ما إن هدأت المعارك نسبياً في جنوب مدينة طرابلس وتحررت مدينة ترهونة من ميليشيات حفتر المدعومة بالمرتزقة، حتى تكشفت جرائم ميليشيات اللواء المتقاعد بالمناطق التي كانت تسيطر عليها، الأمر الذي جعل هيئة الكشف عن المفقودين والجثث تواجه مهمة صعبة في البحث عن المقابر الجماعية والجثث والتي قُدرت بالمئات.
فقد كشف مصدر تابع لقوة حماية ترهونة بالجيش الليبي في حكومة الوفاق المعترف بها دولياً، لـ"عربي بوست"، أن أغلب الجثث التي وُجدت في مدينة ترهونة تعود لمدنيين خُطفوا من منازلهم على الهوية من مناطق الاشتباكات بجنوب العاصمة طرابلس عندما دخلت ميليشيات الكاني مدعومةً بقوات اللواء التاسع التابع لخليفة حفتر، تلك المناطق.
ما هوية القتلى
وأكد المصدر أن ميليشيا الكاني -إحدى عائلات ترهونة الموالية لحفترـ قامت بعمليات خطف وتصفية على الهوية لكل من هو من مدن الزاوية، وسوق الجمعة، وطرابلس ومصراته، إضافة إلى مدنيين تم خطفهم في استيقافات وهمية قامت بها ميليشيات الكاني في بعض الطرق التي تؤدي إلى مدينة ترهونة، موضحاً أن من بين المختطفين الذين تمت تصفيتهم سائقي سيارات نقل بضائع لا علاقة لهم بالحرب.
وتابع المصدر أن ميليشيا الكاني خطفت رجلاً يدعى نصر الدين النعاجي ودفنته حياً وقتلت 3 من إخوته، بسبب انتساب شقيقهم إلى عملية "بركان الغضب" التي أطلقها الجيش الليبي التابع لحكومة الوفاق لتحرير مدن غرب ليبيا من ميليشيات حفتر، مضيفاً أن أكثر من 800 جثة، وُجد بعضها في مستشفى ترهونة، تعود لمقاتلين تابعين لحفتر من المنطقة الشرقية والمناطق المجاورة لترهونة، قُتلوا منذ مايو/أيار الماضي حتى تحرير المدينة.
ميليشيات الكاني
وأضاف المصدر أن المسؤول المباشر عن الإعدامات في ترهونة هما الأخوان محسن الكاني الذي قُتل رفقة العقيد عبدالوهاب المقري، والآخر عبدالعظيم الكاني، في عملية استهداف مباشر بصاروخ موجَّه أطلقته قوة الردع الخاصة بحكومة الوفاق، أما ثالثهم فعبدالرحيم الكاني الذي اشتهر بالتصفيات منذ عام 2013.
وأوضح المصدر أن ميليشيات حفتر قامت بتصفية كل الأسرى المدنيين الذين اختُطفوا ووضعوا في حاويات عثر عليها الجيش الليبي التابع لحكومة الوفاق بعد انسحابهم من ترهونة.
وأشار إلى أن ميليشيا الكاني أعدمت أكثر من 70 مدنياً بينهم نساء وأطفال من عائلة النعاجي، ودمرت حي النعاعجة في مدينة ترهونة بالدبابات، على خلفية محاولة الكاني فرض سيطرته على المدينة، مؤكداً أن العدد الكبير للجثث في ترهونة يعود لضحايا منذ عام 2013.
جثث مفخخة لم تُنتشل
من جهته، صرح رئيس الهيئة العامة للبحث والتعرف على المفقودين، الدكتور كمال أبوبكر، في مؤتمر صحفي، بأن الهيئة تلقت عديداً من البلاغات من الجهات الأمنية والمواطنين تفيد بوجود أعداد كبيرة من الجثث والأشلاء ملقاة بين المساكن داخل المساكن، إضافة الى مقابر جماعية في المزارع والأرياف بمناطق جنوب طرابلس.
وتابع أبوبكر أنه حتى الآن وخلال الأيام الثلاثة الماضية، تم انتشال أكثر من 15 جثة وعدد من الأشلاء في بعض مناطق جنوب طرابلس مثل عين زارة وصلاح الدين والمشروع وسوق الأحد.
وأضاف أن الهيئة تلقت بلاغات عن وجود أكثر من 100 جثة في المناطق ذاتها، لكنَّ فرق العمل تواجه صعوبة في انتشالها، بسبب كثرة وجود الألغام والمفخخات التي وُجدت حتى داخل بعض الجثث في هذه المناطق.
وأكد أبوبكر أن الهيئة تلقت بلاغات من مدينة ترهونة تفيد بوجود بعض المقابر الجماعية وجثث أخرى موجودة بمكبات القمامة، وأخرى موجودة داخل حاويات بمزارع وأرياف المدينة.
جثث متحللة في ترهونة
نشر حساب "عملية بركان الغضب" التابعة لحكومة الوفاق على تويتر، صوراً لعمليات انتشال 5 جثث متحللة من بئر على عمق نحو 45 متراً بمنطقة العواتة الواقعة بين ترهونة وسوق الخميس.
وتكررت مثل هذه الحوادث في الأيام الماضية، فقد عُثر أخيراً على عدد من الجثث الملقاة داخل آبار للمياه، أو مقابر جماعية في مناطق كانت تحت سيطرة ميليشيات خليفة حفتر في الغرب الليبي، مضيفاً أنه تم العثور على مقبرة جماعية في منطقة المصابحة بمنطقة سوق الخميس (جنوب غربي مدينة طرابلس) التي كانت تحت سيطرة ميليشيات حفتر، وُجدت فيها قبور لخمسة أشخاص لم يتم التعرف على هويتهم.
كما كشف في وقت سابق، المستشار الإعلامي بوزارة الصحة في حكومة الوفاق أمين الهاشمي، عثور قوات حماية ترهونة على مقبرة جماعية في مدينة ترهونة غربي ليبيا، يرجح أنها تعود لمواطنين تم اختطافهم وتصفيتهم سابقاً من قبل ميليشيات خليفة حفتر.
وأكد مركز الطب الميداني والدعم التابع لوزارة الصحة بحكومة الوفاق، نقل 50 جثة وُجدت في مستشفى ترهونة العام، ظلت بثلاجة الموتى فترة تجاوزت 5 أشهر، إلى مركز طرابلس الطبي؛ للتعرف على هويتها، مشيراً إلى أن فريق البحث عن المفقودين والجثث قد عثر على أكثر من 100 جثة داخل مستشفى ترهونة العام.
الإحراق ودفن الأحياء
كما كشف وزير الداخلية المفوض بحكومة الوفاق، فتحي باشاغا، في تصريح صحفي، عن تقارير مبدئية أثبتت أن عشرات من الضحايا دُفنوا وهم أحياء، ثم عثروا عليهم في عدد من المقابر الجماعية، مضيفاً أنه تم العثور على حاوية أُحْرِق جميع من فيها من معتقلين.
وأكد باشاغا أنه ستتم محاسبة هذه الميليشيات على جرائمها البشعة، وأيضاً يجب تقديم القادة السياسيين والعسكريين الذين وفروا لهذه الميليشيات غطاء، إلى العدالة.
كما عثرت الهيئة العامة للبحث والتعرف على المفقودين والهلال الأحمر الليبي بمصراته، على مقبرة جماعية أخرى عُثر عليها في ترهونة، تبين خلال انتشال الجثث منها أنها قتلت مكبَّلة اليدين، كما عثر على جثة لطفلة عمرها 12 سنة، مكبلة اليدين ضمن الجثث.
عمليات إعدام جماعية
قال المحلل السياسي والمستشار السابق لمجلس الدولة، أشرف الشح، لـ"عربي بوست": "بعد تحرير مدينة ترهونة تم اكتشاف اعديد من المقابر الجماعية التي ما زالت تُكتشف حتى اليوم، أغلب الجثث فيها كانت مقيدة اليدين ومعصوبة الأعين وتمت تصفيتها بأعيرة نارية في الرأس، مما يثبت أنها كانت عمليات إعدام جماعية لكل من يشتبه في معارضته للعدوان على طرابلس".
وأكد الشح أن هذا الأسلوب تتبعه كل العصابات الإجرامية في عدة مناطق بالعالم خلال العقود والقرون الماضية، موضحاً أن الغاية من هذا الأسلوب هو قطع دابر كل صوت معارض قد يشكل تهديداً محتملاً لهذه العصابات في اعتدائها على العاصمة، ويعتبر هذا الأسلوب جريمة دولية يعاقب عليها القانون الدولي.
وطالب الشح الجهات الرسمية في حكومة الوفاق باتخاذ كافة الإجراءات القانونية في ملاحقة مرتكبي هذه الجرائم وعدم منحهم فرصة الإفلات من العقاب، برفع دعاوى محلية ودولية ضد هؤلاء المجرمين وكل من يقف وراءهم، وقطع الطريق أمام كل من يحاول تغطية هذه الجرائم وراء الحلول السياسية.
ووصف الشح هذه الحرب بالشعواء، وأن لها تأثيراً سلبياً جداً على النسيج الاجتماعي يصعب تداركه خلال فترة قصيرة، موضحاً أن هذا التأثير سيمتد مع اكتشاف مزيد من الجرائم والمقابر، مطالباً الحكومة والقيادات الاجتماعية بالضغط في اتجاه محاسبة كل المجرمين المباشرين عن هذه الجرائم أو من يدعمهم؛ كي لا تمتد بشكل أعمق وتزيد من حجم الشرخ الموجود الآن.
حفتر مرّ من هنا
من جهته أكد العميد طيار عادل عبدالكافي لـ"عربي بوست"، أن ميليشيات حفتر ومرتزقته تعتمد سياسة الأرض المحروقة والإرهاب والتصفية الجسدية، واستشهد قائلاً: "شاهدناهم يقصفون المواقع المدنية والآهلة بالسكان، واستهداف النساء والأطفال، كما اعتمدوا اعتماداً كاملاً على تصفية خصومهم ورميهم في الشوارع؛ لإرهاب كل من يعترض على أفعالهم".
وأضاف: "فقد طبّقوا هذه السيناريوهات في مدينة بنغازي ودرنة سابقاً، وارتكبوا الإعدامات العلنية التي يقوم بها المطلوب للجنائية الدولية محمود الورفلي وكتائب الإعدام التي شكَّلها حفتر لتصفية خصومه، واستمر هذا النهج أيضاً مع عصابة الكاني مع الميليشيات العقائدية كما فعلوه في ترهونة من قتل وإعدامات وتنكيل بالمدنيين وإلقائهم في مقابر جماعية كمنهج داعش"، على حد وصفه.
واعتبر عبدالكافي أن هذه الجرائم الإرهابية مدمرة للنسيج الاجتماعي والسلم الأهلي، خصوصاً في خارطة قبلية ومناطقية كالوضع في ليبيا، وقال: "الواقع يحتاج إلى جهد كبير لرأب الصدع بعد أن يأخذ القانون مجراه حتى تترسخ دولة القانون، فخارطة الدم التي سعى حفتر إلى تطبيقها في حربه ستحتاج إلى كثير من المعالجات القانونية والاجتماعية".