التداعيات الاقتصادية لوباء كورونا حول العالم كارثية ويرى البعض أنها أسوأ من الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، لكن محللين آخرين يرون أن الكارثة العالمية وإن كانت تاريخية أي غير مسبوقة، إلا أن التعافي منها ربما لا يستغرق طويلاً لأسباب متعددة، ولكن بشروط.
إشارات تبعث على التفاؤل
تحت عنوان "كثير من الأمل: الكارثة تاريخية لكنها ليست كساداً كبيراً آخر"، نشر موقع WHYY الأمريكي تقريراً عن السقوط الحر الذي يواجهه الاقتصاد الأمريكي حالياً نتيجة لوباء كورونا، وكيف أن كثيراً من الباحثين والخبراء لجأوا لكتب التاريخ لعقد المقارنات مع الأزمات الاقتصادية السابقة بحثاً عن توقعات لأقرب السيناريوهات المحتملة، وتصب معظم تلك السيناريوهات فيما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي أو ما يعرف بفترة الكساد الكبير.
وعن ذلك يقول بين بيرنانكي رئيس الاحتياطي الفيدرالي السابق إنه "من الواضح أن الناس قد عقدوا مقارنات مع الكساد الكبير، لكنها ليست مقارنة جيدة"، ويرى بيرنانكي – الذي درس الكساد الكبير – أن تلك الأزمة الاقتصادية سببها كان انهياراً مالياً وزادها سوءاً اختيارات سياسات خاطئة مثل قرار الاحتياطي الفيدرالي وقتها برفع أسعار الفائدة.
وربما تكون أهم سمات الكساد الكبير كأزمة اقتصادية هي استمراره لنحو 12 عاماً، ولكن رغم أن بيرنانكي لا يتوقع أن يستعيد الاقتصاد عافيته من كارثة الوباء في الأشهر الستة المقبلة، إلا أنه لا يتوقع أن تمتد الأزمة لعشر سنوات مثلاً، مضيفاً أنه "لو سارت الأمور على ما يرام، خلال عام أو اثنين يجب أن نكون في موقف أفضل بصورة أساسية"، بحسب ما قاله في ندوة بمؤسسة بروكينجز الشهر الماضي.
أزمة تاريخية مماثلة
رأي بيرنانكي ليس شاذاً في الواقع وليس رأي الأقلية أيضاً، فدروس التاريخ نفسها تؤيد هذا الرأي المتفائل، وعلى سبيل المثال ضربت الإنفلونزا الإسبانية عام 1918 العالم واقتصاده، لكن التعافي الاقتصادي كان سريعاً بصورة نسبية، وعن ذلك تقول كارولا فريدمان وهي مؤرخة اقتصادية في مدرسة كيلوج للإدارة: "أعتقد أنه يوجد الكثير من مسببات التفاؤل".
الوباء المعروف بالإنفلونزا الإسبانية قتل نحو 50 مليون شخص حول العالم منهم مئات الآلاف في الولايات المتحدة، وتسبب أيضاً في اتخاذ إجراءات "تباعد اجتماعي" هي نفسها بعض الإجراءات المتخذة حالياً لمكافحة تفشي وباء كورونا وتم إغلاق الحانات والمطاعم والمدارس والكنائس وغيرها.
ورغم ذلك كان الانكماش الاقتصادي "بسيطاً في معظمه ومؤقتاً في تأثيره"، بحسب فريدمان، وفي العقد الذي تلى الإنفلونزا الإسبانية، شهدت الولايات المتحدة نمواً اقتصادياً لافتاً، وتعتقد المؤرخة الاقتصادية أن "الأمر نفسه يمكنه أن يتكرر مع وباء كورونا"، مضيفة لموقع NPR: " سرعان ما يستعيد الناس الثقة في التفاعل مرة أخرى ويستطيعون معاودة نشاطهم اليومي، لا أتوقع أن يستمر التراجع الاقتصادي طويلاً".
مؤشرات البورصات وأسعار النفط
ويأتي في هذا السياق ما شهدته الأسهم الأوروبية من تعاف اليوم الإثنين 18 مايو/أيار بعد أن شهدت أسوأ أسبوع في شهرين، حيث يأمل مستثمرون في أن يتعافى الاقتصاد تدريجياً مع تخفيف الكثير من الدول إجراءات الإغلاق بسبب كورونا، بحسب رويترز.
فقد ارتفعت أسهم شركات النفط الكبرى توتال وبي.بي ورويال داتش شل نحو 4% وقادت مكاسب السوق مع ارتفاع أسعار النفط أكثر من دولار مدعومة بتخفيضات إنتاج ومؤشرات على تعافي الطلب شيئاً فشيئاً، كما دعم سهم توتال أنباء إلغاء الشركة خطط شراء أصول أوكسيدنتال بتروليوم في غانا والموافقة على شراء أصول من شركة طاقة برتغالية.
وقبل أقل من شهر كانت أسعار النفط، خصوصاً الزيت الصخري الأمريكي غرب تكساس، قد شهدت انهياراً تاريخياً وصل لبيعه بسالب 37 دولاراً لعقود تسليم مايو/أيار الجاري، بسبب التكلفة العالية للتخزين وقرب امتلاء الخزانات وتدني الطلب بسبب الإغلاق الاقتصادي.
لكن اليوم الإثنين يتم تداول خام غرب تكساس عند مستوى 31.08 دولار للبرميل بعدما سجل أعلى مستوى منذ 16 مارس/آذار، وسجل عقد يوليو/تموز الأكثر تداولاً 31.05 دولار مرتفعاً 1.53 دولار للبرميل، ورغم أن عقد الخام الأمريكي تسليم يونيو/حزيران غداً الثلاثاء 19 مايو/أيار، إلا أنه ليس هناك ما يشير لتكرار الهبوط التاريخي الذي حدث الشهر الماضي عشية انتهاء العمل بعقد مايو/أيار، بسبب مؤشرات على تعافي الطلب على الخام وأنواع الوقود من كبوته.
كما أن الإنتاج ينخفض مع تقليص شركات الطاقة الأمريكية عدد حفارات النفط والغاز العاملة لأقل مستوى على الإطلاق للأسبوع الثاني على التوالي، وساهم ذلك جزئياً في تهدئة المخاوف من نفاد طاقة التخزين في نقطة تسليم عقد الخام الأمريكي في كاشينج بأوكلاهوما.
خام برنت أيضاً بدأت أسعاره في الارتفاع حيث وصل اليوم إلى 33.83 دولار للبرميل، بعد أن لامس أعلى مستوى له منذ 13 أبريل/نيسان، ومن المتوقع أن تواصل الأسعار ارتفاعها في ظل تخفيضات الإنتاج القياسية وارتفاع الطلب على النفط مع بدء العودة تدريجياً للأنشطة الاقتصادية.
إجراءات يجب اتخاذها
بالطبع لا أحد يمكنه الجزم بكم سيستغرق الناس حتى يشعروا بالراحة والاطمئنان كي يخرجوا للتسوق أو يسافروا جواً أو براً مرة أخرى، لكن المؤكد أن الحكومات سيكون عليها إنفاق المزيد من الأموال لتحفيز الاقتصاد ومساعدة الأسر المتضررة، وهي أعباء على الموازنة العامة لكنها مخاطرة تستحق الإقدام عليها، بحسب رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الحالي جيروم باول، مضيفاً أن "تدخل الحكومة لدعم الاقتصاد سيقينا شرور طول فترة الكساد".
لكن الشيء الذي قد يؤخر تعافي الاقتصاد ويطيل أمد الأزمة هو بعض السياسات الحكومية، ومنها إجراءات الوقاية الاقتصادية المحلية، واللافت هنا أن هذا بالتحديد ما يريده الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وجاءت كارثة الوباء لتضعف المقاومة والرفض لما يريد الرئيس اقتصادياً.
في الأسبوع الماضي، قال ترامب خلال مقابلة مع قناة فوكس نيوز: "سلاسل الإمداد الغبية المنتشرة حول العالم – توجد سلسلة إمداد منتشرة في أنحاء العالم ويمكن لقطعة واحدة صغيرة يتم تصنيعها في مكان صغير في العالم أن تواجه مشاكل وساعتها تفسد السلسلة برمتها"، مضيفاً: "قلت إننا لا يجب أن نعتمد على سلاسل الإمداد. بل يجب أن تكون جميعها داخل الولايات المتحدة".
والواقع أن أزمة الكساد الكبير نفسها تقدم درساً مفيداً في هذا الشأن، ففي ثلاثينيات القرن الماضي، أدارت الولايات المتحدة وغيرها من الدول ظهورها للتجارة وفرضت تعريفات مرتفعة للغاية على الواردات من الخارج بغرض تقديم الدعم للمنتجات المحلية ومساعدة الاقتصاد المحلي المنهك، لكن تلك السياسات ارتدت بشكل سلبي تماماً على الجميع.
وعن ذلك يقول تشاد باون المحلل بمعهد بيترسون للاقتصادات الدولية إن تلك السياسات هي السبب الرئيسي في امتداد الكساد الكبير لسنوات طويلة، مضيفاً أن "ذلك جعل من الصعب جداً على جميع الدول أن يتعافى اقتصادها مرة أخرى مما فرض حتمية التجارة البينية لمساعدة تلك الاقتصادات".
صحيح أن اتخاذ إجراءات حماية الاقتصاد المحلي هي رد فعل طبيعي في زمن الأوبئة، باعتراف باون، لكنه حذر في الوقت ذاته من أن تلك الإجراءات لها تأثير عكسي، مضيفاً أن وباء كورونا لن يؤدي بالضرورة إلى كساد كبير آخر، لكن السياسات الانعزالية وإجراءات الحماية الفردية من جانب الدول حتماً ستؤدي لذلك.