تواجه الولايات المتحدة خياراً صعباً في الشرق الأوسط إذا واصلت حملة الضغط القصوى ضد إيران: إما أن تواجه جيش الجمهورية الإسلامية، وإما أن تنسحب من المنطقة. واستنتج تريتا بارسي، الرئيس السابق للمجلس الوطني الإيراني الأمريكي، هذا الاستنتاج القاسي مؤخراً. ومن دون شك، قد يكون بارسي مُصيباً في التحليل النهائي. يمكن أن تخرج التوترات الأمريكية الإيرانية عن السيطرة وتتحول إلى حرب شاملة لا تريدها إيران ولا الولايات المتحدة، كما يقول موقع Responsible Statecraft الأمريكي.
غير أن هناك ظلالاً رمادية تختلف فيها الهجمات الانتقامية ضد الأهداف الأمريكية، لا سيما في العراق، والمضايقات الإيرانية للسفن البحرية الأمريكية التي تمر في الخليج بين الحين والآخر، والردود المتقطعة من جانب الولايات المتحدة، وتنفصل عن الحرب الشاملة.
أمريكا تتجنّب الحرب
انخرطت الولايات المتحدة وإيران في هجمات انتقامية بعضهما ضد بعض، مع اختلاف شدتها على مدى السنوات، وقد تجنبت كلتاهما حتى اللحظة الراهنة تصعيداً لا يمكن السيطرة عليه برغم حوادث على شاكلة إسقاط الطائرة "إيران إير" الرحلة رقم 655 عام عام 1988، التي خلفت وراءها 274 قتيلاً، واغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني في وقت سابق من هذا العام.
بغض النظر عن نظريات البجعة السوداء والبجعة الرمادية المحتملة، ثمة سيناريو أرجح يشير إلى أن رغبة الولايات المتحدة في تقليل التزامها تجاه دول الخليج، وزيادة الشكوك لدى الخليج من الوثوق بالولايات المتحدة بوصفها ضامناً أمنياً إقليمياً، ووجود عالم جديد تكافح فيه دول الخليج والدول الغربية من أجل التعامل مع التداعيات الاقتصادية الناجمة عن جائحة فيروس كورونا، ستخلق جميعها بيئةً أكثر ملائمة للترتيبات الأمنية متعددة الأطراف. وهو سيناريو يمكن أن يقلل من خطر وقوع حرب، حتى لو بدت التعددية في حالة تراجع على المستوى العالمي.
وأحدث الأدلة المباشرة على ذلك، هو ما نشرته صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية مساء الخميس، أن الولايات المتحدة تعتزم سحب قسم من جنودها من الخليج بعد أن أرسلتهم خلال فترة التوتر مع إيران. وبحسب الصحيفة، فقد سحبت واشنطن بالفعل سربين من الطائرات من السعودية أيضاً، وتعتزم سحب بطاريات الباتريوت لأنها تقدر أن إيران لا تمثل تهديداً مباشراً للمصالح الأمريكية الإستراتيجية، وأضافت الصحيفة أن الإدارة الأمريكية تبحث خفض تواجدها في المملكة، لتنهي بذلك تعزيزاتها لمواجهة إيران.
وكانت وكالة "رويترز" قد نشرت الأسبوع الماضي، أن الولايات المتحدة مارست ضغوطا على السعودية لخفض إنتاج النفط، لافتة إلى أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هدد السعوديين في حال عدم الاستجابة، بسحب الدعم العسكري.
وأوضحت الوكالة، نقلا عن أربعة مصادر، أن ترامب اتصل بولي العهد السعودي محمد بن سلمان في 2 أبريل وقال له إنه إذا لم تبدأ دول منظمة "أوبك" في خفض إنتاج النفط، فسيكون عاجزا عن إيقاف مشرعي القوانين الأمريكيين من إصدار قانون بسحب القوات الأمريكية من المملكة.
مَن المستفيد الأكبر من الآخر؟
حملت تهديدات ترامب بوقف مبيعات الأسلحة إلى السعودية إذا لم تُنهِ حرب أسعار النفط مع روسيا، رسالةً إلى السعودية بأن الولايات المتحدة كانت تستفيد منها أكثر من استفادة المملكة من الولايات المتحدة.
لا يزال من المبكر للغاية تقييم التأثير الجيوسياسي للتراجع الاقتصادي العالمي. يمكن أن يساعد انخفاض الطلب على النفط والغاز وانخفاض أسعارهما، في تمكين الصين من تنويع مصادرها، ويحتمل أن تقلل اعتمادها على الشرق الأوسط؛ نظراً إلى أنها منطقة متقلبة تحيطها مخاطر أمنية متزايدة. استوردت الصين 31% إضافية من واردات النفط من روسيا في الشهر الماضي، وفي الوقت ذاته خفضت وارداتها من الخام السعودي بنسبة 1.8% مقارنة بمارس/آذار 2019.
وفي جوهر مجريات الأحداث، وبغض النظر عن السيناريو الذي سيتجلى، سوف تبقى الولايات المتحدة راغبة في تقليل تعرضها للشرق الأوسط، وفي حين ستظل الصين من جانبها في حاجة لتأمين لوازمها من النفط والغاز، إضافة إلى استثماراتها وجالياتها الكبيرة في المنطقة، ستسعى لتجنب السقوط في صراعات إقليمية مستعصية.
وعلى المنوال نفسه، فإن الإنعاش التدريجي للحياة الاقتصادية، وضمن ذلك تنشيط تدريجي محتمل لسلاسل التوريد والسفر الدولي، إلى جانب حاجةٍ إلى إعادة التفكير في إسكان العمال المهاجرين وخلق فرص عمل للسكان المحليين، يمكن أن يغير منظورات الشرق الأوسط تجاه الطريقة التي تؤدي بها الصين الأعمال التجارية.
كانت مشروعات الصين المرتبطة بمبادرة الحزام والطريق يُنظر إليها من جانبهم بنظرة "الصين تكسب مرتين"، وربما كان ذلك إشكالياً دائماً، بل صار أكثر من ذلك في البيئة الاقتصادية لما بعد الجائحة. تعتمد المشروعات التي تمولها الصين اعتماداً كبيراً على العمالة الصينية وتوريدات المواد الصينية، بدلاً من الاعتماد على المصادر المحلية.
ويمتد نهج "الصين أولاً" الذي تتبعه الجمهورية الشعبية إلى ما هو أبعد من الاقتصاد والتجارة. ففي بيئة تكون فيها الولايات المتحدة شريكاً لا يمكن الاستغناء عنه لكنه غير موثوق، قد تنظر دول الخليج نظرة مختلفة إلى تردد الصين في المشاركة في تحمُّل مسؤولية الأمن الإقليمي، في ظل وجود خطر الاضطرار إلى توريط نفسها في صراعات متعددة كانت حتى الآن قادرة على البقاء بمعزل عنها.
نقطة تحوُّل في الشرق الأوسط
تشكل جائحة فيروس كورونا نقطة تحول سوف تغير سلوكيات الشرق الأوسط تجاه الأطراف الأجنبية الرئيسية في الإقليم: الولايات المتحدة، والصين، وروسيا. قبل هذه الأزمة، كانت روسيا، الأضعف بين الثلاث، تجيد استخدام استراتيجية اقتصادية تعتمد على عدم تقديم الكثير، لكنها قد تجد ذلك أكثر صعوبة فيما بعد.
ويُرجح أن تستنتج دول الخليج أن السياسات الفردية الحازمة محفوفة بالمخاطر ولا تنجح إلا في ظروف محددة، تكون القوى الكبرى إما طرفاً مشاركاً فيها وإما أنها تشيح نظرها بعيداً عنها. وإن كانت مثل هذه السياسات اتباعها أسهل في بيئة اقتصادية مستقرة بدت فيها قاعدة إيرادات هذه الدول من النفط والغاز في أمان.
يبدو أن الإمارات قرأت ما كُتب على الجدران. فقد بدأت منذ عام، تأمين نفسها من كل الاتجاهات عن طريق التواصل مع إيران؛ في محاولة لضمان أنها لن تصير مسرح حرب إذا خرج التوتر بين الولايات المتحدة وإيران عن السيطرة. غير أن ذلك لم يحُل دون دعمها المجموعات المسلحة في ليبيا، التي يقودها المشير المتمرد خليفة حفتر، في انتهاك للحظر الدولي على الأسلحة المفروض على ليبيا.
ينبغي أن يكون تهديد الرئيس ترامب بإيقاف مبيعات الأسلحة إلى السعودية قد وجد آذاناً صاغية. بيد أن السعودية ودول الخليج، المنهكة مالياً واقتصادياً، والأقل قدرةً على تشجيع القوى الكبرى على أن تنافس بعضها، والمحرومة من أي خيارات بديلة، قد تجد الترتيبات الأمنية متعددة الأطراف، التي تشرك المظلة الدفاعية للولايات المتحدة بدلاً من أن تستبدلها، هي القشة الأمنية الوحيدة التي يمكنها التمسك بها.
ومع ذلك، حتى لو حاولت في نهاية المطاف التفاوض للتوصل إلى ترتيب جديد، فقد تجد كذلك أنها ما عادت تملك ذلك النوع من النفوذ الذي كان لديها قبل الجائحة، التي تسببت من نواحٍ عديدةٍ في سحب البساط من تحتها.