يمكن للمرء أن يخلص إلى أنّ واشنطن تفتقر إلى أساليب إيقاف صفقة الشراء التركية لأنظمة الدفاع الجوي الروسية إس-400. وفي حال سارت دولٌ أخرى حليفة وصديقة في الشرق الأوسط على المنوال نفسه، فسيتضح بجلاءٍ أن الولايات المتحدة لم تعد القوة المُهيمنة في المنطقة، كما تقول مجلة The National Interest الأمريكية. ويبدو أن السؤال الذي يشغل بال الساسة الأمريكيين الآن هو كيف ستتم الاستجابة لهذا التغيير الهيكلي في مكانة الولايات المتحدة بمنطقة الشرق الأوسط.
تحدي السياسة الأمريكية في المنطقة
يكشف القرار الحازم من تركيا وقطر بشراء أنظمة الدفاع الجوي الروسية إس-400، مرةً أخرى، عن حجم التحدّي المتزايد الذي تُلاقيه السياسة الخارجية الأمريكية داخل الشرق الأوسط. ولا يتعلّق الأمر بمواصلة واشنطن وجودها المُهيمن في المنطقة، بل بما إذا كانت الولايات المتحدة قادرةً على تحقيق أهدافها الاستراتيجية وسط بيئة الشرق الأوسط المليئة بالتحدّيات.
وخلال العقود الأخيرة، كان بمقدور المرء أن يستمع لمناظرةٍ شديدة الوضوح حول مستقبل سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وبرزت بشدةٍ الحجة القائلة إن واشنطن يجب أن تتوقّف عن دورها في المنطقة المضطربة وتنسحب "لحماية الأرواح والأموال الأمريكية"، خاصةً في أعقاب ازدهار أسعار النفط الصخري والغاز الطبيعي داخل الولايات المتحدة إبان الفوضى المستمرة بالشرق الأوسط.
ورغم ذلك، من الواضح أن الشرق الأوسط شديد الأهمية بالنسبة لأمن الولايات المتحدة بدرجةٍ تمنع الأمريكيين من الرحيل كما يرى المسؤولون الأمريكيون. وخير مثالٍ على ذلك هو تأثير أسواق النفط العالمية على أسعار الغاز المحلية في الولايات المتحدة. ويتعيّن على الولايات المتحدة أن تُعيد ضبط سياستها في المنطقة، حيث لم تعُد للأدوات الموثوقة تاريخياً أيّ فاعلية، بحسب "ناشيونال إنترست".
المنافسة الروسية الشديدة
ولا شك في أن الاهتمام الإقليمي بمنظومة الدفاع الجوي الروسية إس-400 خير دليل على ذلك. ففي الخامس من مارس/آذار، أكّدت وزارة الخارجية مرةً أخرى، تحذير واشنطن لتركيا من أنّ "استحواذها المُحتمل على أنظمة إس-400 سيُسفر عن إعادة النظر في مشاركة تركيا ببرنامج مقاتلات إف-35، ويُعرّض مشتريات تركيا من هذا السلاح مستقبلاً للخطر". لكن التحذيرات المستمرة لم تنجح في تغيير موقف أنقرة من شراء منظومة إس-400. كما أكّد وزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، أن بلاده ما تزال تدرس شراء منظومة الدفاع الجوي الصاروخي الروسية إس-400، مما يعني أنّ اثنين من أكبر حلفاء الولايات المتحدة بالمنطقة يرغبان في شراء نظامٍ صاروخي من منافس الولايات المتحدة الجيوسياسي.
ومن الواضح أنّ هذه التطوّرات تُؤكّد الجودة العالية لمنتجات صناعة الدفاع الروسية. فرغم كل التصريحات حول كون روسيا مجرد "محطة غاز طبيعي"؛ فإنّها ما تزال رائدةً عالمية في القطاع الدفاعي عالي التقنية، وتقف على قدم المساواة مع الولايات المتحدة بهذا الصدد. ولا شكّ في أن التصوّرات التي تُبالغ في تبسيط قدرات روسيا لن تُساعد السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط أو أيّ مكانٍ آخر.
ومن المفارقات أنّ ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، حليف ترامب الكبير في المنطقة، أدرج صناعة الدفاع السعودية في برنامجه الطموح لتحديث المملكة بهدف تنويع اقتصادها. وأثنت وسائل الإعلام الأمريكية من قبل بشدة على هذا البرنامج. لكن روسيا ليست بحاجةٍ إلى برنامجٍ مماثل،
لأنّ صناعة الدفاع الخاصة بموسكو تُعَدُّ أحد أعمدة الاقتصاد الروسي الرئيسية. ومن الواضح أنّ الاهتمام المتزايد بالأسلحة الروسية في الشرق الأوسط يُمكن أن يُسفر عن خسائر في الصادرات الدفاعية الأمريكية.
المشهد في المنطقة أصبح أكثر تعقيداً بالنسبة لواشنطن
بالعودة إلى الانقسامات الجيوسياسية في شؤون الشرق الأوسط، نلحظ أنّ واشنطن باتت تبحث ترقية ترسانتها السياسية في المنطقة بغض النظر عن نقاط قوة موسكو. ونعود هنا من جديد إلى مثال شراء تركيا لمنظومة إس-400. وخبراء الدبلوماسية في القرن الماضي على دراية بممارسة التحذيرات المستمرة التي كانت بكين تُوجّهها إلى الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة ولم تكُن لها عواقب وخيمة على أي من القوتين العظميين.
إذ لم تُولِ موسكو وواشنطن اهتماماً كبيراً للتحذيرات الصينية. وتُخاطر واشنطن بتكرار الروتين الصيني العقيم إبان محاولتها الطلب من الحلفاء عدم شراء أنظمة إس-400. ومما لا شكّ فيه أنّ الولايات المتحدة قادرةٌ على الضغط على أنقرة بغرض إجبار تركيا على إلغاء الصفقة. ولكن في هذه الحالة ستدخل الولايات المتحدة في مواجهةٍ كاملة مع أحد حلفاء منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، في حين أنّ التعاون مع تركيا ضروريٌّ من أجل التصدّي لسلسلةٍ من القضايا المُهمة بدءاً من مستقبل سوريا، وصادرات الطاقة الروسية إلى أوروبا، ووصولاً إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية، وانتهاءً بالطموحات النووية والصاروخية الإيرانية.
علاوةً على أنّ الوضع يزداد تعقيداً. إذ إنّ كافة بلدان الشرق الأوسط تُعَد من حلفاء الولايات المتحدة رسمياً، باستثناء إيران وسوريا. ورغم ذلك، لا يعني هذا دائماً تحسين قدرة أمريكا على تحقيق أهدافها. إذ إنّ الأطراف الإقليمية نفسها تُواجه ضغوطاً من أجل تحقيق أجندات السياسة الخارجية خاصتها في مواجهة خُطط جيرانها. وخلال المؤتمر الصحفي نفسه في الرابع من مارس/آذار عام 2019، أكّد وزير الخارجية القطري أنّ بلاده تدرس الصفقة مع روسيا رغم رد الفعل السعودي المُحتمل، وأوضح أنّ "الأمر ليس من شأنهم". ومن ثم ذكّر الجميع بأنّ دولة صغيرة بحجم قطر قادرةٌ على تحمُّل الضغط السعودي المدعوم من بعض دول العالم العربي.
أمريكا فقدت أدواتها، وأي ضغوطات على الحلفاء ستكون تداعياتها كبيرة
ولا عجب في أن السعودية نفسها أبدت اهتمامها بمنظومة الدفاع الجوي الروسية، خاصةً بعد أنّ حصلت المنظومة على إشادة الخبراء. وهذه التطوّرات تعني أن دولتين خليجيتين من حلفاء الولايات المتحدة، والمُهمتين لخُططها الأمنية والعسكرية، تدرسان شراء أسلحة روسية في أثناء التنافس فيما بينهما. ومن الصعب أن نُحدّد مكاناً ليبدأ منه صُنّاع السياسة الخارجية الأمريكية في البحث عن حلٍّ للأحجية.
فضلاً عن أنّ احتمالية فرض الولايات المتحدة عقوبات، بوصفها أداةً لإقناع الرئيس أردوغان بتغيير رأيه حول التعامل مع روسيا، ستجلب سلسلةً جديدة من المتاعب. وبعد قرار ترامب، العام الماضي، الانسحاب من صفقة إيران، لم يعُد العالم بحاجةٍ إلى تذكيرٍ آخر بأن واشنطن جاهزةٌ لاستغلال سلطتها الاقتصادية في تحقيق أهداف سياستها الخارجية بأساليب قسرية.
وضغط الولايات المتحدة على تركيا هنا ربما يُعزّز المطالبات الروسية بوضع آليات دولية لمواجهة قدرات فرض العقوبات الأمريكية. وفي حال بدء هذا النوع من التعاون الدولي ضد أدوات السياسة الخارجية الاقتصادية الأمريكية؛ فإنّ تداعياته ستتجاوز الشرق الأوسط والعلاقات الأمريكية-الروسية.
واختصاراً، يُمكن أن يخلص المرء في اللحظة الحالية إلى أن واشنطن تفتقر إلى وسائل لإيقاف صفقة الشراء التركية لأنظمة الدفاع الجوي الروسية إس-400. وفي حال سارت دولٌ أخرى في الشرق الأوسط على المنوال نفسه، فسيتضح بجلاءٍ أن الولايات المتحدة ليست القوة المُهيمنة في المنطقة.