رغم أنه لا صوت يعلو فوق صوت مكافحة جائحة كورونا حول العالم، هناك معركة أخرى يرى البعض أنها لا تقل خطورة، وهي التصدي لغسيل الأموال بسبب الجرائم المتصاعدة المرتبطة بتلك الأنشطة غير القانونية، فما قصة شركات الخدمات المالية وعلاقتها بالجريمة المنظمة؟
مجلة بوليتيكو الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "غسيل الأموال ينتشر في شوارع لندن"، ألقى الضوء على قصة شركات الخدمات المالية وكيف أنها تعمل في إطار قانوني يجعل ملاحقة الأموال غير القانونية أمراً عسيراً.
تُمثّل محال الصرافة وشركات تحويل الأموال شريان الحياة بالنسبة لمجتمعات المهاجرين، الذين يرسلون الأموال إلى أوطانهم. في الوقت نفسه، تؤدي تلك الشركات دوراً رئيسياً في تنامي تجارة المخدرات وتأجيج موجة من جرائم العنف في لندن.
وبينما يطور المصرفيون في المملكة المتحدة آليات جديدة مُفصّلة للتحقّق من مصادر الأموال، تحوّل غاسلو الأموال والمجرمون إلى أماكن أخرى لإيداع وتحويل أموالهم غير الشرعية من خلال ما يُعرف بـ "شركات الخدمات المالية".
يقول ضابط شرطة بريطاني متقاعد عمل حوالي 10 سنوات في مكافحة الجرائم المالية إنَّ تلك الشركات نادراً ما تطلب إثباتاً لمصدر الأموال، وأضاف أنَّ غياب التنسيق حتى بين أعضاء الشركات الكبرى في مجال التحويلات المالية مثل "ويسترن يونيون" و"موني غرام" يسمح للمجرمين بإجراء تحويلات صغيرة متعددة إلى نفس الوجهة بدون أن تُكتشف.
معدلات جريمة مرتفعة
وفي الأشهر التسعة الأولى من عام 2019، سجّلت لندن 90 جريمة قتل، بالإضافة إلى ثلث إجمالي عدد جرائم الطعن بالسكين المُسجّلة في إنجلترا وويلز، بمتوسط 42 جريمة طعن بالسكين يومياً طوال العام.
ويقول خبراء إنّ ثمة صلة مباشرة بين تصاعد موجة الجريمة في لندن والعدد المتزايد لمحال الصرافة وشركات تحويل الأموال. فوفقاً لأحدث البيانات المسجلة، يوجد في المدينة حوالي 9000 محل من هذا النوع. في الوقت نفسه، يشير مسؤولون إلى أنَّ العدد الحقيقي يُرجح أن يكون أعلى بكثير، لأنَّ ثمة عدداً كبيراً منهم يعمل دون تسجيل.
مع زيادة نمو هذا القطاع، تحذر الشرطة وعدد من النشطاء من أنَّ تقاعس السلطات المالية عن التطبيق الصارم لللوائح الحاكمة لتلك المعاملات يخاطر بتفاقم الوضع وتسريع معدل الجرائم العنيفة وعمليات غسيل الأموال.
تعمل رغم كورونا
وأغلقت قوات الشرطة في عام 2019 إحدى شركات الخدمات المالية، التي نفّذت عمليات غسيل أموال بقيمة 310 ملايين جنيه إسترليني (381 مليون دولار) على مدى عام واحد، وقال ضباط في شرطة العاصمة "ميتروبوليتان" لبوليتيكو إنَّه على الرغم من إجراءات الإغلاق المفروضة بسبب تفشي فيروس كورونا، لا تزال بعض عصابات لندن الأكثر خطورة ترتاد شارع "كوينز واي" –أحد شوارع التسوق المزدحمة في المدينة، والذي يضم حوالي 12 شركة تُقدّم خدمات الصرافة وإرسال واستلام الأموال، حيث صنّفت الحكومة البريطانية تلك الشركات على أنَّها تُقدّم خدمات أساسية، مما سمح لها بمواصلة العمل خلال الإغلاق.
يقول هانافورد، عضو سابق في إحدى العصابات بلندن ترك المجال الإجرامي ويتحدث الآن في المدارس عن مخاطر الجريمة المُنظّمة، في مقابلة عبر الهاتف لمجلة "POLITICO"، إنَّ "أرباح تجارة المخدرات كبيرة للغاية. تُرسل تلك الأموال إلى الخارج عبر شركات تحويل الأموال. وفي بعض الحالات، يجري تشغيل تلك الأموال غير الشرعية من خلال شركات صورية مختلفة في بلاد أخرى تتسم بتساهل قوانينها وآلياتها الرقابية، ثم تُرسل الأموال مرة أخرى إلى المملكة المتحدة كدخل نظيف من نشاط مشروع ظاهرياً".
في ضوء ذلك، أصبح هذا القطاع يُشكّل خطراً جلياً وتشوبه نقاط ضعف واضحة على الرغم من أنَّ غالبية شركات الخدمات المالية تعمل في إطار القانون.
قال نيك ستيفنز، رئيس إدارة مكافحة الجريمة المنظمة بشرطة العاصمة "متربوليتان"، في خطاب ألقاه في ندوة مكافحة الجريمة الاقتصادية بجامعة "كامبريدج"، إنَّ عدداً من شركات الخدمات المالية تغض الطرف عن اللوائح التنظيمية، التي تتطلب منهم الاحتفاظ بسجلات دقيقة للمعاملات، وذلك يحدث غالباً تحت ضغط من أفراد العصابات.
وأضاف ستيفنز أنَّ تلك الشركات، التي تُزيّف السجلات أو تفشل في الاحتفاظ بها بالكامل، تساعد "المجرمين على غسل مبالغ كبيرة ترتبط معظمها بتجارة المخدرات وأنشطة إجرامية أخرى مثل الاحتيال والاتجار بالبشر".
من يجب أن يوقف تلك الأنشطة؟
تُقدّر الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة المُنظّمة في المملكة المتحدة (NCA ) أنَّ ما لا يقل عن 1.5 مليار جنيه إسترليني (1.8 مليار دولار) من الأموال المتحصلة من أنشطة إجرامية تخضع لعمليات غسل وتبييض من خلال شركات الخدمات المالية في المملكة المتحدة، معظمها في لندن.
وقد نشرت الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة المُنظّمة تنبيهاً في فبراير/شباط لتحذير شركات الخدمات المالية المُسجّلة من أنَّ شبكات الجريمة المنظمة الخطيرة تستهدف هذا القطاع على وجه التحديد بسبب نقاط ضعفه في الكشف عن الأموال القذرة.
تقع مسؤولية تنظيف هذا القطاع على ثلاث مؤسسات نادراً ما تعمل معاً: مصلحة الضرائب في المملكة المتحدة، المعروفة باسم هيئة الإيرادات والجمارك التابعة لحكومة صاحبة الجلالة (HMRC)، والهيئة البريطانية لمراقبة السلوك المالي (FCA)، والشرطة البريطانية.
لكن هذا التقسيم للمهام، لاسيما بعد سنوات من التخفيضات في ميزانيات القطاع العام، يميل إلى خلق ارتباك نتج عنه إزالة مهمة تنفيذ اللوائح الخاصة بشركات الخدمات المالية من قائمة الأولويات لصالح مهام أخرى.
وأشار العديد من أفراد الشرطة البريطانية، الذين تحدثوا إلى مجلة "POLITICO"، شريطة عدم الكشف عن هويتهم، إلى أنَّ السلطات المسؤولة عن الإشراف على شبكات إرسال واستلام الأموال قد اختارت اتّباع "نهج متساهل" عندما يتعلق الأمر بمؤسسات الخدمات المالية، لأنَّ هذه الشركات مملوكة في الغالب لمجتمعات المهاجرين وتُستخدم عادةً لخدمتهم.
تعليقاً على ذلك، قال أحد المحقّقين بالشرطة البريطانية، طلب عدم الكشف عن اسمه: "إنَّهم يخشون أن يوصموا بالعنصرية".
ومن جانبها، رفضت مصلحة الضرائب البريطانية التعليق على هذا الادعاء.
وقال صاحب إحدى الشركات التي تُقدّم خدمة تحويل الأموال إنَّه من أجل الالتفاف حول الشروط الأكثر صرامة لمكافحة غسيل الأموال، يُسجّل بعض مالكي شركات الخدمات المالية أنفسهم كعملاء لشركات أكبر تقدم خدمة تحويل الأموال –مثل ويسترن يونيون وموني غرام- بدلاً من وكلاء مستقلين، حيث يجذب هذا الأخير مستوى أعمق من التدقيق.
ومع ذلك، تقع مسؤولية التحقّق من عمليات غسيل الأموال المشتبه بها على عاتق مالكي شركات الخدمات المالية، حتى عندما يكونون عملاء لشركات أكبر حجماً تعمل في مجال تحويل الأموال. لا تعتبر الشركات الأكبر مسؤولة مسؤولية مباشرة في حال ارتكب مستخدمون على منصتها جريمة.
هذا يخلق منطقة رمادية يصعب فيها على المُحقّقين تحديد المسؤول عن عملية التحقّق من شرعية التحويلات المالية.
حتى عندما يكشف المحققون أدلة على ارتكاب مخالفات، تستطيع شركة الخدمات المالية مواصلة العمل بحرية حتى يصدر قرار إدانة ضد مالكها في المحكمة، الأمر الذي قد يستغرق سنوات في النظام القضائي البريطاني -إذا حدث ذلك على الإطلاق- وفقاً للضابط المتقاعد.
ورداً على أسئلة من مجلة POLITICO حول هذا الأمر، أكدت كل من شركة "ويسترن يونيون" وشركة "موني غرام"، اللتين تهيمنان معاً على قطاع التحويلات المالية على مستوى العالم، أنَّ لديهما ضوابط قوية للكشف عن أي أنشطة غير مشروعة وردعها.
وقالت متحدثة باسم شركة "ويسترن يونيون" إنَّ الشركة "لديها التزام راسخ بمنع إساءة استخدام خدمتها. وإنَّها توجّه موظفيها ووكلاءها لكشف النشاط أو السلوك المشبوه والإبلاغ عنه على الفور".
وفي نفس السياق، قال متحدث باسم شركة "موني غرام" إنَّ "الشركة لديها خبراء قانونيون لإجراء تحقيقات في عمليات غسيل الأموال المشتبه بها لمساعدة المُكلّفين بإنفاذ القانون في القبض على غاسلي الأموال وتجار المخدرات وغيرهم من المجرمين بالتعاون مع السلطات الوطنية".
تجدر الإشارة إلى أنَّ هاتين الشركتين قد دفعتا غرامات مالية بملايين الدولارات في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية -لكن ليس في المملكة المتحدة- بسبب إخفاقات في ضوابط مكافحة غسيل الأموال، ومن ثمَّ، وعدت كلتا الشركتين بتشديد المعايير الخاصة بهما في هذا الصدد.
وقد أدّت زيادة نسبة تسجيل الجرائم المقلقة في لندن إلى تكثيف الضغط على الحكومة، التي بدأت في اتخاذ خطوات أولية لمعالجة هذه القضية.
وعلى الرغم من أنَّ السلطات البريطانية أغلقت العديد من شركات الخدمات المالية في لندن على مدار السنوات الماضية، يقول خبراء إنَّ العمليات غير النزيهة تواصل الازدهار دون عوائق في أماكن أخرى في المدينة على الرغم من الحملات الدورية.
في المقابل، يتهم العاملون في صناعة التحويلات المالية الحكومة بعدم اتخاذ ما يكفي من الإجراءات لتنقيح هذا القطاع. قال بوب ليدون، رئيس رابطة مؤسسات الدفع في المملكة المتحدة (AUKPI): "يتعيَّن على الحكومة تخصيص المزيد من الموارد لإنفاذ القانون لمعالجة هذه المشكلة". وأضاف: "ليس من مصلحة أعضائنا وجود كيانات مشبوهة. يجب تطبيق القانون، اذهب الآن واعتقل المجرمين".
وكانت الرابطة قد طالبت بإجراء تحقيق مُحدّد الأهداف ضد الشركات المنحرفة، بدلاً من المداهمات وترويج دعاية مثيرة تؤثر على سمعة القطاع بأكمله.