لا تزال الأوضاع في منطقة شرق المتوسط تزداد سخونة بشكل متسارع، فبجانب الأزمات والصراعات العسكرية في كل من سوريا وليبيا مثلت احتياطات الغاز الضخمة المكتشفة في المياه العميقة بالمتوسط بعداً آخر ساهم في زيادة التوتر في المنطقة وتحويلها لواحدة من أكثر المناطق غير المستقرة جيوسياسياً في العالم. وانعكست الآثار المترتبة عن اكتشافات الغاز على تجدد الصراعات الإقليمية الموجودة في المنطقة وظهور تحالفات وصراعات جديدة، وكانت القضية الأبرز التي ارتكزت عليها تلك الصراعات والتحالفات هي ترسيم الحدود البحرية وتحديد المناطق الاقتصادية الخالصة EEZ بين دول المنطقة.
نحاول في هذا التقرير أن نلقي الضوء على اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين اليونان وإيطاليا، الذي تم الإعلان عنه الثلاثاء 9 يونيو/حزيران 2020، ونحاول كذلك أن نصل إلى إجابات لبعض الأسئلة الهامة التي تتعلق بالأوضاع في شرق المتوسط، وفي مقدمتها سؤال رئيسي حول الآثار المترتبة لتلك الاتفاقية على مصر.
ماذا تعني المناطق الاقتصادية الخالصة EEZ؟
لم يعرف العالم مصطلح المناطق الاقتصادية الخالصة "EEZ" إلا بعد ظهور اكتشافات للنفط والغاز في المياه العميقة بالبحار والمحيطات، التي تتخطى المياه الإقليمية للدول الساحلية، إذ تمت صياغة اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار في عام 1982 (LOS Convention) بهدف وضع ضوابط لتقسيم مساحات هذه المياه، وسميت تلك المساحات بالمناطق الاقتصادية الخالصة – Exclusive Economic Zones (EEZ) وتم تحديد هذه المناطق بـ200 ميل طولي من سواحل الدول، ويكون للدولة داخل المناطق الاقتصادية الخالصة التابعة لها حق استغلال الثروات والتنقيب والاستكشاف عن النفط والغاز، وتختلف هذه المناطق الاقتصادية الخالصة عن المياه الإقليمية، حيث لا يحق للدولة في المناطق الخالصة التابعة لها أن تتحكم في الملاحة البحرية وعليها أن توفر حرية وسلامة الملاحة الدولية.
ما قصة اتفاقية قانون البحار؟ ولماذا ترفض تركيا الانضمام إليها؟
انضمت العديد من الدول إلى اتفاقية قانون البحار، ولكن في الوقت نفسه كانت هناك دول أخرى لم تنضم للاتفاقية على رأسها الولايات المتحدة وتركيا بالإضافة إلى إسرائيل وفنزويلا، وتختلف أسباب ودوافع تلك الدول في رفضها للانضمام للاتفاقية. ويرجع السبب الرئيسي لرفض تركيا الانضمام لهذه الاتفاقية إلى أن القانون يعطي الحق في مناطق اقتصادية خالصة للجزر البحرية بغضّ النظر عن حجمها ووضعها الجغرافي وقربها وبُعدها عن الدول التابعة لها، وهذا يعني أن الجزر البحرية التي تقع بين تركيا واليونان ستؤدي وفقاً لقانون البحار إلى حصول اليونان على مساحات كبيرة من المناطق الاقتصادية الخالصة على حساب تركيا، وهو الأمر الذي ترفضه أنقرة وترى أنه سيكون سبب في تأجيج الصراع بين الجانبين.
تاريخ ترسيم الحدود في منطقة شرق المتوسط
في حال إذا كانت هناك مجموعة من الدول الساحلية المتقابلة في مياه محدودة، كما هو الحال في شرق المتوسط، يتم تحديد المناطق الاقتصادية الخالصة من خلال البلدين المتقابلين أصحاب أقصر مسافة بين سواحلهما، ويكون لهما الحق في امتلاك المناطق الاقتصادية الخالصة مناصفة بينهما (على أساس خط المنتصف)، وهنا يمكن فهم حجم التعقيدات والصعوبات المتعلقة بعملية ترسيم الحدود البحرية في حوض بحري ضيق يوجد به أكثر من دولة مثل حوض شرق المتوسط. بسبب صعوبة تحديد المناطق الاقتصادية الخالصة وبسبب الأزمات الإقليمية الموجودة في المنطقة التي لم تعرف سوى عدد محدود من اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية، وأبرزها اتفاقية بين مصر وقبرص في 2003، واتفاقية بين لبنان وقبرص في 2007، واتفاقية بين إسرائيل وقبرص في 2010.
بعد مرور عقد كامل لم تشهد فيه منطقة شرق المتوسط توقيع اتفاقيات لترسيم الحدود البحرية بين أي من دول المنطقة قامت تركيا وحكومة الوفاق الليبية المعترف بها دولياً في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 بتوقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية، وبعد عدة أشهر من الاتفاقية قامت اليونان وإيطاليا في مطلع يونيو/حزيران 2020 بتوقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بينهما، ووفقاً للاتفاقية الأخيرة تم تحديد المناطق الاقتصادية الخالصة EEZ بين البلدين في مياه البحر الأيوني (Ionian Sea) وهو امتداد للبحر المتوسط بين الدولتين. ويستند الترسيم إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (خريطة رقم 1)، ويجب الإشارة هنا إلى أن المناطق الاقتصادية الخالصة بين اليونان وإيطاليا ظلت مسار تفاوض طويل لعدة عقود حتى بعد توقيع اتفاقية "الجرف القاري" بين البلدين عام 1977، وكان التحفظ الرئيسي لإيطاليا لإتمام الاتفاق على المناطق الاقتصادية الخالصة يتعلق بحقوق الصيد في البحر الأيوني.
أثر الاتفاقية على تركيا وصراعها مع اليونان
كثر الحديث عن تأثر تركيا بالاتفاق اليوناني الإيطالي، لكن وفقاً لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين اليونان وإيطاليا فإن المناطق الاقتصادية الخالصة المتفق عليها بين البلدين لا علاقة لها بالمنطقة التي رسمتها تركيا وليبيا في الاتفاقية التي وُقّعت بينهما العام الماضي، لكنها تقدماً دعماً دبلوماسياً لليونان في معركتها مع تركيا بشأن ترسيم الحدود البحرية بينهم، حيث إن الاتفاقية اليونانية الإيطالية موقعة وفقاً لقانون البحار، وبالتالي ضمنياً تعني الاتفاقية اعتراف الطرفين بحقوق الجزر اليونانية في حدودها البحرية. هنا يمكن أن نفهم سبب الانزعاج التركي حيث إن الحدود البحرية للجزر هي مسار الخلاف الرئيسي بين أنقرة وأثينا، وترى تركيا أن احتساب المناطق الاقتصادية الخالصة لليونان اعتماداً على مبدأ الجزر التي سيكون من ضمنها مجموعة جزر "كاستيلوريزو" و"رو" و"ستروجيلي" – وهي جزر يونانية لا يفصل بينها وبين السواحل التركية سوى عدة أميال فقط ولها بُعد تاريخي حيث إنها كانت تابعة للخلافة العثمانية قبل أن تصبح تحت السيادة اليونانية بعد نهاية الحرب العالمية الأولى- وهذا سيتسبب في إهدار مساحات واسعة من حق تركيا في المناطق الاقتصادية الخالصة (خريطة رقم 2).
(خريطة رقم 2)
وبالتالي إجمالاً الاتفاقية اليونانية الإيطالية ربما تهدد الاتفاق التركي الليبي، حيث توفر أدوات قانونية ودبلوماسية لليونان في مسار خلافها مع تركيا على ترسيم الحدود البحرية والاعتماد على مبدأ الجزر في تحديد المناطق الاقتصادية الخالصة بينهم، لكن في نفس الوقت من الصعب التعويل على الأدوات القانونية والدبلوماسية في ظل منطقة غير مستقرة جيوسياسياً وتعتمد الأوضاع فيها على نفوذ القوى الإقليمية الموجودة في شرق المتوسط وتوازن القوة بين تلك الأطراف.
أثر الاتفاقية على مصر
تعد مصر طرفاً هاماً في التوتر السياسي الحاصل الآن في الشرق الأوسط؛ نظراً للأوضاع الملتهبة في ليبيا لاسيما أن القاهرة تقف على الطرف الآخر مقابل أنقرة في الموقف السياسي، ومن ثم قد تسعى مصر إلى إلحاق الضرر بتركيا نكاية فيها بسبب الخلاف السياسي الحاصل بينهما منذ 2013.
ومن هذه الزاوية يمكن فهم الاتفاق اليوناني الإيطالي في سياق أن النزاع القائم بين اليونان وتركيا على ترسيم الحدود البحرية سينعكس بشكل مباشر على مصالح الدول الأخرى في الإقليم، وهذا يدفعنا إلى محاولة الوصول إلى إجابة حول تأثير ترسيم الحدود البحرية بين اليونان وإيطاليا على مصالح مصر في شرق المتوسط، بمعنى آخر محاولة لتقييم الاتفاقية اليونانية الإيطالية من زاوية المصالح المصرية.
قبل أن نصل إلى إجابة للسؤال المطروح يجب أن نشير إلى بعض الحقائق التي يجب الوقوف عندها حتى تتبين لنا صورة الحدود البحرية لمصر في شرق المتوسط بشكل دقيق، لم تقم مصر بترسيم الحدود البحرية إلا مع قبرص من خلال اتفاقية وُقّعت عام 2003 وتم تطويرها بين الجانبين بالتوقيع على ما يُعرف بالاتفاقية الإطارية لتقاسم مكامن الهيدروكربون أواخر 2013، في حين لم تقم مصر بترسيم حدودها البحرية مع إسرائيل لأسباب سياسية من السهل تفهمها، وأيضاً لم تقم مصر بترسيم حدودها البحرية مع اليونان.
هل مصر مستفيدة من توقيع الاتفاق بين تركيا وحكومة الوفاق؟
ستكون الإجابة عن هذا التساؤل: بالطبع نعم، فقد وضعت اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا خريطة جديدة لشرق المتوسط (خريطة رقم 3) تتحقق فيها مصالح مباشرة لمصر من أكثر زاوية:
أولاً: هناك نية جادة لإسرائيل وقبرص واليونان واهتمام من الاتحاد الأوروبي بإنشاء خط غاز (East Med) في المياه العميقة للبحر المتوسط والذي سينقل الغاز من إسرائيل وقبرص إلى اليونان ومنه إلى أوروبا ليصبح أحد البدائل التي تسعى إليها أوروبا في محاولة لتقليل اعتمادها على الغاز الروسي الذي يسيطر على أكثر من ثلث السوق الأوروبية. وخلاصة الحديث عن خط East Med أنه باختصار إذا دخل حيز التنفيذ فسيعني خسارة مصر دورها المستقبلي كمنصة إقليمية لتصدير الغاز الطبيعي في شرق المتوسط، ومن هنا نستطيع أن نفهم بسهولة أنه ليس من مصلحة مصر بأي حال من الأحوال إنشاء وإنجاز خط East Med، ويترتب على ذلك أن أي ترسيم حدود بحرية يقطع الطريق على الخط ويعيق إنشاء هذا المشروع فهو يتماشى بشكل مباشر مع المصلحة المصرية ويمنع مصر من تحقيق حلمها بأن تصبح المنصة الرئيسية في شرق المتوسط لنقل وتصدير الغاز المسال إلى أوروبا. وبالتالي تمثل الاتفاقية التركية الليبية مصلحة لمصر في وقف ومنع إنشاء خط East Med (خريطة رقم 4).
ثانياً: لم تقم مصر بترسيم حدودها البحرية مع اليونان حتى هذه اللحظة، وكانت اليونان قد سعت في عهد مبارك لترسيم حدودها البحرية مع مصر وفقاً للرؤية اليونانية، لكن القاهرة لم توافق مطلقاً وظل الأمر معلقاً بسبب إدراك مصر أن طريقة ترسيم أثينا للاتفاقية ستكون نتيجتها خسارة مصر المناطق الاقتصادية الخالصة الخاصة بها، وهو ما يعني خسائر احتياطات غاز محتملة في هذه المياه يمكن أن توفر مكاسب اقتصادية هائلة لمصر، بالإضافة إلى مزيد من الأهمية الجيوسياسية في شرق المتوسط. وبالتالي مثلت الاتفاقية التركية الليبية مصلحة لمصر في عدم خسارتها مساحات كبيرة من المناطق الاقتصادية الخاصة.
رغم المصالح المصرية المباشرة المتحققة من الاتفاق التركي الليبي فإن مصر رفضت الاتفاق واعترضت عليه، وهو أمر متفهم من زاوية التحالف الذي تقيمه مصر مع كل من إسرائيل واليونان وقبرص، وهو ما يلزمها برفض الاتفاقية بشكل معلن، ولأنه ليس لديها خيار آخر في التخلي عن ذلك التحالف أو اتخاذ موقف مخالف لمصالح دوله في ظل أوضاعها السياسية المضطربة مع تركيا وعدم رغبة مصر في استمرار تمدد النفوذ التركي في شرق المتوسط. هنا يمكن أن نصل إلى خلاصة مختصرة وهي أن الاتفاق التركي الليبي يتطابق مع المصالح المصرية بغض النظر عن الموقف السياسي المعلن من مصر تجاه الاتفاقية.
إجمالاً، من ناحية المصلحة المصرية لا يقدم الاتفاق بين اليونان وإيطاليا أي مصلحة تذكر لمصر غير أنه يمكن أن يمثل تهديداً لمصر في حال إذا تم استخدام هذا الاتفاق في إنهاء أو إلغاء الاتفاق التركي الليبي، وهو ما يعني خسارة مصر مساحات من المياه الاقتصادية الخالصة وما تحويه من احتياطات غاز محتملة، مع وجود تهديد محتمل بخسارة مصر موقعها كمنصة إقليمية لتصدير الغاز بسبب إنشاء خط East Med.
أثر الاتفاقية على منطقة شرق المتوسط
على عكس الحال بالنسبة لمصر فإن الاتفاق اليوناني الإيطالي يعطي أملاً لكل من إسرائيل وقبرص في استكمال خطواتهما الجادة في بناء خط غاز East Med ليتمكّنا من تصدير فائض الغاز لديهما إلى السوق الأوروبية، وفي نفس الوقت تمثل الاتفاقية ضغطاً سياسياً على تركيا ترحب به كل من إسرائيل وقبرص في ظل العلاقات الباردة بين تركيا وإسرائيل وفي ظل التوتر الدائم بين تركيا وقبرص.
من ناحية أخرى يظل موقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي داعماً للتحالفات في شرق المتوسط التي تمهد الطريق إلى تصدير الغاز إلى السوق الأوروبية، وبالتالي سيحظى الاتفاق اليوناني الإيطالي بدعم وموافقة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وعلى العكس من الموقف الأمريكي والأوروبي ستظل روسيا تفضل دائماً استمرار نفوذها داخل أوروبا من خلال صادراتها الضخمة من الغاز الطبيعي، وهو ما يعني تعارض مصالحها مع أي جهود لإنشاء بنية تحتية تنقل الغاز من شرق المتوسط إلى أوروبا.
يبدو أن الأوضاع غير المستقرة في شرق المتوسط وزيادة التوتر بين دول الإقليم سيكون نتاجها أن التحالفات والصراعات داخل المنطقة ستظل دائماً في حالة سائلة تسمح بانتقال طرف من معسكر إلى آخر انتقالاً غير معلن، وفق ما يحقق مصالحه ووفق القاعدة السياسية "لا يوجد أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون ولكن توجد مصالح دائمة".