لم تكن المرة الأولى، لكن يفترض أن تكون الأخيرة التي يهدد فيها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بوقف التنسيق الأمني مع إسرائيل والمخابرات المركزية الأمريكية، بسبب قرار تل أبيب ضم أجزاء من الضفة الغربية المحتلة بشكل دائم وبدعم أمريكي، فهل يفعلها عباس فعلاً هذه المرة؟
صحيفة الغارديان البريطانية نشرت تقريراً بعنوان: "فلسطين تقطع كامل علاقاتها مع إسرائيل والولايات المتحدة: هل هي خدعة؟"، ألقى الضوء على حقيقة تهديدات الرئيس محمود عباس بوقف التنسيق الأمني مع تل أبيب وواشنطن، بسبب قرار ضم الضفة الغربية المحتلة للدولة العبرية.
خط الدفاع الأخير
كان الخطاب يستهدف تحديد حقبةٍ جديدة، وفي محاولةٍ أخيرة لصدّ ما بدا أنّها خططٌ إسرائيلية للسيطرة على الأرض بشكلٍ دائم؛ أعلن الرئيس الفلسطيني أنّه سيتراجع عن عقودٍ من الدبلوماسية.
إذ قال محمود عباس، في خطابٍ ألقاه خلال ساعةٍ مُتأخّرة من الأسبوع الماضي، إنّ كافة الاتفاقات بين السلطة الفلسطينية وبين أجهزة استخبارات إسرائيل والولايات المتحدة باتت باطلةً الآن، بدءاً من معاهدة أوسلو في التسعينيات -أولى خطوات عملية السلام- ووصولاً إلى التنسيق الأمني رفيع المستوى مؤخراً، وأوضح أنّ السلطة الفلسطينية "في حِلّ من جميع الاتفاقات والتفاهمات مع الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية بدءاً من اليوم".
وبعد أسبوعٍ واحد تقريباً، بدا وكأنّ عباس كان يُخادع الجميع، إذ أدلى بتهديدات من هذا النوع كثيراً في السابق، ولكن لم تكُن هناك أيّ أدلة على الأرض تُشير إلى أنّ الحياة تغيّرت، باستثناء مشاهد انسحاب قوات الأمن الفلسطينية من بعض المناطق التي تُنسّق داخلها الدوريات بالتعاون مع القوات الإسرائيلية.
تهديد لفظي مرة أخرى!
ولو كان عباس جاداً، لكانت التداعيات هائلةً وفوريةً على الأرجح، إذ إنّ إبطال تلك الاتفاقات يعني أنّ عباس سيُدمّر الهياكل التي حافظت على سلطته طيلة سنوات، بما في ذلك سلطته الفلسطينية الحاكمة التي ظهرت للنور نتاجاً لمعاهدة أوسلو.
وقال طارق باقوني، مُحلّل الشؤون الفلسطينية-الإسرائيلية بمؤسسة International Crisis Group البحثية: "عدم وجود الاتفاقات يعني نهاية وجود السلطة الفلسطينية، ومن غير المُحتمل أن تقوم القيادة بحلّ نفسها".
وتتعاون السلطة الفلسطينية مع إسرائيل عن كثب لدرجة أنّ الفلسطينيين يُغادرون بلداتهم من أجل العمل والعلاج بفضل هذا التنسيق الوثيق فقط، حتى أنّ عباس يعجز عن التنقُّل -داخل الأراضي المُحتلة أو خارجها- دون تصريحٍ إسرائيلي.
هل السلطة فعلاً وكيل للمحتل؟
ولا شكّ أنّ علاقة السلطة الفلسطينية بإسرائيل وثيقة لدرجة أنّها أثارت اتّهامات واسعة النطاق في أوساط الفلسطينيين الذي رأوا أنّ السلطة باتت وكيلاً للمُحتل، ولهذا يدعمان بعضهما البعض، وأوضح باقوني: "يُنظر إلى الأمر على أنّه وسيلةٌ للحفاظ على الحوكمة الذاتية ولا يصلح لبناء دولة".
لكن الأمين العام لمنظمة التحرير الفلسطينية صائب عريقات أشار إلى انتهاء التبادل الأمني والاستخباراتي، ورغم الاستياء العام؛ احتفظت إسرائيل والولايات المتحدة والسلطة الفلسطينية بتنسيقها الأمني ضد العدو المشترك (حماس).
ورغم أنّه لم يكشف عن تفاصيل مُحدّدة حول خطة عباس، لكن عريقات قال إنّ القيادة علّقت بالفعل كافة اتّصالاتها مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية.
وأشار بغموض إلى أنّ الخطوة ليست شاملة خلال مكالمة هاتفية مع الصحفيين: "لن يكون هناك تنسيقٌ أمني مع الولايات المتحدة أو إسرائيل بعد الآن، سنُحافظ على النظام العام وسيادة القانون… ولكنّنا لن نُغلِق الباب تماماً".
وقال مسؤولٌ فلسطيني، تحدّث شريطة عدم الكشف عن هويته، إنّ الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية تلقّت بعض التعليمات بعدم التنسيق مع إسرائيل، لكن التأثير الكامل للخطوة لن يتجلّى إلّا في أعقاب نهاية احتفالات عيد الفطر يوم الأربعاء 27 مايو/أيار.
وجاء خطاب عباس رداً على تفكير الحكومة الإسرائيلية رسمياً في ضمّ مناطق كبيرة من الضفة الغربية، بدعمٍ من الولايات المتحدة، ويُطالب الفلسطينيون بتلك الأراضي لإقامة دولتهم المستقبلية، ورغم احتلال إسرائيل لتلك الأراضي منذ نحو 50 عاماً، لكنّ ضمّها يُنظَر إليه على أنّه ضربة قاضية لحلم إقامة أيّ دولة فلسطينية.
وقال نيكولاي ملادينوف، المنسق الخاص للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط، أمام مجلس الأمن بالأمم المتحدة الأسبوع الماضي، إنّ خطاب عباس لم يكُن تهديداً حقيقياً بل كان أشبه بـ"صرخة استغاثة يائسة" في مواجهة ضربةٍ قاصمة من هذا النوع.
وأردف: "إن جاز لي الحديث بصراحة ووضوح حول القضية، وبغض النظر عن تقييماتنا الفردية لرد الفعل الفلسطيني على التهديد الإسرائيلي بضمّ الأراضي؛ سنجد أنّ رد الفعل يُمثّل بالتأكيد صرخة استغاثة يائسة. وهي أشبه بدعوةٍ للتحرّك الفوري، وطلب مساعدة لجيل من القادة الذين استثمروا حيواتهم في بناء المؤسسات والاستعداد لإقامة الدولة منذ أكثر من ربع قرن. ويحدث ذلك في وقتٍ يظهر خلاله جيلٌ جديد أكثر شباباً، وله تطلّعاته المستقبلية الخاصة. لذا يشعر الكثيرون بالخيانة والسخرية".