تشهد الأحداث على الأرض في ليبيا تسارعاً ملحوظاً، ليس فقط على مستوى التصريحات السياسية، بل عسكرياً على الأرض أيضاً، وبات واضحاً للعيان أن دور الجنرال خليفة حفتر قائد ميليشيات شرق ليبيا قد انتهى بالفعل، ويظل السؤال متى وكيف يتم الإعلان عن ذلك؟
بداية النهاية لحفتر
محمد بويصير محلل استراتيجي ليبي مقيم في الولايات المتحدة، قال لوكالة الأناضول إن "حفتر هُزِم ومعركته منتهية، ولن يكون في الصورة نهاية 2020، وربما قبل هذا التاريخ".
وتوقف بويصير عند تصريح السفير الأمريكي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند، بأن وجود نحو 2000 من مرتزقة شركة "فاغنر" الروسية الخاصة، لا يدل على احترام سيادة ليبيا، معتبراً أن هذا التصريح "مؤشر على تطور في الموقف الاستراتيجي الأمريكي، فمنذ 2011 (سقوط نظام معمر القذافي 1969: 2011)، تعتمد واشنطن على أوروبا الغربية في إدارة الملف الليبي".
وأشار المحلل الاستراتيجي الليبي إلى أنه قبل نحو 10 أيام من إطلاق حفتر هجومه على العاصمة طرابلس (غرب)، في 4 أبريل/نيسان 2019، زار الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي واشنطن، ورتّب اتصالاً هاتفياً بين حفتر وجون بولتن، مستشار الأمن القومي الأمريكي آنذاك، مضيفاً أن "صمود شباب ليبيا، وفشل حفتر في استغلال الدعم الفرنسي والروسي والإماراتي والمصري والسعودي، لدخول طرابلس، أسهم في تغير الموقف الأمريكي".
انهيار أم انسحاب تكتيكي؟
بعد سقوط قاعدة الوطية الاستراتيجية في أيدي قوات حكومة الوفاق، وفرار ميليشيات حفتر منها، جاءت التصريحات من جانب أحمد المسماري، المتحدث العسكري باسم حفتر، تصف ما حدث بأنه "انسحاب تكتيكي"، لكن المؤشرات والأوضاع على الأرض تكشف ما يحاول المسماري وغيره من رجال حفتر إخفاءه.
وفي هذا السياق، كانت صحيفة الإيكونوميست قد نشرت تقريراً لافتاً، في الثاني من مايو/أيار الجاري، بعنوان "خليفة حفتر يخسر على الأرض ويضرب بعشوائية في ليبيا"، كشفت فيه عن حالة اليأس والتخبط التي أصابت قائد ميليشيات شرق ليبيا التي يسميها "الجيش الوطني الليبي"، فمن ناحية أعلن عن وقف إطلاق النار لنهاية شهر رمضان، ومن ناحية أخرى يقول داعموه إنه يُكثف من ضرباته العسكرية لتعميق الحرب الأهلية التي بدأها منذ ست سنوات، وإن هجومه على العاصمة طرابلس -الذي بدأه منذ أكثر من عام- يشهد تكثيفاً مضاعَفاً، على عكس ما يُعلنه من وقف إطلاق النار.
وقد استهدفت ميليشيات حفتر محطات الطاقة والمياه التي تغذي العاصمة، كما ضربت قذائفه مستشفيات، وهو ما وصفه دبلوماسي غربي للصحيفة بالقول "من الصعب تصديق أن كل هذا غير متعمّد"، وفي الوقت ذاته كان حفتر يحاول إحكام قبضته على السلطة، بعد إعلانه في 27 أبريل/نيسان "تفويضاً شعبياً"، ووضع المناطق الخاضعة لسطوة ميليشياته تحت الحكم العسكري، وهو ما رفضه عقيلة صالح رئيس برلمان طبرق، وأحد أهم داعمي حفتر في الداخل.
وبحسب وصف التقرير، لم يتمكّن كل ما قام به حفتر من إخفاء حقيقة خسارته على الأرض لصالح الحكومة الشرعية في طرابلس، والتي تدعمها تركيا، بعد الانتصارات المتتالية التي حققتها قوات الوفاق في الشريط الساحلي بين طرابلس والحدود التونسية، وتحوُّل تلك القوات من موقف الدفاع إلى موقف الهجوم ضد ميليشيات حفتر المدعومة من الإمارات ومصر وفرنسا والميليشيات الروسية التابعة لمجموعة فاغنر.
ولم تكن الوطية قد سقطت بعد بين أيدي حكومة الوفاق، والآن ترهونة محاصرة وسقوطها ربما يكون القشة التي قصمت ظهر البعير على الأرض، بالنسبة لمقامرة حفتر واعتدائه على طرابلس.
تهديد للمصالح الأمريكية
خلال اللقاء بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض، في 25 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، طرح أردوغان رؤيته حول الوضع والاستقرار في ليبيا، ووجد هذا الكلام استجابة لدى الأجهزة الأمنية الأمريكية، خاصة أنهم يعتبرون أردوغان حليفاً مهماً، بحسب بويصير، الذي أضاف أنه "مع ازدياد التواجد الروسي في ليبيا، لاحظنا أن الولايات المتحدة أصبحت ترى أن حفتر، الذي جاء بالروس، يهدد مصالحها الاستراتيجية".
ولفت بويصير إلى أن الولايات المتحدة وبريطانيا رحّبتا باستقلال ليبيا في 1951؛ لأنه يقطع الطريق على تواجد عسكري سوفيتي فيها، فهذا تهديد لجنوب أوروبا، وبالأخص اليونان وإيطاليا وفرنسا، وهو أمر غير مقبول لدى الأمريكيين.
وفي هذا السياق، أصبح الأمريكيون يجدون في الجهد التركي بليبيا (الداعم للحكومة المعترف بها دولياً) تماهياً مع رؤيتهم الاستراتيجية في المنطقة، بحسب المحلل الليبي.
ومع إضافة التحول الواضح في موقف حلف الناتو الذي أعلن دعمه لحكومة الوفاق، تصبح الأمور شبه محسومة بالنسبة لحفتر، وربما يمكن في هذا السياق تفسير تغريدات وزير الإمارات للشؤون الخارجية أنور قرقاش، التي تدعو "لحقن دماء الليبيين" وضرورة التفاوض، بعد أن لعبت الإمارات ومصر وفرنسا دوراً حاسماً في إثناء حفتر عن التوقيع على مبادرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقف إطلاق النار قبل عدة أشهر، فهل تُمهد الإمارات لرفع الدعم عن حفتر الذي نصّب نفسه "حاكماً عسكرياً لليبيا"؟
إعادة تموضع؟
ونتوقف مرة أخرى مع تصريحات المسماري بشأن "إعادة التموضع" في محاور بطرابلس، والذي لا يعني سوى "الانسحاب" في العرف العسكري، والذي يوضح أن السقوط المدوي لأكبر قاعدة جوية في المنطقة الغربية بدأ يجد صداه في الجبل الغربي والأحياء الجنوبية لطرابلس، وكذلك في مدينة ترهونة (90 كلم جنوب شرق طرابلس ولا تزال تسيطر عليها ميليشيات حفتر)، لذلك من المتوقع أن تكون الساعات المقبلة حافلة بالأحداث، بحسب تقرير آخر لوكالة الأناضول، الأربعاء 20 مايو/أيار.
المسماري نفى الانسحاب الكلي من محاور القتال بطرابلس، لكنه قال إن هذا الانسحاب مجرد "إعادة توزيع قوات وتموضع في المحاور القتالية، مع فك الاشتباك ببعض الأحياء السكنية المكتظة، بمناسبة عيد الفطر".
لكن لم يسبق لحفتر أن انسحب طيلة أكثر من سنة من أي حي في العاصمة سيطر عليه، إلا بالقوة، لذلك من المستغرب أن ينسحب من أحياء بسبب العيد، أو اكتظاظها بالسكان، رغم إقدام قواته على قصف محطات الكهرباء والمياه والمستشفيات طوال شهر رمضان، مثيراً انتقادات دولية واسعة.
فقرار الانسحاب من أحياء في جنوبي طرابلس جاء بعد ساعات فقط من سقوط قاعدة الوطية، وسبق ذلك إدانات دولية وأممية، بما فيها فرنسا، حليفة حفتر، لاستهدافه أحياء شعبية والمستشفى المركزي بطرابلس، ما أوقع قتلى وجرحى في صفوف المدنيين، وأثار غضباً داخلياً ودولياً.
كما أنه جاء بعد إدانة واسعة لقصف مقرات دبلوماسية تركية وإيطالية، وهو ما زاد الضغوط الدولية على ميليشيات حفتر، التي حاولت التنصل من هذه الجرائم باتهام القوات الحكومية، دون أن تقنع أحداً.
التمرد بين قبائل شرق ليبيا
الصراع بين حفتر وعقيلة صالح يكشف أيضاً أن زعيم الحرب دخل في مشاكل ليس فقط مع قبيلة العبيدات (كبرى قبائل الشرق)، بل أيضًا مع قبيلتي الحاسة والمغاربة، بحسب بويصير، الذي أضاف أن قبائل الشرق الليبي بعد أن اتضح لها أن طريق حفتر مسدود، بدأت تتخلى عنه، لذلك "ذهبت قبائل العواقير، التي أنتمي إليها وهي ثاني أكبر قبيلة في الشرق، إلى عقيلة صالح، بما يعني أن هناك بداية تمرد على حفتر، فالناس يريدون اقتسام الغنائم السياسية، لكنهم يبتعدون عن المهزوم".
ما ذهب إليه المحلل الليبي ذهبت إليه أيضاً تحليلات أخرى تتحدث عن سحب وحدات عسكرية باتجاه شرق ليبيا من المحاور الجنوبية لطرابلس، وهو ما أثار غضب ميليشيا اللواء التاسع ترهونة، التابعة لحفتر، الذي يرفض قرارات الانسحاب.
كما أن الصراع بين حفتر وصالح وصل إلى درجة تفكيك الميليشيات التي أعلنت دعمها لصالح، ومصادرة أسلحتها، على غرار الكتيبة 102 بمنطقة مرتوبة غرب مدينة درنة (شرق)، والتي تضم مسلحين غالبيتهم من قبيلة العبيدات، التي ينتمي إليها صالح، وكتيبة أبناء الزاوية بمدينة بنغازي (شرق)، واقتحام بيت قائد الكتيبة 128 حسن الزادمة ببنغازي (من قبيلة المغاربة)، بحسب وسائل إعلام محلية وعربية، بحسب تقرير للأناضول.
وكانت أغلب قبائل الشرق اجتمعت مع صالح وأيّدت مبادرته السياسية، ولم تُبدِ تأييداً لدعوة حفتر لتفويضه بحكم ليبيا، على غرار قبائل: العبيدات والمرابطين، والعواقير، والحاسة، والمغاربة، وشحات، والجبارنة، والعرفة، والفوايد والزوية، والعبيد، والجوازي، والعريبات، وإجلالات.
ورغم أن الأمر لم يصل بعد إلى المواجهة العسكرية بين القبائل المؤيدة لصالح والميليشيات المؤيدة لحفتر، فإن الوضع مشحون في إقليم برقة، وقد يضطر الجنرال الانقلابي لسحب بعض ميليشياته من طرابلس لتثبيت معاقله في الشرق، كما أن قبائل الشرق من المتوقع أن تطلب من أبنائها الذين يقاتلون في طرابلس والمنطقة الغربية العودة، استعداداً لأي مواجهة محتملة مع حفتر.