منذ مطلع العام الجاري، أبقت القيود التي فرضتها معظم دول العالم للحد من جائحة فيروس كورونا، ملايين الأشخاص في منازلهم، الأمر الذي أدى إلى توقف حركة السفر والسياحة الدوليَّين، حيث يؤثر الإغلاق على كل شيء يتعلق بصناعة السياحة، بدءاً من المكاتب السياحية الصغيرة، إلى الشركات الضخمة، مثل Marriott International، وعملاق السياحة العالمية توي "TUI"، والتي قررت يوم الأربعاء شطب ما يصل إلى 8000 وظيفة. يأتي ذلك في الوقت الذي تسعى فيه بعض كبرى شركات الطيران العالمية، مثل شركة لوفتهانزا الألمانية وغيرها، إلى الحصول على خطط إنقاذ من حكوماتها؛ من أجل البقاء وعدم الانهيار.
ما الذي تمثله صناعة السياحة للاقتصاد العالمي؟
تمثل صناعة السفر والسياحة نحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهي واحدة من كل 10 وظائف في العالم، وفقاً لمجلس السفر والسياحة العالمي. وقال المجلس الشهر الماضي، إن ما يصل إلى ثلث هذه الوظائف، أو أكثر من 100 مليون وظيفة، ونحو 2.7 تريليون دولار من الناتج المحلي الإجمالي قد تكون معرَّضة للخطر نتيجة للأزمة الحالية. في حين ستكون الدول التي تعتمد بشكل كبير على الدولارات السياحية، الأكثر تضرراً.
ووفقاً لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة، فإن انخفاض دخل السياحة بنسبة 25% سيقلل في المتوسط 7% من الناتج المحلي الإجمالي بين "الدول الجزرية الصغيرة النامية"، وهو انكماش قد يصل إلى 16% في أماكن مثل جزر المالديف وسيشيل.
كما أن الوضع سيكون صعباً للغاية في أوروبا، التي تفتخر بنصف عدد السائحين الدوليين في العالم. إذ يقدر البرلمان الأوروبي أن صناعة السياحة تخسر نحو مليار يورو (1.1 مليار دولار) في الإيرادات شهرياً، وهي ضربة مدمِّرة لـ27 مليون عامل بالقطاع السياحي في الاتحاد الأوروبي.
وقالت إيزابيل أوليفر، وزيرة السياحة الإسبانية مؤخراً، إن الأزمة في قطاع السياحة أعمق مما يمكن أن نتخيله قبل شهرين. وأضافت أن قطاع السياحة كان من أوائل القطاعات التي عانت من عواقب الأزمة وسيكون من آخر القطاعات التي تتعافى.
مقايضة إعادة تشغيل السياحة بخطورة رفع الإغلاقات
على الجانب الآخر، تأمل بعض الدول مثل اليونان، بدء بالترحيب بالسياح بحلول الأول من يوليو/تموز المقبل، لكن رئيس الوزراء كيرياكوس ميتسوتاكيس يعترف بأنها "مقايضة صعبة للغاية". وقال ميتسوتاكيس لشبكة CNN، في مقابلة أُجريت معه في وقت سابق من هذا الشهر: "لا أحد يعرف بالضبط كيف سيتم ذلك".
ويرى خبراء أن البدء في عودة السياحة، على الرغم من أهميتها بالنسبة للاقتصاد العالمي، سيكون معقداً بشكل خاص، إذ ثبت أن إعادة فتح الأعمال وإعادة تشغيل المصانع أمر صعب بما فيه الكفاية، ولكن عودة السفر ستتطلب تخفيف القيود على الحدود والتعاون الدولي، والأهم من ذلك وجود المسافرين أنفسهم.
إذ قال جون هولاند كاي، الرئيس التنفيذي لمطار هيثرو بلندن، أكثر المطارات ازدحاماً، في تصريح صحفي، الشهر الماضي، إن "القضية الحاسمة هي بناء الثقة بين الدول بأنه من الآمن إعادة فتح الحدود دون التعرض لخطر الإصابة مرة أخرىـ وبناء الثقة لدى عامة الناس بأنها آمنة للطيران".
المطارات هي المفتاح لعودة السياحة
لكن في الوقت نفسه، تقوم شركات الطيران بالفعل بتقليص حجم أساطيلها وتقليص آلاف الوظائف، بسبب استمرار الجائحة. تقول شركة IAG التابعة لشركة الخطوط الجوية البريطانية، الأسبوع الماضي، إنها لا تتوقع أن يتعافى طلب الركاب إلى مستويات 2019 قبل عام 2023.
ومع بدء عودة الرحلات المتوقع، ستحاول المطارات والفنادق تطبيق الفحوصات الطبية على المسافرين، وتعزيز بروتوكولات التنظيف، وهو ما سيضيف ثقلاً أكبر عليها من حيث التكلفة، في الوقت الذي يعاني فيه القطاع السياحي من حالة مالية يرثى لها بسبب الإغلاقات.
وتقول غلوريا جيفارا، الرئيسة التنفيذية لمجلس السياحة والسفر العالمي، إن مثل هذه الإجراءات ستكون ضرورية لاستعادة ثقة المسافرين، قبل أن يتوافر لقاح لـCovid-19 على مستوى العالم، وقالت لشبكة CNN: "إن أهم جزء في تطبيق الفحوصات الطبية وبروتوكولات التنظيف هو المطارات".
ويعمل المجلس العالمي للسفر والسياحة مع الحكومات وشركات السفر الكبيرة، للاتفاق على الفحوصات الطبية الموحدة وبروتوكولات التنظيف. ويتوقع إصدار مبادئ توجيهية لقطاع السياحة هذا الأسبوع، مع توجيه للمطارات باتباعها.
هل سيعود القطاع قريباً بالتزامن مع عودة الرحلات الجوية؟
الثلاثاء الماضي، أعلنت شركة Ryanair، الأيرلندية منخفضة التكلفة، والتي تنقل ملايين السياح في جميع أنحاء أوروبا كل عام، عن إجراءات صحية جديدة سيتم تنفيذها على متن الطائرات كجزء من خطط لاستعادة 40% من الرحلات التي فُقدت، بدءاً من 1 يوليو/تموز القادم.
حول ذلك، تقول جيفارا من المجلس العالمي للسفر، إن أي استئناف سريع وفعال للسفر لن يحدث إلا إذا وافقت الحكومات في جميع أنحاء العالم على مجموعة مشتركة من البروتوكولات الصحية، وحتى لو حدث ذلك، فمن المتوقع أن يكون السائحون الدوليون غير موجودين تقريباً هذا العام (2020).
وتقدِّر منظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة انخفاضاً في الصناعة بنسبة تصل إلى 80% مقارنة بعام 2019، اعتماداً على طول القيود المفروضة على السفر. ويقارَن هذا مع انخفاض بنسبة 0.4% خلال وباء السارس في عام 2003 وانخفاض بنسبة 4% في عام 2009 بعد الأزمة المالية العالمية.
وقالت هيئة الأمم المتحدة، في بيان لها، الأسبوع الماضي، إن هذه أسوأ أزمة واجهتها السياحة الدولية، في حين سيتفاوت تأثيرها السلبي بدرجات مختلفة في مختلف المناطق حول العالم، مع توقُّع عودة السياحة لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ أولاً.
ماذا عن السفر الداخلي؟
تشير بعض العلامات المبكرة على أن السفر المحلي يعود تدريجياً مرة أخرى في بعض البلدان، على الرغم من أنه من السابق لأوانه استدعاء الانتعاش. إذ بدأت الصين تخفيف قيود إغلاق الفيروس التاجي في مارس/آذار، بعد إغلاقٍ شبه كامل للبلاد في أواخر يناير/كانون الثاني. فيما عادت أكثر من 30% من طاقة الخطوط الجوية المحلية منذ الأول من مارس/آذار.
ومع تخفيف بعض القيود على السفر، فإن السوق المحلية بالصين هي التي ستبدأ في العودة أولاً، فيما لا يزال إلغاء الرحلات مرتفعاً، مما يشير إلى أن ثقة المسافرين لم تستعَد بالكامل بعد. واضطرت بعض مناطق الجذب السياحي في الصين إلى الإغلاق بعد فترة وجيزة من إعادة الفتح، بسبب قلة تدفق الزوار. وتُجدد البلاد الآن القيود في بعض المناطق بعد أن تم الإبلاغ عن حالات جديدة للفيروس في مدينتين، وضمن ذلك مركز ووهان للوباء.
وفي مكان آخر، لاحظت شركة Airbnb ارتفاعاً في الحجوزات المحلية بالدنمارك وهولندا، حسبما قال الرئيس التنفيذي بريان تشيسكي لصحيفة فاينانشال تايمز مؤخراً. وقال تشيسكي في رسالة إلى الموظفين نُشرت على موقع الشركة على الإنترنت: "سيرغب الناس في خياراتٍ أقرب داخل الوطن وأكثر أماناً وبأسعار معقولة".
لكن هذا لا يعني أنه سيتم تحقيق التعافي الكامل في السياحة الداخلية بأي وقت قريب، وقد تؤدي تجربة الصين إلى إعادة فتح الدول الأخرى حركة التنقل بحذر أكبر. وفي نهاية المطاف، من المتوقع أن يكون أداء الدول التي تعتمد بشكل أكبر على الزوار المحليين والإقليميين، أفضل من غيرها سياحياً.
وعلى رأس هذه القائمة الولايات المتحدة والمكسيك والبرازيل والصين واليابان والهند والفلبين وألمانيا والمملكة المتحدة، حيث تمثل السياحة الداخلية أكثر من 80% من إجمالي الإنفاق على السفر والسياحة، وفقاً للمجلس العالمي للسفر والسياحة. أما آسيا والمحيط الهادئ، فلديها أكبر سوق للسفر الإقليمي، والذي يبشر بالخير لبعض الجزر، مثل جزر المالديف وفيجي، على افتراض أن السياح يختارون وجهاتٍ أقرب إلى بلادهم. كما يمكن أن تستفيد دولٌ مثل تايلاند وكمبوديا، اللتين تستمدان أكثر من 20% من ناتجها المحلي الإجمالي من السفر والسياحة.
ووفقاً لمنظمة السياحة العالمية، ينفق السياح الصينيون معظمهم على السفر حول العالم، وهو ما يمثل خُمس الإنفاق السياحي الدولي في عام 2018، ما يمثل 277 مليار دولار، يتبعهم السياح من الولايات المتحدة بـ144 مليار دولار.
ماذا عن صناعة السياحة في الشرق الأوسط؟
قبل جائحة كورونا، كانت الدول العربية قد استثمرت في قطاعات السياحة أكثر من 300 مليار دولار قبل أن يأتي وباء كورونا ويشل هذا القطاع الحيوي. وتعتمد دول عربية كثيرة على السياحة كقطاع حيوي وفي مقدمتها مصر والمغرب والإمارات، حيث باتت هذه الدول تواجه وضعاً لا تحسد عليه بسبب كورونا، ففي مصر تزيد الخسائر المتوقعة حتى الآن على 4 مليارات دولار، فضلاً عن فقدان مئات الآلاف من فرص العمل. وفي الإمارات، خاصةً إمارة دبي، ستكون الخسائر أكبر، لأن الإمارة تعيش على السفر والسياحة والتجارة والمعارض التي توقفت أنشطتها بنسبة وصلت إلى 90%.
وحتى في دول نفطية كالسعودية والعراق فإن السياحة الدينية إلى مدن في مقدمتها مكة والمدينة والنجف وكربلاء، ستخسر أيضاً مليارات الدولارات وعشرات الآلاف من فرص العمل. وتقدر المنظمة العربية للسياحة خسائر الدول العربية في المجال السياحي بأكثر من 15 مليار دولار بسبب الفيروس.
وفي معظم الدول العربية، يمكن القول إن القسم الأكبر من استثمارات القطاع الخاص تم ضخه في المؤسسات والمنتجعات السياحية والقطاعات التابعة لها كالنقل المطاعم والمقاهي، خاصة على شواطئ مصر وتونس والإمارات.
وحصلت فورة الاستثمار السياحي هذه على أساس أن قطاعي السفر والسياحة سيكونان بمثابة "نفط العرب في القرن الحادي والعشرين". وعلى هذا الأمل الذي دعمته زيادة العائدات السياحية إلى مستويات شكلت 8 إلى 12% أو أكثر من الناتج المحلي الإجمالي، ضخت الدول العربية التي جعلت السياحة من أولوياتها، مبالغ ضخمة زادت على 300 مليار دولار في السياحة والسفر.
في السياق، أعلنت دول عربية مختلفة عن نيتها تقديم دعم للمؤسسات السياحية والمتمثل بشكل أساسي في تقديم إعفاءات ضريبية وإعادة جدولة ديونها، إلا أن ذلك لا يساعدها سوى لأسابيع معدودة بحسب تقارير، لاسيما أن هذه الحكومات تعاني نقص الموارد المالية وتراكم الدين والعجز في موازناتها، وفوق كل هذا من الفساد المستشري.
وفي ضوء ذلك يبدو أن الحل الأنسب والأكثر صواباً هو تبني وصفات محلية تقوم على الابتكار والمرونة والتكيف مع الواقع الجديد تيمناً بمبدأ "الحاجة أُمُّ الاختراع"، كما يقول تقرير لموقع "DW" الألماني، وهنا يتبادر إلى الذهن تجارب يمكن الاقتداء بها مثل تجربة سويدية تقوم بإعادة تأهيل المضيفين الذين فقدوا عملهم بشركات الطيران، للعمل في القطاع الصحي الذي يعاني نقص العمالة. وتقوم هذه التجربة على قيام المشافي الجامعية بإعادة التأهيل الذي تدفع تكاليفه الحكومة. وقد تم حتى الآن تأهيل مئات المضيفين، في دورات قصيرةٍ مدتها بضعة أسابيع، وإلحاقهم بوظائف شاغرة في دُور رعاية المسنين والمستوصفات والمشافي.
ومما أظهرته تجربة كورونا أيضاً، أن هناك حاجة ماسة لرفع مستوى الأمن الغذائي والدوائي في الدول العربية اعتماداً على الموارد المحلية. وهناك أيضاً حاجة ماسة إلى تعزيز قطاع تقنية المعلومات الذي سيلعب دوراً أساسياً في التعليم والصحة والخدمات على اختلافها.
وإن إعادة تكوين العاملين في مجالات السفر والسياحة وإلحاقهم بقطاعات ضعيفة تعاني نقص العمالة، تبدو ضرورة مُلحَّة. ويعود سبب ذلك إلى أن القطاع السياحي لن يعود إلى مستوى ما قبل كورونا رغم توقُّع بعض الخبراء والمؤسسات حصول ذلك بحلول عام 2023، في حال القضاء على فيروس كورونا. بيد أن القضاء على الفيروس لا يعني العودة إلى المستوى المذكور بشكل أوتوماتيكي، لأن هناك علاقة بين انتشار الأوبئة ومشاكل تلوث البيئة والتغيرات المناخية والاختلاط بين البشر والتي تلعب كثرة السفر وكثافة وسائل النقل دوراً كبيراً في زيادة حدتها.