ألقت أحداث بيروت، السبت الماضي، بظلالها على إعادة ترتيب المشهد السياسي المتوتر في لبنان، ومَثّلت لحظة مصارحة لجموع اللبنانيين بأن اقتصاد بلادهم كان هشاً وقائماً على ديون الدولة من المصارف، أي من ودائع المواطن اللبناني بالعملة الصعبة.
وما زاد الطين بلّة أن أحداث السبت 6 يونيو/حزيران كشفت أن فريقاً سياسياً يعمل على توتير الأجواء في لبنان وضرب الاستقرار خدمة لمشاريع إقليمية تعبث بالساحة المحلية، وبدا هذا واضحاً من وقوع اشتباك كلامي بين مجموعات سُنية وأخرى شيعية وقعت على منتديات بهاء الحريري الشقيق الأكبر لسعد الحريري، ومجموعات مؤيدة لحزب الله بمنطقة الخندق الغميق الشيعية، وهو ما تطور لاشتباك مسلح امتد حتى فجر الأحد الماضي.
كاد يشتعل لبنان في أتون حرب مذهبية لولا أن أجريت اتصالات بين المعاون السياسي لأمين عام حزب الله الحاج حسين خليل وبين زعيم تيار المستقبل سعد الحريري، التي أكدت متانة عملية ربط النزاع بين الطرفين منذ عام 2016، ما تبلور عنه أيضاً التحضير لعودة الحريري إلى المشهد السياسي الحكومي المباشر، في حين تتوالى الاهتزازات الارتدادية من حول حكومة حسّان دياب، لتزيد من هشاشتها وتشققاتها.
أحداث يوم السبت الماضي امتدت بظلالها لتدفع رئيس "تيار المردة" سليمان فرنجية بمقاطعة جلسة مجلس الوزراء رفضاً للتعيينات التي ستقرها حكومة حسان دياب، والتي قد يمرر من خلالها تعيينات معظمها تصب في مصلحة التيار الوطني الحر.
وبحسب ما يقول فرنجية، فإن هذه التعيينات صورة غير جيدة لمحاصصة المصالح الطائفية والمذهبية والشخصية، معلناً عدم المشاركة في الجلسة، ويضيف: "عُرض علينا أن نكون جزءاً منها فرفضنا انسجاماً مع موقفنا الرافض لتعيينات من دون معيار أو آلية كفاءات، وأن ما يجري قُبيل جلسة الحكومة المزمع عقدها هو محاولة متجددة لنسف طاولة الحكومة، في ظل تحركات الشارع المتصاعدة مع تصاعد الدولار بشكل جنوني".
وحذر فرنجية من وقوع ما سمّاه "كوارث اجتماعية" لن يتحملها فريق باسيل في الحكومة، وقال إن فصيل المقاطعة الذي قد يلحق به وزراء حركة أمل، كان موقف نائب رئيس المجلس النيابي إيلي الفرزلي المحسوب على فريق حزب الله، بضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنية تعيد التوازن وتواجه التحديات والحريري، هو الأفضل لذلك، بحسب الفرزلي.
الحريري في باريس
فيما يقول مصدر مطلع لـ"عربي بوست" إن زعيم تيار المستقبل سعد الحريري يعيش شعوراً بالتعرض للخيانة تلقاه الرجل من أقرب المقربين ومن الذين عمل الحريري على توزيع المناصب عليهم خلال 15عاماً من العمل السياسي.
ويؤكد المصدر ـ رفض ذكر اسمه ـ أنه مطلع على تحركات الحريري، وأنه -قُبيل عودته إلى لبنان- زار باريس للقاء المسؤولين الفرنسيين والمتابعين بشكل مباشر للملف اللبناني، واستمع المسؤولون الفرنسيون لخلاصة ما وصل إليه الحريري بعد تركه لرئاسة الحكومة وتقديم استقالته على وقع تظاهرات ثورة 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وطلبوا منه شرح معوقات عودته لممارسة دور سياسي فاعل في لبنان.
وقال المصدر: "أكد الحريري في حديثه للفرنسيين أنه يصطدم بأزمة مالية لا تتيح له تقديم خدمات للبيئة التي يمثلها، والثانية أنه لا يرغب بالعودة دون ضمانات دعم له في ظل التراجع السعودي عن دعم لبنان وانشغال المملكة بملفات أكثر أهمية للرياض".
ويستطرد قائًلاً: "طلب المسؤولون الفرنسيون من الرجل العودة ومحاولة إجراء اتصالات واسعة مع القوى السياسية التي تصر على وجوده على الساحة وأداء دوره الوطني، ومنهم وليد جنبلاط زعيم الحزب الاشتراكي، ونبيه بري رئيس مجلس النواب السابق ورئيس حركة أمل، ونصحوه بالتريث لحين نضوج شكل المرحلة القادمة بعد أزمة كورونا والانتخابات الأمريكية".
بعد ذلك عاد الحريري إلى بيروت، وبدأ برنامج عمل داخلياً في تياره، والذي ينوي إجراء تغييرات شاملة تطال -بحسب المصدر- مكامن الخلل والتراجع داخل مشروعه السياسي المتراجع، ولا ينفي المصدر أن الحريري يشكو من محاولات استنزافه سياسياً داخل بيئته السُّنية المحبطة من فشله الدائم لصالح تسويات، وتحقق مكاسب للآخرين على حساب السُّنة وعلى حساب حضورهم ووجودهم.
في كواليس المشهد يواجه الحريري أيضاً جزءاً من الصراع والتقويض باستهداف مباشر من وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق، بعدما أبعده الحريري عن منصبه الذي شغله لسنوات، حيث يسعى المشنوق لتأسيس تيار سياسي يتشكل من فلول تيار المستقبل بدعم خليجي – مصري، حسبما قالت مصادر لـ"عربي بوست"، والتي أكدت أيضاً أن الضربة الكبرى كانت من شقيقه بهاء، الذي يقود حملة لوراثة الزعامة الحريرية، بعد 15 عاماً من الإخفاقات التي مُنيَ بها شقيقه سعد.
وتؤكد المصادر لـ"عربي بوست" أن المشنوق يسوّق نفسه كرئيس حكومة توافقي في حال سقوط حكومة دياب، وهذا ما عبَّر عنه الإعلامي المحسوب على المشنوق نديم قطيش، وداعماً ما يراه حق المشنوق بالسعي لترؤس أي حكومة قادمة، وهو ما يزعج سعد الحريري ويقوض مساعيه.
وكشف المصدر أن الحريري يعيد ترتيب صفوف تياره عبر مجموعة تحركات، أبرزها إعادة التواصل مع صقور تيار الاستقلال، والذين أقصاهم بعد رفضهم الانخراط بالتسوية مع التيار الوطني الحر، كما أنه يعمل على تعزيز دعم نادي رؤساء الحكومات السابقين، ومصالحة الشارع السني المتململ، من خلال زيارات لدار الفتوى، ومقابلة مفتي الجمهورية عبداللطيف دريان، ومشاركته اجتماع المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى الذي يعتبر مجلس شورى إسلامياً يضم نخبَ ومثقفي السنة اللبنانيين، وأنه أيضاً استقبل السفير التركي في لبنان، في ظل الصراع الذي يشهده الإقليم بين تركيا ودول الخليج، ما يبعث برسالة انفتاح على كل مكونات المنطقة.
أزمات مالية عاصفة
يدرك المشاركون في حكومة دياب، بعد 120 يوماً على تشكيلها، أنها أخفقت في عدة مواقف مصيرية، أولها ديون اليوروبوند التي لم يفهم حتى الآن آلية التوافق على جدولة تسديدها للجهات الدولية المانحة، فيما الإخفاق الأكبر يكمن في الخطة المالية التي قُدمت لصندوق النقد الدولي الذي بدوره بات بين قوسين أو أدنى ـ وفق مصادر ـ من إعلان التوقف عن استكمال المفاوضات مع الحكومة بسبب عوائق وثغرات، أبرزها عدم وجود خطة فعلية لقطاع الكهرباء، وملف ضبط الحدود والتهريب في ظل قانون قيصر الذي سيكون السيف المسلط على لبنان في المراحل المقبلة.
أما في الشق الداخلي، فقد فشلت الحكومة ـ حسب محللين ـ في أن تكون مستقلة عن القرار السياسي، وتحديداً تدخلات رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل الذي بات ـ كما يقول المحللون ـ الحاكم الفعلي للبلاد.
وأن ذلك بدا من خلال تقديم مشاريع يصر باسيل على تمريرها في مجلس الوزراء، كمشروع سد بسري في منطقة الشوف في جبل لبنان، والذي سوف يتكلف مبلغ 650 مليون دولار جميعها قروض من جهات أوروبية، في حين تكمن المشكلة الأكبر في مشروع معمل سلعاتا لتوليد الكهرباء، الذي يروج باسيل بأنه لصالح الوجود المسيحي في وجه استئثار سُني وشيعي للمعامل الكهربائية، وأن ذلك على حساب ملفات أكثر أهمية مطلوب من الحكومة إنجازها بشكل سريع، كضبط سعر بيع وشراء الدولار، ومعالجة ملفات الوقود والنفط، كل هذا المعطيات خلصت إلى ضرورة رحيل الحكومة وإعادة تكليف الحريري برئاستها.
ويرى المحلل السياسي أسامة أمين أن حزب الله كالذي يحمل كرة نار منفرداً، وبات يريد التخلص من الحمل الثقيل الذي يحاصره بسبب الغطاء الذي يؤمنه للحكومة الحالية، وهذا ما يدل على أن حزب الله بات يفكر بضرورة إجراء عملية انقلاب أبيض على الواقع الذي صنعه، والإتيان بشركاء يحملون معه ثقل الأزمة التي تفتك بلبنان، وهذا ما يجمع عليه تيار المردة وحركة أمل في ظل الترتيبات التي يجب أن تبدأ لمواجهة التحديات.
ثنائية دعم الحريري
يؤكد مصدر مسؤول في الحزب التقدمي الاشتراكي الذي يتزعمه وليد جنبلاط أن الأخير بات مقتنعاً بضرورة التنبه للأزمات التي تعصف بالمنطقة، ولبنان يدفع ثمنها مرغماً، ويشدد هذا المصدر أن ما جرى خلال الأيام الماضية كان "بروفا" متوقعة لتوتير الأجواء، وهذا ما يجب التنبه له.
وبحسب المصدر، فإن جنبلاط يرى أنه على الجميع الاعتراف بأن سعد الحريري هو الأقوى في طائفته، ولا يجوز محاولات إلغائه وتهميش دوره الوطني، ويؤكد المصدر أن الحل الأفضل هو عودة الحريري لرئاسة الحكومة، وأن يقوم الجميع بتقديم تنازلات حتى يتجاوز لبنان المراحل الصعبة.
كان جنبلاط يزور رئيس مجلس النواب نبيه بري طارحاً عليه فكرة تجاوز الماضي والذهاب لحكومة تأتي بضمانات دولية للبنان، وهذا الذي لم يمانعه بري ولم يعلق عليه حزب الله سلبياً.
هذا تبلور ترجمه لقاء جمع الحريري وجنبلاط في دارة الأخير، فالحريري جاد في الإطلاع على الطبخة التي ينوي هؤلاء إعدادها، وهو لا يصرح بقبول الفكرة لكنه لا يعارضها. ويخشى الحريري من تسمية شخصية من تياره فتنقلب عليه، فتجارب الرجل مع المكلفين من تياره غير مشجعة.
فيما إذا قرر القبول بتشكيل الحكومة فلديه شروط رئيسية لا يمكنه التخلي عنها، وهي عدم مشاركة حزب الله لكي يستطيع إقناع المجتمع الدولي أن حزب الله تنازل سياسياً لمصلحة الإصلاح, والشرط الثاني الذي يصر عليه الحريري عدم مشاركة التيار الوطني الحر وجبران باسيل في الحكومة وتشكيل حكومة اختصاصيين من 12 وزير ترضي القوى السياسية وتريح الشارع.
ودون ذلك، فالحريري جاهز للحوار والإتفاق، خاصة أنه يوحي لمقربين منه أنه يستطيع الإنطلاق من تأمين 10 مليار دولار من دول صديقة للحريري في الساحة الدولية.