لبنان معرض لأزمة غذائية كبرى وعدد كبير من اللبنانيين قد يجدون صعوبة قريباً في توفير ثمن الخبز"، لم تأتِ هذه الكلمات التي تحمل تحذيراً مبطناً من ثورة جياع في لبنان من مُعارض للحكومة أو أحد النشطاء.
بل جاءت من رئيس الحكومة اللبنانية حسان دياب لتؤكد مخاوف مراقبين من احتمال حدوث ثورة جياع في لبنان، وأنها بعد كلام رئيس الحكومة قد تكون أقرب مما يظنون.
وقال دياب، في مقال بصحيفة واشنطن بوست، إن أسعار المواد الغذائية المستوردة ارتفعت لأكثر من الضعف منذ بداية 2020، حيث تستورد لبنان أكثر من نصف احتياجاتها من الغذاء.
وصدّقت الحكومة اللبنانية بالإجماع، مؤخراً، على خطة إنقاذ تستغرق 5 سنوات، لانتشال الاقتصاد المحلي من مستويات تراجع حادّة، أفضت إلى عجز بيروت عن دفع ديون خارجية، ولكن الخطة التي تعتمد على موافقة صندوق النقد والحصول على دعم دولي لم تقترب من مرحلة التنفيذ في ظل معاناة البلاد من العزلة جراء هيمنة حزب الله على السلطة.
لا قمح سيأتينا من روسيا وأوكرانيا تفكر.. أنقذوا الشرق الأوسط برمته
كارثة تحدق بالبلاد التي تعاني من نقص في إنتاج الحبوب تحديداً، كشفها دياب.
إذ قال إن 80% من القمح اللبناني مصدره أوكرانيا وروسيا، لكن روسيا أوقفت في الشهر الماضي صادرات القمح، في حين أن أوكرانيا تدرس اتخاذ قرار مماثل في ظل الأزمة المالية الحادة التي تعيشها البلاد وتداعيات جائحة كوفيد-19.
وعادت أزمة الخبز إلى الواجهة في لبنان مجدداً مع إصرار أصحاب الأفران على زيادة السعر، رغم حديث الحكومة عن أنها تزودهم بالطحين بسعر مدعوم.
وحاول دياب التنبيه إلى أن الكارثة لن تقتصر على لبنان، محذراً من أن الجائحة أطلقت شرارة أزمة عالمية في الأمن الغذائي.
ودعا إلى مقاومة المحاولات الرامية لتقييد صادرات الغذاء، ومطالباً الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بإنشاء صندوق استثنائي لمساعدة الشرق الأوسط على تجنّب أزمة حادة.
يأتي ذلك في وقت طالب فيه محامون لبنانيون بـ"إجراءات فورية لخفض الغلاء في أسعار المأكولات والبضائع كافة على غرار ما حصل مع الصرافين، إذ قالوا: "من غير المقبول أن يتم تداول البضائع بأسعار صرف الدولار في السوق السوداء وتوقيف الصيارفة المخالفين، من دون توقيف التجار والمحتكرين الذين يستعملون السعر المخالف ذاته ويتاجرون بلقمة عيش المواطنين".
لماذا أصبح لبنان دولة غير منتجة رغم موارده؟
وتبدو محاولات مراقبي وزارة الاقتصاد لضبط الوضع، عبر مئات محاضر الضبط في الأسابيع الماضية لتلاعب بعض التجار بالأسعار، غير فعالة.
فبالإضافة إلى الفساد، وطبيعة البلاد الطائفية التي تجعل أغلب التجار محميين من زعماء الطوائف، فإن الواقع يقول إن أغلب الزيادات في الأسعار هي انعكاس طبيعي لانهيار العملة المحلية وصعوبة إيجادها.
ويزيد الوضع سوءاً أن لبنان لا ينتج إلا القليل القليل، فحتى ما يتم تصنيعه في الداخل اللبناني يتم استيراد مواده الأولية من الخارج، حسب المسؤولين اللبنانيين.
واعتبر دياب، الذي تولى منصبه هذا العام بدعم من جماعة حزب الله الشيعية وحلفائها، أن عقوداً من سوء الإدارة السياسية والفساد هي السبب في نقص الاستثمار في الزراعة.
وقال: "يواجه لبنان الذي كان في وقت من الأوقات سلة الغذاء في شرق المتوسط تحدياً كبيراً لم يكن من الممكن تخيله قبل عقد من الزمان يتمثل في خطر نشوب أزمة غذائية كبرى".
وأضاف أنه بسبب الوضع المالي في لبنان (ثبات سعر الصرف لعقود) كان استيراد الغذاء أرخص من إنتاجه محلياً، "على الرغم من أن بلدنا كان ينعم بالمياه والشمس والتربة الغنية والمزارعين الموهوبين. يتم استيراد أكثر من نصف الطعام اللبناني، وهو عار كبير وخطير على السيادة الغذائية".
ويبدو أن رئيس الحكومة اللبنانية يشير في مقاله إلى أن السياسة النقدية والمالية التي اتبعت عقب نهاية الحرب الأهلية بتثبيت سعر الصرف جعلت الرواتب مرتفعة وقللت القدرات التنافسية للمنتجات المحلية، وأضعفت الصادرات وشجعت الاستيراد، وكان يتم تمويل ذلك عبر رفع سعر الفائدة لتجذب المصارف اللبنانية الودائع الخارجية ثم تعود لتقرضها للحكومة بفائدة مرتفعة، مما أدى إلى تراكم الديون في النهاية.
وأشار دياب إلى أن لبنان يمر بأزمة اقتصادية ومالية غير مسبوقة قادت البلاد إلى التخلف عن سداد ديونها الخارجية، فصندوق النقد الدولي يتوقع انخفاضاً بنسبة 12% في الناتج المحلي الإجمالي للبنان هذا العام، لافتاً إلى أن "الناس يفقدون وظائفهم بينما تنخفض عملتنا الوطنية بسرعة وزادت أسعار المواد الغذائية المستوردة بأكثر من الضعف منذ بداية العام".
ثورة جياع في لبنان
المفارقة أن كلام رئيس الحكومة قد يفهم منه أنه يلمح إلى إمكانية حدوث ثورة جياع في لبنان.
إذ قال دياب في مقاله في الواشنطن بوست: "قبل بضعة أسابيع شهد لبنان أول "احتجاجات الجوع". فقد توقف كثيرون من اللبنانيين عن شراء اللحوم والفاكهة والخضراوات وربما يتعذر عليهم قريباً تحمل ثمن الخبز".
وعادت الاحتجاجات الشعبية في مختلف المناطق اللبنانية، بعد فترة ترقب لأحداث متتالية فرضت نفسها على الساحة الداخلية إبان تشكيل حكومة حسان دياب، في 11 فبراير/شباط الماضي، ومعالجتها لأزمات سياسية ومالية مستفحلة.
وأكثر من أي وقت مضى تبدو هذه الاحتجاجات مطلبية ومعيشية حتى لو استغلتها المعارضة.
إذ إنه مع تراجع قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار في السوق السوداء (غير الرسمية)، انعكست تداعيات سلبية على أسعار المواد الاستهلاكية الأولية، وتآكلت رواتب الموظفين بجميع القطاعات.
ورغم إجراءات مشددة اتخذتها الحكومة لمكافحة فيروس كورونا، خرجت في مدينة طرابلس (شمال) احتجاجات نددت بالأوضاع التي هدّت كاهل المواطن.
كما شهدت مناطق أخرى في البقاع (شرق) وغرب العاصمة بيروت، إغلاقاً لطرقات ووقفات احتجاجية، حمّل المحتجون خلالها الطبقة السياسية الحاكمة مسؤولية التدهور المعيشي في ظل أسوأ أزمة اقتصادية بتاريخ لبنان.
المحتجون: باقون في الشارع لأننا لم نعد نملك قوت يومنا
"لم أعد قادراً على تأمين لقمة العيش لعائلتي"، بهذه الكلمات يفسر خالد طالب (30 عاماً)، عمل حر، للأناضول، سبب مشاركته في الاحتجاجات.
فيما يوضح حميد النيني (35 عاماً)، صاحب متجر بطرابلس: "خروجي إلى الشارع هو للتعبير عن الحرمان الذي نعيشه، فقدنا الثقة بالحكام، وسنبقى في الساحات حتى تحقيق مطالبنا".
تساءلت ابنة مدينة صيدا (جنوب)، ثريا غالب (27 عاماً)، جامعية: "كيف يمكننا أن نأكل واللحمة باتت بـ35 ألف ليرة؟ نحن من دون عمل، وباقون في الشارع إلى ما شاء الله".
ومع تأزم الأوضاع، تتصاعد تساؤلات بشأن ما ينتظر البلاد في الأيام المقبلة، وما مدى مصداقية المخاوف من نشوب ثورة جياع في لبنان.
نعم هناك خطة إنقاذية، ولكن بلا داعمين دوليين، وهناك مَن سيستغل الأزمة داخلياً
"التحركات (الاحتجاجات) كانت متوقعة، وستزداد وتيرتها بسبب عدم عمل الحكومة على إنجاز خطة إنقاذية وإصلاحية حقيقية"، حسبما يرى منير الربيع، الكاتب والمحلل السياسي.
ويعتبر أن "الخطة المقدمة من حكومة دياب توصّف المشكلات والأزمات في البلاد وتدل على نية العمل، ولكن السؤال هو: كيف ستبدأ؟".
ويقول الربيع: "اللبناني غير قادر على الانتظار أكثر في ظل ارتفاع الأسعار بشكل جنوني، وتحليق سعر صرف الدولار مقابل الليرة، وكل الأزمات التي تخيّم على البلاد".
ويرى أن "التحركات مقسّمة إلى 3 أقسام، الأول أشخاص يتظاهرون ضد المصارف، وأشخاص يخرجون ضد الجوع، وآخرون تحرّكهم أطراف سياسية لمحاولة استغلال التحركات لإسقاط الحكومة أو التركيبة السياسية الحالية".
ويرجح أن "لبنان مُقبل على تحركات واحتجاجات كثيرة، إضافة إلى كثير من الصدام السياسي، الذي قد ينعكس في الشارع".
ويستبعد الربيع وجود نية دولية لدعم لبنان مالياً.
الجوع لا يعرف طائفة ولا ديناً
ويعتبر غسان حجار، كاتب ومحلل سياسي، أن "الواقع الجغرافي للتحركات يدل على أن الاحتجاجات ستتمدد وتتوسع.. طالما بقي الوضع المالي على حاله، فالغضب متصاعد".
وينفي حجار صحة ما يتردد عن وجود أيادٍ خفية وراء خروج المحتجين إلى الشارع لإسقاط الحكومة.
ويقول: "هذا غير وارد، وإذا الأصابع (الاتهامات) موجهة إلى سعد الحريري، فهو غير مستعد لترؤس أي حكومة في ظل هذه المرحلة، فهي مصيرية ومرحلة جوع وفقر".
وحذر دياب، في وقت سابق، من "خطة خبيثة" لـ"وضع الناس ضد الجيش"، مهدداً بإعلان أسماء ما قال إنها "جهات" تحرض على الشغب خلال الاحتجاجات الشعبية.
وبشأن إن كانت الاحتجاجات ستأخذ منحى عنفياً، يرد حجار: "من الطبيعي، فالثورة لا تكون في الصالونات، والجائع لا يستطيع التحمّل، والمودع الذي حُجزت ودائعه (بالبنك) كيف يمكن ضبط غضبه؟".
ويوضح: "فور وضع حلول جدية سيخرج الناس من الشارع تلقائياً، لكن عندما يتمدد الجوع، سنشهد خروج الآلاف إلى الشارع، فالفقر لا طائفة ولا هوية له".