مضت ثلاث سنوات منذ اندلعت الأزمة الخليجية، وفي هذه الحقبة الحالية، التي صار فيها مجلس التعاون الخليجي بالأساس اتحاداً حكومياً بلا فاعلية، تشهد العلاقات المعقدة بين دول الخليج العربية وتنافساتها الداخلية متعددة الأوجه تغيراتٍ حادة. ويبدو أنَّ هذه التحولات في المشهد الجيوسياسي بالخليج قد اتخذت طابعاً مؤسسياً بصورةٍ ما على مدار الأشهر الـ36 الماضية. وفيما نتطلَّع إلى مستقبل منطقة الخليج، لا يوجد تقريباً أي سبب يدفعنا للاعتقاد بأنَّ العلاقات بين قطر والدول المُحاصِرة يمكن أن تعود إلى ما كانت عليه قبل منتصف 2017.
هذا ما خلص إليه كل من جورجيو كافيرو، المدير التنفيذي لشركة Gulf State Analytics لاستشارات المخاطر الجيوسياسية المتعلقة بالشأن الخليجي في واشنطن، وخالد الجابر، مدير معهد الشرق الأوسط وشمال إفريقيا للدراسات في واشنطن، في تقرير نشر لهما على موقع مركز Responsible Statecraft الأمريكي للأبحاث والدراسات السياسية، حول مستقبل مجلس التعاون الخليجي.
حتى جائحة كورونا لم توحّد دول الخليج
يرى الباحثان أنه في خضم أزمة جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) العالمية، ثَبُتَ أنَّ الآمال بإمكانية جمع أخطار هذا المرض لدول المجلس الست في غير محلها. ففي وقتٍ تستخدم فيه دول الحصار الجائحة كحجة لفتح مزيد من الأبواب أمام النظام البعثي السوري وإسرائيل، بل وحتى إيران، لا توجد مؤشرات على أنَّها تفكر في تخفيف مواقفها ضد قطر، رفيقتهم العضوة بمجلس التعاون وحليفتهم السابقة.
وكما أوضح الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي نايف الحجرف مؤخراً، فإنَّ مزيج كوفيد 19 والحصار المطول على قطر يفرضان تحدياتٍ "غير مسبوقة" على المجلس. وقال، في إشارة إلى الفيروس: "هذه المسألة تحتم على منظومة مجلس التعاون تعزيز العمل المشترك والاستعداد الجماعي للتعامل مع عالم ما بعد كورونا بأبعاده الاقتصادية والصحية والاجتماعية والأمنية والعمالية والاستراتيجية لحماية شعوبنا والحفاظ على مكتسباتنا".
وإلى جانب بقاء مجلس التعاون معطوباً، فإنَّ المخاوف بشأن تصاعد التوترات بين دول الخليج العربية المختلفة أمرٌ مبرَّر، على الرغم من كل الجهود الكويتية والعُمانية للمساعدة في حل الأزمة الخليجية. وتؤكد حملة الأخبار الزائفة هذا الشهر مايو/أيار، والتي جرى فيها تداول قصص إخبارية بشأن انقلابٍ مُفتَرَض في قطر، كم أنَّ دول الحصار بعيدة عن تخفيف خلافها مع الدوحة. وهذا هو الحال على الرغم من التكهنات الكثيرة العام الماضي بأنَّ قمة مجلس التعاون التي عُقِدَت في السعودية أدَّت إلى تقاربٍ متنام، أو على الأقل إلى انفراجة، بين الرياض والدوحة.
عداء شخصي يكنّه أمراء السعودية والإمارات لدولة قطر
ومع أنَّ دول الحصار الخليجية وقطر تحت ضغط من واشنطن لإعادة التوحد تحت راية وحدة مجلس التعاون، برهنت الجهود الأمريكية لحل هذا الخلاف في شبه الجزيرة العربية على عدم جدواها تماماً. فعجزت الإدارة الأمريكية عن جذب أي قادة رئيسيين في مجلس التعاون إلى أرضية مشتركة. ولعل السبب الرئيسي يتمثل في طبيعة المعادلة الصفرية التي فرضها وليّا عهد السعودية وأبوظبي لهذه الأزمة، إلى جانب المستوى العالي من العداء الشخصي الذي يُشكِّل علاقات هذين الزعيمين مع أسرة آل ثاني الحاكمة في قطر.
وعلى الرغم من الآفاق الضعيفة للتوصل إلى أي تسوية لخلاف مجلس التعاون، فمن الآمن المراهنة على أنَّ الولايات المتحدة ستستمر في محاولة وصول الجانبين إلى حل. وكما قال الجنرال أنتوني زيني، مؤخراً، فإنَّ "التعاون الإقليمي الداخلي" في الخليج ضروري من وجهة نظر المصالح الأمنية الأمريكية. وأوضح الجنرال زيني أنَّه ليست فقط أزمة قطر هي التي تقوض إمكانية إضفاء واشنطن وحلفائها الطابع الرسمي على تفاهمٍ أمني وهيكل دفاعي في الشرق الأوسط، بل وكذلك التوترات في العلاقات الأمريكية-المصرية النابعة من انتفاضات "الربيع العربي" لعام 2011.
هجوم معلوماتي سعودي على عُمان
ومن المهم ملاحظة أنَّ الخلاف القطري ليس هو المشكلة الوحيدة التي تفاقمت مؤخراً بين دول الخليج العربية. إذ تعاني السعودية وعُمان من توترات في العلاقات بينهما، يبرزها الوضع الحساس في محافظة المهرة الواقعة أقصى شرقي اليمن، والتي تنامى فيها الوجود العسكري السعودي. وفي الآونة الأخيرة، في أواخر مايو/أيار 2020، شنَّت المملكة حرب معلوماتٍ على عُمان، مُتَّهِمةً وزير الشؤون الخارجية لمسقط بإجراء محادثة هاتفية مع العقيد الليبي الراحل معمر القذافي بشأن خطط لتفكيك السعودية في احتجاجاتٍ مُنسَّقة. ويُزعَم أنَّ تلك الخطط أُعِدَّت جنباً إلى جنب مع قطر والأردن.
وشنُّ السعوديين لهذا الهجوم المعلوماتي على عُمان بعد قرابة ثلاث سنوات على اختراق وكالة الأنباء القطرية في مايو/أيار 2017، الذي أشعل الأزمة الخليجية، ربما يمثل أكثر من مجرد صدفة. فاستهداف وزير الخارجية العُماني، والقيام بذلك في هذا الوقت بالتحديد، أمرٌ مثير للريبة بشدة. وأثار الباحث في الشؤون الخليجية كريستيان كوتس أولريخسن، في تغريدة، هذا التساؤل: "مَن في الخليج قد يريد فرض ضغوط على عُمان، ويسعى لإسقاط يوسف بن علوي، في نفس اللحظة التي يصبح فيها هو وعُمان مجدداً محوريين أكثر فأكثر في الدبلوماسية الإقليمية؟".
ويبدو تحت السطح أنَّ سلطان عُمان الجديد يتعرَّض لضغوط من أبوظبي والرياض للالتزام بالنهج الإماراتي والسعودي تجاه قطر واليمن وإيران. وبالنظر إلى نقاط الضعف الاقتصادية للسلطنة، يبدو مُرجَّحاً أنَّ جيران عُمان الأكثر ثراءً في شبه الجزيرة العربية يسعون لإجبار السلطان هيثم وإرغامه على الاصطفاف بصورة أقرب إلى جانب السعوديين والإماراتيين ضد الدوحة. ومن اللافت أنَّ بن علوي كان يضطلع بدورٍ مهم في ما يتعلَّق بالدبلوماسية الإقليمية والمساعي العُمانية لمساعدة دول الخليج المختلفة على جسر الهوات بينها بغية التوصل إلى تفاهماتٍ جديدة.
ويفرض اتهام السعوديين لابن علوي، الذي التقى للتو السفير القطري لدى عُمان، بالتآمر على بلدهم إشكاليات كبيرة بالنسبة للمساعي العُمانية لتعزيز الحلول الدبلوماسية للأزمة الخليجية والتوترات في العلاقات بين إيران ومجلس التعاون.
وفي هذه المرحلة، لا يزال من المبكر للغاية القول ما إن كانت السعودية وعُمان على حافة أزمة كبرى في العلاقات بينهما تتخذ نفس مسار الانقسام بين الرياض والدوحة. مع ذلك، من المحتمل بشدة أن يبقى الخلاف القطري في مجلس التعاون، على الأقل في ظل الافتراض بأنَّ القادة في الدوحة والرياض وأبوظبي سيحتفظون بسلطتهم. فبعد ثلاث سنوات من هذا الخلاف في شبه الجزيرة العربية، يتفق الخبراء على أنَّ قرار حصار قطر ألحق ضرراً بالغاً لا يمكن إصلاحه بمجلس التعاون باعتباره مؤسسة شبه إقليمية، على الأقل ليس في أي وقتٍ في المستقبل المنظور.
قطر أكثر استقلالية، والخلاف لن يتوقف
وحتى لو وُقِّع اتفاق يعيد العلاقات بين الدوحة ودول الحصار، فإنَّ جذور أسباب هذا الخلاف لا يمكن محوها بجرة قلم. فبينما تحدَّت قطر النظام الذي فرضته السعودية في الخليج وانخرطت مع فاعلين مناهضين للوضع الذي وضعته السعودية في المنطقة، من حماس وحتى إيران والإخوان المسلمين بطرقٍ جعلت المسؤولين في الرياض وأبوظبي غاضبين، كان الحصار محاولة من جانب السعوديين والإماراتيين لكبح القطريين. وبعد ثلاث سنوات من طعن عضوة رفيقة في مجلس التعاون في الظهر، على دول الحصار في الخليج أن تدرك كيف أنَّ تصرفاتها لم تؤدِّ إلا لتشجيع قطر لتكون أكثر شراسة في سعيها نحو سياسة خارجية مستقلة ودفاعها عن سيادتها الوطنية. وعلى هذا النحو، جعل الحصار الذي فُرِض على الدوحة قطر أكثر استقلالية، وهي النتيجة المعاكسة تماماً لما كانت قوى الحصار تسعى إليه حين قطعت علاقاتها مع رفيقتهم العضوة بمجلس التعاون الخليجي في يونيو/حزيران 2017.
ومن الواضح أنَّه لم يعد هناك مجلس تعاون خليجي فعَّال بعد الآن. ولم تعد دول الخليج العربية تملك الوسائل لتوفير الحماية الجماعية لنفسها من التهديدات الخارجية. وفي وقتٍ يجتاح فيه كوفيد 19 الدول على مستوى العالم، ولا تزال حافة الهاوية الأمريكية الإيرانية متفاقمة، والحروب الكارثية في ليبيا وسوريا واليمن مستمرة، يضطر أعضاء مجلس التعاون الخليجي لإعداد خطط أحادية وثنائية لمواجهة التهديدات القائمة. ويُعَد احتمال عودة المؤسسة شبه الإقليمية في أي وقتٍ إلى ما كانت عليه قبل منتصف 2017 شديد الضآلة. وفيما تستعد مَلَكيات شبه الجزيرة العربية للمستقبل في مرحلة ما بعد فيروس كورونا، فربما يجدر التساؤل عما إن كان يمكن إنشاء مؤسسة جديدة لتحقيق ما كان يُفتَرَض بمجلس التعاون الخليجي تحقيقه.