تقدمت مصر بشكوى لمجلس الأمن الدولي ضد إثيوبيا بخصوص سد النهضة، بعد وصول المفاوضات بينهما لطريق مسدود، وإصرار أديس أبابا على البدء في ملء السد بالفعل خلال شهرين، فعلامَ تعوّل القاهرة من وراء تحركها الأخير، وما البديل في حالة الفشل؟
خطاب دبلوماسي
أنباء الخطوة المصرية باللجوء لمجلس الأمن الدولي تم الإعلان عنها بصورة غير مباشرة، حيث لم تتناولها وسائل الإعلام المصرية الرسمية، ولم تنشر وزارة الخارجية بياناً بشأنها، بل نشرها موقع إثيوبي أولاً يوم الثلاثاء 5 مايو/أيار، وتلا ذلك إشارة الخارجية المصرية لخطاب أرسلته لمجلس الأمن.
موقع إثيوبيا إنسايدر نشر الشكوى المصرية التي جاءت في خطاب من 15 ورقة، شملت سرداً لنتائج المفاوضات السابقة التي تمت بين الدول الثلاث: مصر والسودان وإثيوبيا، منذ توقيع اتفاق إعلان المبادئ في مارس/آذار 2015 وحتى الآن.
وأمس الأربعاء 6 مايو/أيار، نشرت وزارة الخارجية المصرية بياناً عبر صفحتها الرسمية على الفيسبوك بعنوان "شكري يتلقى اتصالاً هاتفياً من وزير خارجية إستونيا"، جاء فيه أن الاتصال تطرّق للخطاب الذي أرسلته مصر لمجلس الأمن بشأن سد النهضة.
بيان الخارجية المصرية قال إن سامح شكري، وزير الخارجية المصري، تلقى اتصالاً هاتفياً من نظيره الإستوني "يورماس رينسالو"، تناولا خلاله سُبل دعم وتطوير العلاقات بين البلدين والتشاور حول القضايا محل اهتمام البلدين الصديقين.
وركّز البيان على ملفات التعاون الثنائي بين البلدين، وجهود مكافحة فيروس كورونا، وجاء ذكر قصة الخطاب المصري لمجلس الأمن في سياق كون إستونيا تتولى حالياً رئاسة المجلس خلال مايو/أيار الجاري.
"وأعرب الوزير الإستوني عن التطلع للتعاون الوثيق مع مصر، في إطار عضوية إستونيا في مجلس الأمن، وتوليها رئاسة المجلس خلال شهر مايو/أيار الجاري، في سبيل دعم السلم والأمن الدوليين، وذلك اتصالاً بالدور الإيجابي الذي تضطلع به مصر في هذا الصدد على المستوى الإقليمي، سواء بمنطقة الشرق الأوسط أو إفريقيا، مُؤكداً استعداد إستونيا إثارة القضايا ذات الاهتمام المشترك خلال مداولات مجلس الأمن.
"ومن جانبه، أشار الوزير شكري إلى الخطاب الذي وجَّهه لرئاسة المجلس مؤخراً، والذي تم تعميمه على أعضاء المجلس بشأن تطورات قضية سد النهضة ومراحل المفاوضات، وما اتخذته مصر من مواقف مرنة ومُتسقة مع قواعد القانون الدولي، وأهمية الانخراط الإيجابي من جانب إثيوبيا بُغية تسوية هذا الملف بشكل عادل ومتوازن للأطراف المعنية الثلاثة، وبما يضمن استدامة الأمن والاستقرار في المنطقة".
كيف ردّت إثيوبيا؟
مصر إذن أرسلت "خطاباً" لمجلس الأمن "مؤخراً" بشأن قضية سد النهضة، الذي يمثل مسألة حياة أو موت للبلد الذي يوصف بأنه "هبة النيل"، فكيف يمكن قراءة التحرك المصري ورد الفعل الإثيوبي؟
قبل محاولة الإجابة عن السؤال من الجانب المصري، نجد أن إثيوبيا ردت علانية على ما سمّته الشكوى المصرية، وذلك على لسان المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية، الذي قال إن أديس أبابا "علِمت بالشكوى، لكنها تعتقد أن مصر لن تستفيد منها، لأن ادعاءاتها لا أساس لها من الصحة".
الرد الإثيوبي متسق تماماً مع الموقف المتعنت الذي اتخذته أديس أبابا منذ تفجّر الأزمة بين البلدين، ووصولها لطريق مسدود في يوليو/تموز الماضي، اعتماداً على تفسير حكومة آبي أحمد لما جاء في اتفاق إعلان المبادئ الذي وقعته مصر والسودان وإثيوبيا في الخرطوم، في مارس/آذار 2015، والذي يعتبر الوثيقة القانونية الوحيدة الخاصة بسد النهضة حتى الآن.
مصر تهدف من وراء الشكوى أو الخطاب -أياً كانت التسمية- الموجود الآن في مجلس الأمن إلى تحرك دولي يُجبر إثيوبيا على التوقيع على الاتفاق الإطاري الذي عرضته الولايات المتحدة خلال الجولة الأخيرة من المفاوضات بين أطراف الأزمة، برعاية واشنطن والبنك الدولي، في فبراير/شباط الماضي.
مصر قبلت بالاتفاق الإطاري ووقّعت عليه بالفعل، لكن الجانب الإثيوبي رفض التوقيع، ولم يسافر الوفد إلى واشنطن من الأساس، ولم تكتفِ بذلك، بل أعلنت أنها ستبدأ بالفعل في تعبئة السد في يوليو/تموز المقبل، ووصلت الأمور إلى نقطة العداء المعلن وتحدي الإرادات.
ما الذي يمكن أن يقدمه مجلس الأمن؟
قبل أن تلجأ مصر لمجلس الأمن تقدّمت بمشروع قرار لجامعة الدول العربية لدعم موقف بلدَي المصبّ مصر والسودان في مواجهة التعنت الإثيوبي، لكن الخطوة المصرية أثبتت بالفعل أن موقف السودان أقرب لإثيوبيا منه لمصر، فالخرطوم لا ترى في سد النهضة تهديداً لها، بل على العكس، وهو ما يدفع السودان لاتخاذ موقف يتسق مع مصالحها، وفي النهاية صدر القرار العربي مؤيداً للقاهرة.
ثم جاء الإعلان عن الشكوى لمجلس الأمن، والتي تهدف مصر من ورائها إلى استصدار قرار أممي يوقف استكمال السد على أساسين: الأول مخالفة إثيوبيا لما تم الاتفاق عليه في إعلان المبادئ -بحسب تفسير مصر لبنوده- والثاني خطورة السد على مصر والسودان، بسبب الأخطاء الهندسية في تصميمه، أيضاً بحسب وجهة النظر المصرية.
لكن الأرجح أن التحرك المصري لن يؤتي ثماره، وخصوصاً في مجلس الأمن، لجملة من الأسباب، أهمها أن الملف لا يمثل أهمية كبرى لدى أي من القوى الكبرى، فالولايات المتحدة التي رعت جولات من المفاوضات لم تؤدِ لأي نتيجة مشغولة بمعركة الانتخابات الرئاسية، التي بدأت تطغى حتى على كارثة وباء كورونا الذي حصد أرواح أكثر من 74 ألف أمريكي، وأصاب أكثر من مليون و264 ألفاً، وبالتالي لن تكون على أجندة الرئيس دونالد ترامب على الأرجح قبل نوفمبر/تشرين الثاني موعد الانتخابات، كما أن الصين لديها علاقات واستثمارات ضخمة في إثيوبيا لن تخاطر بها، والأمر نفسه ينطبق على غالبية الدول الكبرى المشغولة بحرب الوباء.
مجلس الأمن على الأرجح لن يضع قضية السد على جدول أعماله في هذه الفترة بشكل رسمي دون وجود مشروع قانون يكون محوراً للنقاش ثم التصويت، وهذا في حد ذاته قد يستغرق أسابيع أو شهوراً في الظروف العادية، لكن حالياً الظروف استثنائية تماماً في ظل جائحة كورونا، ما يعني أن الملف ربما لا يصل لمرحلة النقاش الرسمي قبل أن تكون إثيوبيا بدأت بالفعل في مرحلة تخزين المياه.
الأمور كلها إذن تشير إلى أن مجلس الأمن لن يقدم حلاً لمصر يجبر إثيوبيا على التراجع عن موقفها المتعنت، خاصة أن آبي أحمد مقبل على انتخابات عامة، وجعل من قضية السد مسألة كرامة وطنية وأمن قومي لإثيوبيا، وأي تراجع عن مواقفه المعلنة يعني انتحاراً سياسياً.
أما الخيار العسكري المتمثل في محاولة نسف السد فهو سيناريو يبدو غير مطروح من الأساس بالنسبة للقاهرة، لأسباب تتعلق بصعوبة أي عمل عسكري في حد ذاته من ناحية، وتبعات الحرب إقليمياً ودولياً من ناحية أخرى.
فمن ناحية العمل العسكري، نجد أن بُعد المسافة، والتقارير عن وجود أنظمة دفاع صاروخية متطورة قدمتها إسرائيل لأديس أبابا وتم نشرها خصيصاً للدفاع عن السد يجعل محاولات تدمير السد من خلال ضربة جوية أمراً غير مضمون النتائج على أقل تقدير، بحسب آراء الخبراء العسكريين المحايدين، وهذا في حد ذاته يجعل الخيار العسكري أمام القاهرة مستبعداً.
لكن الإشارة الأكثر وضوحاً على أن الخيار العسكري ليس مطروحاً من الأساس لدى القاهرة هو استمرار التفاوض لمدة أكثر من خمس سنوات منذ توقيع إعلان المبادئ، على الرغم من أن الموقف الإثيوبي واضح منذ البداية، وهو أن سد النهضة مسألة تخص إثيوبيا وحدها، وهو ما عبر عنه قبل أسابيع وزير الخارجية بقوله إن "المياه مياهنا والسد نبنيه بأموالنا"، وبالتالي لا توجد مفاجآت بالنسبة للقاهرة، التي تشي كل خطواتها أن ما تسعى إليه هو تقليل التبعات الكارثية للسد قدر المستطاع، وليس التمسك بالحقوق التاريخية لها كدولة المصب، وهذا الموقف التفاوضي هو ما زاد من التعنت الإثيوبي.
الشكوى المصرية لمجلس الأمن إذن تأتي في إطار محاولات مصر الضغط على إثيوبيا من أجل تأخير البدء في عملية تخزين المياه خلف السد، وتوقيع الاتفاق الإطاري الذي رعته واشنطن، وفي حالة الفشل المتوقع لا يوجد لدى الإدارة المصرية أوراق أخرى يمكن التلويح بها سوى المزيد من طرق الأبواب المغلقة دبلوماسياً.
فالحكومة المصرية، خلال تقريرها السنوي الذي عرضته أمام مجلس النواب في نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي قدم لمحة عن الإجراءات التي تهدف إلى مواجهة مشكلة شح المياه، ركزت على تنمية الموارد المائية، وترشيد وتدبير الاحتياجات المائية، وترشيد استخدامات مياه الري، وذلك من خلال تنفيذ معالجة ثنائية وثلاثية مطورة، والتوسع في تطبيق نظام الري الحقلي بالزراعة، في إشارة واضحة على التسليم بالأمر الواقع في ملف السد.
الحكومة قالت أن جهود ترشيد وتدبير الاحتياجات المائية، التي تنفذها وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي، أسفرت بالفعل عن توفير ١.٥٢ مليار متر مكعب في السنوات الثلاث الماضية، وكانت قد بدأت بالفعل في تقليص زراعة المحاصيل التي تحتاج لكميات كبيرة من المياه وعلى رأسها الأرز وقصب السكر والقطن.
إجراءات الحكومة في مجال تنمية الموارد المائية تشمل أيضا الانتهاء من إنشاء قناطر أسيوط الجديدة ومحطتها الكهرومائية لتلبية الاحتياجات المائية لمحافظات "أسيوط، والمنيا، وبني سويف، والفيوم، والجيزة" وتوفير الاحتياجات المائية لمساحة ١.٦٥٠ مليون فدان.