عندما كان جو بايدن، المُرشَّح الرئاسي المُفتَرَض عن الحزب الديمقراطي، نائباً لباراك أوباما أثناء فترة ولايته، لم يكن سراً أن دوره في السياسة إزاء إسرائيل كان يتمثَّل إلى حدٍّ كبيرٍ في طمأنة حكومة إسرائيل ومؤيِّديها في الولايات المتحدة بأن أوباما في صفِّهم. كان بايدن هو المُكلَّف بتذكيرهم أنهم يتمتَّعون في ظلِّ ولاية أوباما بدعمٍ وتنسيقٍ مالي وعسكري واستخباراتي غير مسبوق.
يدافع بايدن عن الإجماع بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي على إسرائيل، ذلك الإجماع الذي تراجَعَ خلال ولاية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. يدعم بايدن، المؤيِّد لإسرائيل على نحوٍ مؤكَّد في كلِّ آرائه، حلَّ الدولتين كما هو مُتصوُّرٌ في اتفاقية أوسلو، وهو ينتقد جهود إسرائيل الأخيرة لتقويض ذلك الحلِّ، ويعطي الأولوية لـ"الطابع اليهودي" لإسرائيل على الحقوق الفلسطينية، كما يقول ميتشل بليتنيك، نائب رئيس مؤسسة السلام في الشرق الأوسط، والمدير المشارك لمؤسسة "الصوت اليهودي من أجل السلام"، في مقالة منشورة له بمعهد Responsible Statecraft الأمريكي.
هل يقدم بايدن طرحاً مختلفاً عن ترامب تجاه الفلسطينيين؟
هل بايدن في 2020 هو الشخص نفسه الذي كان عليه من قبل؟ وقد رَفَعَت حاجته إلى التكيُّف مع الجناح التقدُّمي في الحزب الديمقراطي الآمال بأن من الممكن الضغط عليه إلى اليسار أكثر تجاه الحقوق الفلسطينية. يقول بليتنيك، ما مِن شكٍّ في أن سياساته مُفضَّلةٌ لدى دونالد ترامب في الكثير من القضايا، وأن محنة الفلسطينيين، التي ساءت في ظلِّ إدارة ترامب، ليست استثناءً من ذلك.
لكنّ هناك مساحةً شاسعةً بين سياسة ترامب إزاء الشرق الأوسط وسياسةٍ تتناول الحقوق الفلسطينية تجلب السلام ومستقبلاً أفضل لكلِّ من يعيش في إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة، كما يقول بليتنيك. وقد عمل فريق ترامب، بعلاقاته القوية مع اليمين المُتطرِّف في إسرائيل، مع مجتمع الاستيطان الإسرائيلي لصياغة سياسةٍ تقدُّم مجرد فتاتٍ للفلسطينيين. وبالمقارنة مع هذا، تبدو معارضة بايدن للإلحاقات الإسرائيلية لأراضي الضفة الغربية تفكيراً مستقبلياً تماماً.
يعارض بايدن ضم أجزاء من الضفة بإصرار. وكما قال للمؤتمر السنوي للجنة الشوؤن العامة الأمريكية الإسرائيلية في مارس/آذار، فإن "إسرائيل، على ما أعتقد، يتعيَّن عليها أن توقف تهديدات الضم والنشاط الاستيطاني.. هذه الخطوات تُبعِد إسرائيل عن قيمها الديمقراطية وتقوِّض الدعم من أجل إسرائيل في الولايات المتحدة. لا يمكننا السماح لإسرائيل بأن تكون قضيةً أخرى تقسِّم الجمهوريين والديمقراطيين. لا يمكننا السماح بأيِّ شيءٍ يقوِّض الشراكة الأمريكية الإسرائيلية".
يقود هذا المنطق -أن على إسرائيل الامتناع عن الضم أحادي الجانب ليس لأنه ينتهك حقوق الفلسطينيين، بل لأنه يقوِّض دعم إسرائيل نفسها- إلى رفض بايدن لممارسة ضغوطٍ مادية على إسرائيل لإيقاف الضم. إلى جانب تحذيرها من العواقب، التي يدركها صُنَّاع القرار الإسرائيليون جيداً بالفعل، فقد أوضح بايدن أنه لن يفعل شيئاً لمنع إسرائيل من اتِّخاذ هذه الخطوة.
عدم الإضرار بالدعم العسكري لإسرائيل
أُعيدَ التأكيد على ذلك يوم الإثنين 18 مايو/أيَّار، من جانب كبير مستشاري بايدن للسياسة الخارجية، أنطوني بلينكن. أسهب بلينكن، لدى حديثه في بثٍّ عبر الإنترنت نظَّمته ما تسمى"الأغلبية الديمقراطية من أجل إسرائيل"، في ذِكر أن بايدن "لن يربط المساعدة العسكرية المُقدَّمة إلى إسرائيل بأيِّ قراراتٍ سياسية تتَّخِذها. وهذا أمرٌ مفروغٌ منه".
أدلى بلينكن بهذه النقطة حين سُئلَ عن المتنافسين الديمقراطيين السابقين الذين قالوا إنهم سيستخدمون المعونة العسكرية إلى إسرائيل كوسيلةِ ضغطٍ إذا احتاجوا إليها لمنع إسرائيل من اتِّخاذ قراراتٍ مُتهوِّرة. وبايدن ببساطة لن يفعل ذلك، أيّاً كان ما تفعله إسرائيل. سوف يجادلهم ويناقشهم ويسخر منهم ويحاول إقناعهم -وراء الأبواب المُغلَقة كلَّما كان ذلك ممكناً، بحسب قول بلينكن- لكن لن يكون ثمة ضغط. ومن الناحية العملية يُعَدُّ هذا شيكاً على بياض مُقدَّماً لهم.
جمهور بايدن المؤيِّد لإسرائيل
تأسَّسَت "الأغلبية الديمقراطية من أجل إسرائيل" العام الماضي فقط، على أيدي مؤيِّدين ديمقراطيين لإسرائيل الذين لاحظوا تناقص نفوذ "الآيباك" وغيرها من الجماعات الداعمة لإسرائيل داخل الحزب الديمقراطي، ورأوا أن جماعاتٍ ليبرالية مؤيِّدة لإسرائيل، مثل جماعة "J Street" هيِّنةً على الفلسطينيين وعلى المخاوف الاستراتيجية الإسرائيلية. لقد عارضوا ضم أجزاء من الضفة هم أيضاً، لكنهم ألقوا باللائمةِ كاملةً على الفلسطينيين على غلقهم الباب أمام التفاوض، وقالوا إن خطة ترامب المُقتَرَحة لإسرائيل وفلسطين "تلبي الكثير من احتياجات إسرائيل الأمنية، ولابد أن تكون نقطة انطلاقٍ لاستئناف محادثاتٍ مباشرة بين الطرفين".
وفي مناقشة الأغلبية الديمقراطية من أجل إسرائيل، قال بلينكن إن بايدن "سيصرُّ على أن يتمنع الفلسطينيين عن التحريض، وسوف يصمِّم على أن يعترفوا بحقِّ وواقع دولة إسرائيل اليهودية". كان هذا موضوعاً رئيسياً لحديث بلينكن، وهو لا يخلو من مغزى.
هذا الإصرار على اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل باعتبارها دولةً يهودية يُعَدُّ عقبةً رئيسيةً لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي والتوصُّل إلى حلٍّ للصراع. وقد منحت منظمة التحرير الفلسطينية، وهي الكيان الوحيد الذي يمكنه تمثيل الشعب الفلسطيني -ومُعتَرَف بها هكذا رسمياً من جانب إسرائيل- اعترافاً رسمياً مرتين بسيادة إسرائيل وحقِّها في الوجود في سلام؛ مرةً في عام 1988، حين اعترف رونالد ريغان بذلك أيضاً آنذاك، والأخرى في عام 1993. غير أن إسرائيل أصرَّت مراراً على إعادة الاعتراف الفلسطيني، الأمر الذي تحوَّلَ في نهاية المطاف إلى مطالبة الفلسطينيين بالاعتراف بإسرائيل "دولةً يهودية".
ظهر هذا المطلب عام 2007، حين استحضره رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت في مؤتمر أنابوليس للسلام. أما خليفته، بنيامين نتنياهو، فقد جعل ذلك عنصراً أساسياً في دبلوماسيته المُعوِّقة. وتبدو جاذبية هذا المطلب للإسرائيليين واضحة: إذا منح الفلسطينيون مثل هذا الاعتراف، سوف يعني هذا ضمنياً التخلي عن حقِّ العودة للاجئين الفلسطينيين، وهي قضية غير ذات أهمية للقادة الإسرائيليين والأمريكيين، لكنها تقع في القلب من الحركة الوطنية الفلسطينية. لهذا السبب فإن مطلب الاعتراف بإسرائيل دولةً يهودية هو لعنةٌ بالنسبة للفلسطينيين، حتى حين كان الاعتراف بحقِّها في الوجود أمراً ممكناً سياسياً.
ما يتوقعه بايدن من الفلسطينيين لن يحدث
يقول ميتشل بليتني لا يمكن لأيِّ شخصٍ يرغب في التوسُّط في السلام أن يطالب الفلسطينيين بذلك، يرى اليهود تأسيس إسرائيل بمثابة "عودةٍ إلى أرض الأجداد"، بينما يراها الفلسطينيون خسارةً كارثيةً لوطنهم وأرضهم. أما الوسيط، فلابد أن يعمل مع السرديَّتين المختلفتين، وسيثبت عدم أهليته لهذا الدور إن حاول الدفاع عن هذه السردية أو الأخرى.
غير أن بلينكن وبايدن يصرّان على أن يقبل الفلسطينيون الرؤية الإسرائيلية فقط. وتوقُّع أن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل دولةً يهودية سيعني ليس فقط مصادرة حق اللاجئين في العودة، بل أيضاً الاعتراف بأن إسرائيل لها ما يبرِّرها في التعامل مع مواطنيها الفلسطينيين كمواطنين من الدرجة الثانية.
لا يتوقَّع أحدٌ أن تتبنَّى إسرائيل موقف الفلسطينيين في هذه القضية، وإذا حاول وسيطٌ إقناع إسرائيل بفعل ذلك، سيجادل البعض مع إسرائيل لسحب أهلية هذا الطرف كوسيط. إلا أن هذا ما يتوقَّعه بايدن من الفلسطينيين. لم يفلح الأمر في ظلِّ إدارة أوباما، ولن يفلح الآن.
يقول بليتني: لقد أوضح بايدن أنه يريد أن يجد طرقاً لإعادة تمويل السلطة الفلسطينية واستعادة عمل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين. لن يكون هذا سهلاً، بسبب التشريع الحديث الذي يضع شروطاً على المعونات المُوجَّهة للفلسطينيين من غير المُرجَّح أن يلبوها، لكن دعمه لـ"عملية السلام" القديمة يعني أنه سيحاول إيجاد طريقٍ لذلك. يقدِّم هذا وحده بعض العزاء للفلسطينيين من سياسات إدارة ترامب. لكن كونه أفضل من ترامب لهو معيارٌ متدنٍّ للغاية، وسماع كلمات بلينكن تجعل من الأوضح أن حتى المدافعين عن حقوق الفلسطينيين لابد أن يتحرَّكوا في ظلِّ إدارة جو بايدن كما لم يحدث من قبل.