الإمارات لدرجة أن الأخيرة كانت من الدول التي دعمته بقوة لخلافة الرئيس الراحل ياسر عرفات. وكانت الإمارات ثاني أكبر داعم
عربي بعد السعودية للسلطة الفلسطينية منذ نشوئها، وكانت تدفع ما يزيد على 52 مليون دولار سنوياً، لكنها توقفت عن ذلك منذ أكثر من 8 سنوات في أعقاب الخلاف، ثم تحول الدعم إلى محمد دحلان ولتعزيز قاعدته السياسية في الأراضي والمخيمات الفلسطينية.
مخاوف من عودة دحلان
ومن هنا، فإن قيادة السلطة في هذه الأثناء تخوض صراعاً عمقه الخشية على "شرعيتها" وديمومة تمثيلها للشعب الفلسطيني. وهذا يعني وفق ما يقول مصدر فلسطيني مُقرب من محمد دحلان لـ"عربي بوست"، أن رفض السلطة للمساعدات الإماراتية ليس بسبب التطبيع "لأنها هي من تقوم بالتطبيع وتقبل من أي جهة كانت المساعدات عن طريق إسرائيل ما دامت تنسق معها".
بل إن مخاوف السلطة نابعة من كونها تعتقد أن المساعدات الإماراتية تصب في صالح الخصم محمد دحلان بعدما بدأت أبوظبي تخفف من دوره الإقليمي لا سيما ليبيا وغيرها في الفترة الأخيرة، وأخذت تفكر بإبرازه في المشهد الفلسطيني مجدداً.. وهذا ما يخيف السلطة في خضم المعركة "الخفية" لخلافة عباس في حال رحل الأخير في أي لحظة بحكم عمره ووضعه الصحي.
تمهيد لعلانية التطبيع
وتحدث مصدر في أراضي 48 لـ"عربي بوست" نقلاً عن جهة إسرائيلية مطلعة عن أن طائرتي المساعدات القادمتين من أبو ظبي، قُصد منهما أن تتحول علاقة التطبيع من سرية إلى مكشوفة؛ ذلك أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تضغط بشدة لتحول تطبيع العلاقات مع اسرائيل من السر إلى العلن ارتباطاً بـ"صفقة القرن".
ويُرجح المصدر أنه في غضون أسابيع ستتحول علاقة الإمارات بإسرائيل إلى علنية. وربما هذا دافع آخر جعل السلطة متوجسة من المساعدات الإماراتية، من منطلق أنها تندرج في سياق ترتيبات جديدة تهدف للانخراط في فرض الحل السياسي الأمريكي.