قبل عشرة أعوام كان النقيب المتقاعد عبدالله خالد يحرص على حضور المناسبات التي تنظمها السلطات المحلية في قريته ببزته العسكرية، وكم كان يشعر بالزهو حينما يقابله أحد المحاربين القدامى بالتحية العسكرية، ومن على كتفيه النجمات النحاسية الثلاث.
أما اليوم فالوضع اختلف تماماً، إذ لم تعد تلك النياشين تستهوي أحداً بعد أن أُفرغت من قيمتها العسكرية، وتحولت إلى وسيلة جذب تمنحها أطراف الحرب في اليمن لاستقدام مقاتلين جدد.
يقول النقيب عبدالله خالد، الضابط في سلاح المدرعات سابقاً، إن "الرتب العسكرية صارت تُمنح لمن هبَّ ودبَّ"، ويضيف لـ"عربي بوست": "حصلت على رتبتي بعد أن خُضت حرب المناطق الوسطى وصولاً إلى حروب صعدة، وتلقيت عدة دورات، أما اليوم فالرتب صارت إهانة للتقاليد العسكرية".
رتب ضد القانون
وفق القانون اليمني، فإن الرتب لا تُمنح إلا لخريجي الكلية الحربية وكلية الشرطة، حيث يحمل الخريج رتبة ملازم ثانٍ، وترقّيه في العسكرية مرهون بأن يقضي الحد الأدنى للخدمة في كل رتبة.
ووفق المادة (44) من القانون رقم (15) لسنة 2000 بشأن هيئة الشرطة، والمادة 30 في القانون رقم (67) لسنة 1991 بشأن الخدمة في القوات المسلحة، فإن الوصول إلى رتبة لواء يستغرق 24 عاماً و25 عاماً لخريجي الكليتين على الترتيب.
ويحدد القانون انقضاء سنتين (ثلاث سنوات لضباط الجيش) من الخدمة العسكرية واجتياز الدورات للترقية من ملازم ثان إلى رتبة ملازم أول، وأربع سنوات إلى رتبة نقيب، وأربع سنوات إلى رتبة رائد، وخمس سنوات إلى رتبة مقدم، وأربع سنوات إلى رتبة عقيد، وثلاث سنوات إلى رتبة عميد، وسنتين إلى رتبة لواء، وسنتين إلى رتبة فريق.
لكن المادة (20) تنص على أن يجوز منح رتبة عسكرية فخرية أو وقتية لأي شخص مدني تكون القوات المسلحة أو الأمن بحاجة إليه، شريطة أن يكون من حمَلة الشهادات الجامعية المعترف بها.
الحرب كسرت القانون
لكن القانون العسكري كُسر عقب حرب 1994 التي اندلعت بين شمال اليمن وجنوبه، إذ دفعت التشكيلات المسلحة التي دعمت القوات الشمالية بعشرات الأسماء لمدنيين إلى الرئيس السابق علي عبدالله صالح لتضمينها في كشوفات الجيش كضباط.
ورغم أن تلك الرتب كانت بمثابة رد الجميل للمقاتلين الذين رجحوا كفة النصر لصالح على عدوه علي سالم البيض -المتراجع عن الوحدة والمطالب بانفصال جنوب اليمن عن شماله- فإن معظمها كانت شرفية في الكشوفات العسكرية، ليُدفع لها الرواتب.
ووفق مصدر عسكري في وزارة الدفاع، فإن منح الرتب امتد إلى مشايخ القبائل الموالين لصالح، إذ صار معظمهم ضباطاً في وزارة الداخلية، لكن ذلك توقف أواخر التسعينيات.
رتب الولاء
مع سيطرة جماعة "أنصار الله" (الحوثيين) على العاصمة اليمنية صنعاء أواخر 2014، وانقلابهم على حكومة الرئيس عبدربه منصور هادي، صار القادة الميدانيون للحوثيين ضباطاً رفيعي المستوى.
ومن بين تلك الأسماء التي تحمل رتبة اللواء رغم كونها لم تلتحق بأي كلية عسكرية أو أمنية، القائد الميداني أبوعلي الحاكم وعبدالكريم الحوثي وعبدالخالق الحوثي ويوسف المداني وعبدالحكيم الخيواني وغيرهم.
وبحسب إحصائية سابقة حصل عليها "عربي بوست" فإن الحوثيين منحوا 90 رتبة عسكرية رفيعة للموالين لهم في الجيش، من بينها 10 رتب لواء، و10 عمداء، بالإضافة إلى 70 رتبة عقيد.
وكان الحدث الأبرز ترقية القيادي الحوثي مهدي المشاط الذي يشغل منصب رئيس المجلس السياسي الأعلى، إلى رتبة مشير، وأُضيف لها لاحقاً قيادة أركان، وهي الشرف العسكري الذي لا يمنح إلا للعسكريين الأكاديميين.
وطوال حياته عمل المشاط المولود مطلع الثمانينيات مديراً لمكتب زعيم الحوثيين، وظهر في عام 2016 كعضو في المجلس السياسي، قبل أن يحمل بشكل فجائي رتبة المشير الركن.
ووفق مصدر في وزارة الداخلية التابعة للحوثيين، فإن منح الرتب مقصور على المدنيين الموالين للجماعة فقط، وقدّر المصدر بأن الحوثيين منحوا ما يقارب ألفي رتبة عسكرية في الداخلية، كمنح وترقيات.
وقال المصدر لـ"عربي بوست"، مفضّلاً عدم الكشف عن هويته لاعتبارات أمنية، إن ذلك جاء في سياق خطة إحكام القبضة على وزارة الداخلية، مع تنصيب عبدالكريم الحوثي في منصب الوزير، الذي يحمل رتبة لواء لكونه عم زعيم الحوثيين عبدالملك الحوثي.
ووفق وثائق حصل عليها "عربي بوست"، فإن الحوثيين عيّنوا في عام 2016، 222 شخصاً ضباطاً في وزارة الداخلية في ظرف أيام قليلة، من بينهم اثنان برتبة لواء وأحدهم برتبة عميد و82 برتبة عقيد والبقية توزَّعوا على رتب الرائد والنقيب والملازم أول.
ويقول عضو المجلس السياسي (أعلى سلطة سياسية للحوثيين) محمد البخيتي لـ"عربي بوست"، إن منح الرتب أمر فرضه الواقع الذي تعيشه اليمن في ظل الحرب التي يقوده التحالف بقيادة السعودية.
وأضاف: "تلك القيادات فرضها الوضع الراهن، كما أثبتت حضورها في الميدان، وهذا أمر معمول به في أي بلد عاش الظروف التي تعيشها اليمن".
تخبّط حكومي
على الجانب الآخر كانت الحكومة أمام تحدٍّ جديد بعد انهيار الجيش، وانخراط الآلاف من المدنيين في المقاومة المسلحة ضد الحوثيين.
ومع إدماج المقاومة في صفوف الجيش بقرار من الرئيس عبدربه منصور هادي منتصف 2016، كان القادة الميدانيون يُصنفون كضباط، الأمر الذي شكل عقبة جديدة أمام إعادة تشكيل الجيش.
ووفق مصدر عسكري في وزارة الدفاع تحدث لـ"عربي بوست"، فإن الضباط الجدد كانوا مشكلة حقيقية في إعادة تشكيل الجيش، إذ منحهم الرئيس هادي رتباً عسكرية وهم مدنيون.
وكما الحال لدى الحوثيين، فإنه لا توجد حصيلة بعدد الضباط الذين لم يكونوا عسكريين، بسبب عدم وجود قاعدة بيانات موحدة للجيش، وفق المصدر الذي يعمل في لجان صرف الرواتب للعسكريين، لكنه يؤكد أن من بين الضباط أساتذة وصحفيين وزعماء قبائل ومدنيين.
وبحسب المصدر، فإن قيادة وزارة الدفاع أجبرت كل الضباط القادمين من السلك المدني على خوض دورة عسكرية مكثفة في محافظة مأرب لمدة ستة أشهر، وهي إلزامية على جميع الضباط، غير أن ذلك لا يُعمل به في بقية المحافظات والمناطق.
وسادت حالة من الفوضى في منح الرتب العسكرية في مدينتي تعز وعدن، وفي المناطق الحدودية مع السعودية.
وقال عبداللطيف عامر، وهو خريج الكلية الحربية، ويحمل رتبة رائد في أحد الألوية التابعة للمنطقة العسكرية الثالثة لـ"عربي بوست"، إن ما يحدث من صرف الرتب للمدنيين كارثة بحق العسكرية.
وأوضح: "كنا نقاتل في عدن ضد الحوثيين، ونفاجأ بأن شباباً لا يعرفون أبجديات القتال ويحملون رتباً عسكرية رفيعة، كانوا يجبروننا على أن ننفذ أوامرهم".
وبحسب عامر، فإن المقاتلين كان من المفترض أن يُؤطروا في تشكيلات موازية للجيش، ومن ثم يجري إلحاقهم بدورات عسكرية، ومن ثم يُمنحون رتباً عسكرية بدءاً من ملازم ثانٍ.
صراع مذهبي
يرى الباحث والمحلل العسكري علي الذهب أن منح الرتب لمدنيين حالة استثنائية تظهر في الدول خلال تحلل مؤسساتها العسكرية، إذ يصبح المقاتلون الميليشياويون قادة عسكريين دون خبرة عسكرية وأكاديمية.
ويضيف لـ"عربي بوست" أن القادة الجدد قد يكونون ناجحين على الأرض، لكنهم يفتقرون إلى القوانين العسكرية، مما يحول الجيوش إلى ميليشيات ذات نزعات مختلفة، سواء مناطقية أو مذهبية، وهذا ما يحدث في اليمن.
ويفسّر الذهب بأن تلك النزعات خلخلت التوازنات داخل مؤسسة الجيش، وهو ما يؤسس مستقبلاً لصراعات على أسس مناطقية.
فيما يرى المحلل والباحث السياسي محمد الأحمدي أيضاً أن الجزء الأخطر كان منح الرتب لمسلحين يقاتلون دفاعاً عن الحدود السعودية، في إشارة إلى أن الضباط الجدد يفتقرون إلى العقيدة القتالية الوطنية، مشيراً إلى أن منح المدنيين رتباً عسكرية سواء من قِبل الحوثيين أو الحكومة عبث متعمد لتدمير الدولة، سيشكل عبئاً كبيراً على المستقبل العسكري للبلاد.