تصريحات وزير المالية السعودي بشأن ظهور تداعيات فيروس كورونا على اقتصاد المملكة في الربع الثاني من العام، على تحفظها، أخفت أكثر مما أظهرت بخصوص انعكاسات حرب أسعار النفط التي أشعلها ولي العهد وتأثيرها القاتل على رؤيته لتنويع الاقتصاد، فما الأبعاد الحقيقية للأوضاع الاقتصادية في السعودية؟
تصريحات مناقضة لما سبقها
في تناقض واضح عن تصريحاته خلال فبراير/شباط ومن مارس/آذار، قال وزير المالية محمد الجدعان في مقابلة مع تلفزيون العربية السبت 2 مايو/أيار إن السعودية ستتخذ إجراءات صارمة ومؤلمة للتعامل مع آثار فيروس كورونا، مضيفاً أن "جميع الخيارات للتعامل مع الأزمة مفتوحة حالياً".
وقال الوزير في مقتطفات نشرتها العربية: "يجب أن نخفض مصروفات الميزانية بشدة"، مضيفاً أن أثر الفيروس على المالية العامة السعودية سيظهر اعتباراً من الربع الثاني من العام، وأضاف: "المالية السعودية تحتاج إلى ضبط أكبر والطريق أمامنا طويل"، موضحاً أن أحد الإجراءات هي إبطاء تنفيذ بعض المشروعات الحكومية ومنها مشروعات ضخمة لتقليل الإنفاق.
كان الجدعان قد صرح للصحفيين قبل أسبوع واحد مستخدما لهجة واثقة ومتفائلة تماماً، حيث قال إن المملكة مرّت بظروف مشابهة بل "وأسوأ" من قبل وتخطتها بنجاح، لكن تصريحاته السبت عكست الموقف بصورة تامة، خصوصاً أنها تلت تخفيض موديز للخدمات الاستثمارية نظرتها المستقبلية لاقتصاد المملكة من مستقرة إلى سلبية، بحسب تقرير لوكالة بلومبيرغ الأمريكية.
السعودية، أكبر مصدِّر للنفط في العالم، تعاني من انخفاض تاريخي في أسعار الخام في حين ستقلص الإجراءات المتخذة للحد من تفشي فيروس كورونا على الأرجح من وتيرة وحجم الإصلاحات الاقتصادية التي دشنها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
وهوت احتياطيات النقد الأجنبي لدى البنك المركزي السعودي في مارس/آذار بأسرع وتيرة فيما لا يقل عن عقدين لتبلغ أدنى مستوى منذ عام 2011، بينما سجلت المملكة عجزاً قيمته 9 مليارات دولار في الربع الأول من العام بسبب انهيار إيرادات النفط.
نتائج الربع الأول جاءت مخالفة تماماً لتوقعات المالية السعودية المعلنة، حيث كان الجدعان قد قال في وقت سابق إن الرياض قد تقترض نحو 26 مليار دولار إضافية هذا العام، وسوف تسحب زهاء 32 مليار دولار من احتياطياتها لتمويل العجز، لكن مارس/آذار فقط شهد تراجع احتياطات النقد بـ27 مليار دولار دفعة واحدة.
توقعات أسعار النفط
من الطبيعي أن تثير تصريحات وزير المالية السعودي التساؤلات حول التغير الدرامي في إعلانه بشأن الوضع الاقتصادي للمملكة، فمن غير المنطقي أن تنقلب تصريحات الوزير في ظرف أسبوع واحد، وهو ما يشير إلى أن ما تعلنه السلطات السعودية بشأن تداعيات حرب النفط التي أشعلها ولي العهد وأطاحت بالأسعار إلى قرب العشرين دولار للبرميل قبل أن تتعافى نسبياً إلى نحو 25 دولاراً يعتبر بمثابة قمة جبل الجليد وما خفي كان أسوأ.
فقد نشرت وكالة بلومبيرغ تقرير أمس الأحد 3 مايو/أيار بعنوان "عودة أسعار النفط ربما تستغرق عقوداً، وليس سنوات"، وضع توقعات متشائمة بشأن احتمالات استعادة أسعار النفط لمستوياتها العام الماضي، والسبب عمق التداعيات الاقتصادية لوباء كورونا وتأثيره على الطلب العالمي على الخام من ناحية وتأثير سياسة الإغراق وحرب الأسعار التي أشعلها ولي العهد بعد خلافه المحتدم مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مطلع مارس/آذار الماضي والذي أدى لإغراق الأسواق بفائض ضخم من النفط الرخيص.
إذ إنه بينما يبدو أن النفط قد تخطى الأسوأ بالفعل، يظل الأمر متقلباً بشدة، حيث لا توجد أي توقعات بشأن عودة سريعة للحياة لما كانت عليه قبل أن يضرب الوباء القاتل، بل إن البعض ومنهم المدير التنفيذي لشركة شل الهولندية بين فان بوردين يرون أن الطلب على النفط ربما لا يعود أبداً لما كان عليه قبل وباء كورونا.
ويعتقد محللو سيتي جروب أن الطلب على وقود الطائرات من شبه المؤكد ألا يعود للمستويات التي كان عليها العام الماضي قبل أواخر 2022 على الأقل، وهم هنا يمثلون الطرف الأكثر تفاؤلاً من المعادلة، حيث يرى المدير التنفيذي لشركة بوينغ أن السفر جواً ربما لا يعود إلى المستويات التي كان عليها العام الماضي قبل ثلاث سنوات على الأقل، وحتى عندما يحدث ذلك ستكون الطائرات الأحدث والأقل استهلاكاً للوقود قد دخلت الخدمة، بحسب تقرير بلومبيرغ.
التقرير استطلع آراء الخبراء بشأن التأثير طويل الأمد للإغلاق الحالي والحظر والعمل من المنزل على الطلب على النفط، وجاءت أكثر التوقعات تفاؤلاً بأن انخفاض الطلب العالمي على النفط ربما لا يزيد عن نحو 20%، لكن هذه النسبة مع المخزون الحالي من النفط تعني أن استعادة أسعار النفط لمستويات 2019 ربما تستغرق عقوداً وليس سنوات، هذا إن حدثت تلك العودة من الأساس.
موقف شركة أرامكو وقيمتها
الجزء الآخر الأساسي من الصورة لابد أن يتعلق بعملاق النفط شركة أرامكو والتي يعتبر ولي العهد أن طرح جزء من أسهمها للاكتتاب حجر الزاوية في استراتيجيته لتنويع الموارد الاقتصادية المعتمدة في معظمها على صادرات النفط – وهي رؤية 2030.
كان طرح أرامكو قد تأخر لأكثر من ثلاث سنوات، وعندما خرج للنور أخيراً أوائل ديسمبر/كانون الثاني الماضي لم يحقق القيمة التي كان يصر عليها ولي العهد وهي تريليوني دولار، وبعد الطرح بأيام قليلة اقتربت قيمة الأسهم من تلك القيمة بعد أن ارتفعت قيمة السهم إلى 38 ريالاً سعودياً، بفعل استثمارات من الشركات السعودية الكبرى.
لكن أزمة النفط كبدت سهم الشركة خسائر كبيرة وانخفض حتى 27 ريالاً قبل أن يعيد بعضاً مما خسره وأغلق اليوم الإثنين 4 مايو/أيار عند نحو 30 ريالاً، وهو ما يعني أن قيمة الشركة أقل كثيراً الآن من مستوى 1.8 تريليون دولار الذي طرحت عليه في البورصة السعودية.
وكانت بلومبيرغ قد نشرت تقريراً أواخر فبراير/شباط الماضي بعنوان "أرامكو تبدأ تحضيرات مبكرة للإدراج في الأسواق العالمية"، كشفت فيه نقلاً عن مصادر قريبة من المناقشات دون أن تسميها أن الشركة تجري مشاورات مع بنوك في وول ستريت لوضع سيناريوهات للمرحلة الثانية من الطرح في البورصات العالمية.
وبحسب التقرير لم تضع الشركة جدولاً زمنياً للصفقة المحتملة، مضيفاً نقلاً عن خبراء ماليين أنه من غير المحتمل أن يتم مثل هذا الطرح خلال العام الجاري على الأقل، بسبب الظروف الاقتصادية جراء الوباء من ناحية وبسبب أسعار النفط المنهارة من ناحية أخرى.
وما بين أواخر فبراير/شباط واليوم أوائل مايو/أيار ليس من الصعب تصور الصورة الكاملة لمناقشات الطرح الخارجي لأرامكو؛ فوقتها لم تكن حرب أسعار النفط قد بدأت كما أن فيروس كورونا لم يكن قد تم تصنيفه جائحة عالمية وبدأت إجراءات الإغلاق الاقتصادي التي قلبت جميع التوقعات رأساً على عقب.ية
وقف مشاريع رؤية ولي العهد
عودة لتصريحات الجدعان، نجد أنه يجدر التوقف عند ما يقصده بـ"الإجراءات الصارمة والمؤلمة"، حيث إنه قال في نفس التصريحات إن الحكومة استخدمت بالفعل بعض إيرادات الاستثمارات لسد العجز في الموازنة، مشيراً إلى أن المملكة اتخذت إجراءات تحفيزية تستهدف الحفاظ على الوظائف في القطاع الخاص وضمان استمرار وصول الخدمات الأساسية، والمقصود هنا الربع الأول من العام.
لكن حديثه عن الربع الثاني جاء أكثر تشاؤماً دون تفاصيل، حيث أكد أن أثر جائحة كورونا على المالية العامة سيبدأ في الظهور اعتباراً من الربع الثاني، مضيفاً أن المالية السعودية لا تزال بحاجة إلى ضبط أكبر لمواجهة التحديات.
الجدعان قال: "المالية السعودية تحتاج إلى ضبط أكبر والطريق أمامنا طويل"، موضحاً أن أحد الإجراءات هو إبطاء تنفيذ بعض المشروعات الحكومية ومنها مشروعات ضخمة لتقليل الإنفاق، والمقصود بالمشروعات الضخمة هنا هي الإصلاحات الاقتصادية التي وعد بها ولي العهد في رؤيته 2020.
وقف المشاريع يعني تسريح عمالة وارتفاع معدلات البطالة، خصوصاً أن هذا العام شهد أيضاً خسارة مليارات الدولارات كانت تدخل الخزينة السعودية من عوائد العمرة وبصفة خاصة عمرة رمضان، بينما لا يزال موقف موسم الحج هذا العام معلقاً بسبب فيروس كورونا.