كان شارع نديم الجسر في السابق من شوارع التسوق المزدحمة في مدينة طرابلس اللبنانية، وكانت متاجره المتوسطة ذات التصميم الإيطالي تحقق نجاحاً مالياً كبيراً من عملائها المنتمين إلى الطبقة المتوسطة في لبنان، الواعية بمكانتها الاجتماعية.
فقد تمكنت سلاسل الأزياء العالمية التي على شاكلة ماكس مارا وكالفين كلاين وروبرتو كافالي من جني الملايين هنا في هذا الشارع.
ولكن عندما خففت الحكومة اللبنانية هذا الشهر من تدابير الإغلاق التي فرضتها بسبب فيروس كورونا، فُتحت أبواب المحال التي أظهرت أفضل ما لديها. وعرضت نافذة العرض المنتجات البراقة، ولكن لم يلج أحد إلى الداخل، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Times البريطانية.
فلم تعد هناك أموال للتأنق والتفاخر.
وضع الطبقة المتوسطة في لبنان فريد بالمنطقة العربية
إذ إن انهياراً اقتصادياً وطنياً كان متوقعاً منذ عهد طويل، ضرب البلاد تقريباً بين عشية وضحاها. وكان انهيار أثّر على الجميع، لكنه حمل تأثيراً خاصاً على الطبقة المتوسطة في لبنان، التي يشكل حجمها الكبير حالة نادرة في المنطقة العربية التي ينقسم جزء كبير منها بين طبقتين: أصحاب الثراء الفاحش، والفقراء فقراً مدقعاً.
في الأوقات الطيبة التي تلت تعافي البلاد من محنة الحرب الأهلية في القرن الماضي والتدخل السوري في شؤون البلاد، كان اللبنانيون من أبناء الطبقة الوسطى لديهم الأموال الكافية للاحتشاد في المطاعم الفاخرة لتناول غداء في أيام الأحد، وقرع الكؤوس في الحانات، وإنفاق المال على رحلات التزلج على الجليد.
لكن ذلك النمط قد يبدو الآن شيئاً من الماضي، بعد أن انفجر النظام المصرفي للبنان -الذي كان في السابق حجر الأساس لاقتصاده- في وجهه.
أفراد الطبقات المتوسطة في لبنان فقدوا ثلثي ثرواتهم
على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، تلاشى ثلثا الدخل القومي بسبب انخفاض قيمة الليرة اللبنانية بـ 60%، وهو ما أطاح سعر الصرف الذي كان مستقراً ذات يوم، والذي أتاح لطبقاته المهنية تحمل نمط الحياة الأوروبي الذي كانوا يعيشونه.
في عام 1997، ثبت سعر صرف الليرة اللبنانية عند 1500 مقابل الدولار الأمريكي، مما منح نظرياً المستثمرين والجاليات اللبنانية الضخمة ثقةً في أن يضعوا أموالهم في مصارف بلادهم ويحصلوا على نفس السعر في المستقبل. الأهم من ذلك أن ثبات سعر الصرف حافظ كذلك على استقرار أسعار الكماليات والرفاهيات المستوردة وأسعار رحلات السفر إلى الخارج، وجعلها بأسعار معقولة.
ومع ذلك، في ظل انزلاق المنطقة في حالة فوضى مع انطلاق ثورات الربيع العربي والصراع المشهود في سوريا المجاورة، توقف قدوم الأموال. من أجل الحفاظ على سعر الصرف، أُجبر البنك المركزي على اتباع تدبير مالي أكثر تعقيداً، كان يعني ببساطة اقتراض الأموال من مودعي البنوك الكبيرة، حتى نفدت جميعها.
كانت بمثابة مخطط بونزي (مخطط احتيالي يقوم على عملية إستثمار احتيالية تعمل عن الطريق الدفع لأقدم مستثمرين باستخدام أموال تم جمعها من المستثمرين الجدد) الذي لم يستطع الصمود، وانهارت في الوقت الحالي. لم يعان اللبنانيون، الذين يربح أغلبهم أموالهم بالعملة المحلية، من خسارة حادة في القيمة الحقيقية لأموالهم فحسب، بل واجهوا قيوداً حول ما يمكنهم سحبه من المال المتبقي. وقد تحول فقدان القدرة الشرائية إلى دوامة من الإفلاسات وتسريح العمال، فاقمتها أزمة فيروس كورونا.
150 ألف شخص يعملون في مجال المطاعم والمقاهي
كان مجال الحفلات الشهير في لبنان أحد أبرز ضحايا هذه الأزمة. إذ توظف المطاعم والمقاهي والحانات في لبنان حوالي 150 ألف شخص، ولكن بحسب نقابة أصحاب المطاعم والمقاهي والملاهي والباتيسري في لبنان، أغلقت 800 مؤسسة منذ أكتوبر/تشرين الأول، عندما ضربت أول موجة من المصاعب الاقتصادية، ويتوقع أن يتبعها المزيد.
كان دار بيسترو آند بوكس، الكائن في بناية قديمة على الطراز العثماني في غرب منطقة الحمرا ببيروت، أحدث هذه الأماكن التي أغلقت. كانت ساحة الدار مكتظة في السابق بمثقفي العاصمة وسياحها على السواء، وكان جميع عناصر قائمة الطعام التي تقدمها تضم وجبات تحتوي على حبوب الكينوا. استضافت دار بيسترو آند بوكس جلسات لرواية القصة، ودعت زبائنها ليحكوا قصص عن الحب والكراهية والحرب الأهلية وأزمة اللاجئين. والآن، صارت مجرد مكان مهجور آخر.
قالت ريما أبو شقرة، مالكة الدار: "كان من المستحيل مواصلة دفع الإيجار". عندما نشرت الأنباء على موقع فيسبوك، كيل لها المديح من جميع أنحاء العالم. أعرب أحدهم عن أسفه لخسارة "واحة حب"، وتذكر آخرون حفلات أعياد الميلاد، وأولى اللقاءات والوداع، مع وفرة في استخدام الرموز التعبيرية التي تعبر عن الحزن.
تقول المطاعم التي لا تزال مفتوحة إنها كانت مضطرة لخفض حصص الطعام، وترشيد استخدام مكيفات الهواء، وزيادة الأسعار، والأصعب من ذلك هو الاعتماد على كمية محدودة من المنتجات المتاحة محلياً.
تُعرف إيمي دن بأنها خبيرة نبيذ بريطانية تعمل في مقهى أدبي آخر يدعى عالية (Aaliya's Books) في شارع الجميزة، أشهر شارع حانات في بيروت، وقد اعتزمت تحويل المحنة إلى فرصة عن طريق شراء مقهى محلي. غير أنها وجدت صعوبة في ذلك عندما كانت تتجول في حقول الكرم بوادي البقاع.
قالت إيمي: "تستورد مصانع النبيذ القنان والسدادات، لذا يضطرون لرفع أسعار البيع ونضطر نحن بدورنا إلى زيادة أسعارنا".
الصمت يلف المدينة التي واصلت الرقص خلال الحرب الأهلية
يلف الهدوء الآن مدينة الحفلات المعهودة في الشرق الأوسط. والشوارع التي كانت من قبل تطغى عليها الموسيقى، وحيث كانت مسجلات السيارات تذيع أحدث أغاني البوب، صارت صامتة الآن. يُتوقع أن تفتح الحانات مرة أخرى في يونيو/حزيران، غير أن حجم التجمعات في المطاعم التي لم تغلق بالفعل لن يفعل الكثير من أجل إعادة إحيائها.
تباهى اللبنانيون بأنفسهم بأنهم واصلوا احتساء الشراب والرقص حتى خلال أسوأ الأوقات في الـ 15 عاماً التي استغرقتها الحرب الأهلية، لكن الأزمة الاقتصادية جعلت البلاد تجثو على ركبتيها. طلبت الحكومة من صندوق النقد الدولي حزمة إنقاذ بقيمة 9 مليارات دولار، لكن ذلك يعتمد على إجراء إصلاحات صارمة والقضاء على الفساد، وهي أشياء تبدو بعيدة المنال، إذا وافقت الأحزاب السياسية عليها من الأساس.
وأما عن الوقت الحالي، بينما تغرق الليرة اللبنانية في أعماق المياه المتلألئة للبحر الأبيض المتوسط، يصعب رؤية عودة الأوقات الطيبة مرة أخرى.