طرحت الحكومة اللبنانية، الأسبوع الماضي، خطةً طموحة للإنقاذ الاقتصادي في الوقت الذي تمر فيه البلاد بأسوأ أزماتها المالية في الذاكرة الحديثة. لكن ما جرى التقليل منه بشكلٍ لافت في صفحات الخطة الـ53 هي احتياطيات الغاز الطبيعي البحرية، المورد الذي جرى تضخيمه طوال سنوات باعتباره حلاً لمشكلات البلاد المالية، كما يقول موقع Middle East Eye البريطاني.
فبعد أقل من شهرين من تقديم الرئيس اللبناني التهنئة للشعب اللبناني على انضمامه أخيراً إلى نادي الدول النفطية، أعلن وزير الطاقة ريمون غجر أنَّه في حين وجدت عمليات التنقيب البحرية على آثارٍ للغاز، فإنَّه لا توجد احتياطات ذات جدوى اقتصادية في ما كان مُفترَضاً أن يكون أحد أكثر النطاقات الواعدة في البلاد.
كيف حدث ذلك؟
حصل تجمُّعٌ (كونسورتيوم) من شركات الطاقة العملاقة يتألف من شركات توتال الفرنسية وإيني الإيطالية ونوفاتك الروسية على حقوق التنقيب في أول بلوكين من بلوكات لبنان العشرة عام 2018، وهما بلوك 4 الواقع على بُعد حوالي 30 كيلومتراً من بيروت، وبلوك 9 الواقع قرب الحدود الإسرائيلية. وكان التنقيب في بلوك 9 أكثر إثارة للجدل؛ لأنَّ إسرائيل أيضاً تطالب بامتلاك حصة في المنطقة.
وبعد الترويج بصورة قوية لقدرات لبنان على إنتاج النفط والغاز لدى كلٍّ من المانحين الدوليين والشعب، حطَّم الإعلان آمال الحكومة في استغلال اكتشاف هيدروكربوني كبير كوسيلة لتُخفِّف عن نفسها عبء الديون الضخم، البالغ 90 مليار دولار.
واعتمدت الحكومة اللبنانية السابقة، التي كان يقودها رئيس الوزراء آنذاك سعد الحريري، في خطتها الاقتصادية بمشروع ميزانية 2019 إلى حدٍّ كبير على فرضية أنَّ لبنان سيحقق عائدات كبيرة من إنتاج النفط والغاز في السنوات المقبلة.
ويقول المراقبون إنَّه بالنظر إلى الترويج الكبير لثروة النفط والغاز على مدار السنوات، كان ينبغي لخطة الإنقاذ أن تمنح أهمية أكبر لهذا القطاع.
لكن هذه المرة لم تُقدَّم إلا تفاصيل ضئيلة بشأن الكيفية التي ستساهم بها احتياطيات البلاد المحتملة من الهيدروكربون في تدعيم الاقتصاد.
خطة اقتصادية دون وعود النفط والغاز
يقول علي زبيب، الخبير الاقتصادي والقانوني، لموقع Middle East Eye البريطاني: "من المدهش أنَّ الخطة التي على الأرجح ستحدد شكل الاقتصاد اللبناني لسنوات، إن لم يكن لأجيال، بالكاد تأتي على ذكر آفاق النفط والغاز بعد كل تلك الوعود التي قُطِعَت في السنوات الأخيرة باقتراب الخلاص".
ومع أنَّ الخطة طُرِحَت رسمياً في 30 أبريل/نيسان الماضي، فإنَّها كانت قد اكتملت بالفعل في وقتٍ مبكر من الشهر نفسه وسُرِّبَت بعض النقاط الرئيسية للإعلام.
وصرَّح مصدر مطلع على المسألة لموقع Middle East Eye بأنَّ الحكومة أجَّلت طرح الخطة؛ لأنَّها كانت بانتظار نتائج التنقيب في بلوك 4. وطُرِحَت الخطة بعد أيام قليلة من إعلان غجر.
وبحسب الخطة، ستسعى الحكومة للحصول على 10 إلى 15 مليار دولار من التمويل الخارجي على مدى السنوات الخمس المقبلة، بالإضافة إلى الـ11 مليار دولار التي تعهَّد بها المجتمع الدولي فعلاً في مؤتمر المانحين والمستثمرين الدوليين لدعم الاقتصاد اللبناني (مؤتمر سيدر) في باريس 2018.
لكن جرى تعليق تعهُّدات المؤتمر بسبب الفشل في تبنّي إصلاحات اقتصادية إلى جانب اندلاع انتفاضة شعبية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
أزمة من صنع الحكومة
طلب لبنان من صندوق النقد الدولي المساعدة في إنهاء الأزمة الاقتصادية، التي أدَّت إلى إعلان حالة "إفلاس سيادي" لأول مرة، إلى جانب انهيار للعملة، واحتجاجات شعبية واسعة.
ووجَّهت جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) لكمة أخرى للاقتصاد اللبناني؛ إذ اضطرت الشركات إلى الإغلاق التزاماً بإجراءات الإغلاق والحجر.
ومع تسجيل العملة أكبر تراجع في قيمتها الشهر الماضي، أبريل/نيسان، وعلى الرغم من المخاطر الصحية الناتجة عن جائحة كوفيد 19، خرج الناس مجدداً إلى الشوارع، مُتهمين الدولة اللبنانية بالإخفاق في التعامل مع أزمة من صنعها هي.
كانت الحكومة في حاجة ماسة إلى نتائج إيجابية من الحفر الاستكشافي في بلوك 4، لكن ما حدث هو أنَّها تُرِكَت بلا دعائم تستند إليها.
وصرَّحت ندى بستاني، وزيرة الطاقة والمياه السابقة، للموقع البريطاني بأنَّ اكتشاف كميات تجارية في البلوك كان من شأنه أن يترك أثراً إيجابياً على الاقتصاد، لكن لبنان كان سيستغرق سنوات ليحصد المنافع المالية.
وأصرَّت بستاني على أنَّ لبنان انضم بالفعل إلى نادي النفط والغاز، مُضيفةً أنَّ هناك حاجة لمزيد من الوقت حتى تبدأ الشركات التنقيب في بلوك 9، حيث يُفترَض أنَّ "الثروة الحقيقية" كامنة هناك.
وكان من المقرر بدء أعمال الاستكشاف في بلوك 9 قبل نهاية العام، لكنَّ غجر قال إنَّ العمل سيبدأ حين تكون الظروف ملائمة.
"هذه عقلية سرقة"
يعتقد جاد شعبان، الخبير الاقتصادي والأستاذ بالجامعة الأمريكية في بيروت، إنَّه حتى لو عُثِر على الموارد الطبيعية –الهيدروكربون أو غيره- فإنَّ النخبة السياسية اللبنانية ستستخدمها فقط لإطلاق وعود فارغة.
وقال شعبان للموقع البريطاني: "بعد الانهيار المالي، كانت المؤسسة السياسية تتطلع لتقديم الانطباع بأنَّ هناك مورداً جديداً سيُعوِّض في الحقيقة كل ما جرى فقدانه".
وأضاف أنَّ النخبة السياسية أوجدت دعاية مُبالِغة حول قطاع النفط والغاز للتأكد من ترويج الفكرة مُقدَّماً. مُستخدِماً مثلاُ شعبياً عربياً للإشارة إلى عدم جدوى الفعل: "هذا مثل بيع السمك في الماء".
يرى شعبان أنَّه حتى لو عُثِر على "البضاعة" في التنقيب الأول لبلوك 4، كانت الحكومة ستستخدمها كوسيلة لطلب قروض إضافية لإعادة تمويل النظام المعطوب، لتتدبَّر أمورها وحسب، مشيراً إلى أنَّ هذه هي نفس العقلية التي أدَّت إلى اختفاء الودائع المصرفية لكل الشعب، التي أُقرِضَت للمصرف المركزي ثُمَّ استُخدِمَت لتمويل اقتصاد الواردات. وأضاف: "هذه عقلية سرقة".