أدى الانهيار في أسواق النفط إلى عودة عقارب الساعة الاقتصادية السعودية إلى الوراء، واضعاً المملكة في طريقها لمواجهة أكبر انكماش اقتصادي منذ عقدين من الزمن.
إذ تخضع أكبر دولة مصدرة للنفط الخام في العالم بالفعل لحالة إغلاق بهدف احتواء انتشار جائحة فيروس كورونا، وتتحضَّر لمواجهة تأثير آخر ناتج عن انهيار أسعار النفط والتخفيضات غير المسبوقة في الإنتاج التي تفاوضت عليها منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك" مع حلفائها.
معاناة اقتصادية
تقول وكالة Bloomberg الأمريكية، إن كلا الأمْرين سيؤدي إلى تقليص العائدات الحكومية؛ ومن ثم عرقلة التعافي الاقتصادي الهش. وجرى تداول مزيج خام برنت، الثلاثاء 21 أبريل/نيسان، عند أقل من مستوى 19 دولاراً للبرميل –وهو ما يمثل ربع المستوى السعري الذي تحتاجه السعودية لتحقيق التوازن في ميزانيتها- الأمر الذي لا يترك أمام المسؤولين خيارات كثيرة لتدارك المعاناة الاقتصادية دون التأثير سلباً على المالية العامة.
وزير المالية السعودي، محمد الجدعان، قال في تصريحات مساء الأربعاء 22 أبريل/نيسان، نقلتها رويترز، إن المملكة تتوقع اقتراض 100 مليار ريال إضافية (26.58 مليار دولار) هذا العام، وإن مجمل الدين قد يصل إلى 220 مليار ريال.
وأضاف الوزير أنَّ خفض صادرات النفط سيكون له تأثير على الناتج المحلي الإجمالي، مشيراً إلى أنه يتوقع نمواً سلبياً للقطاع الخاص غير النفطي هذا العام للمرة الأولى.
انتكاسة كبيرةٌ عكس توقعات بن سلمان
تقول مونيكا مالك، كبيرة الاقتصاديين ببنك أبوظبي التجاري، لـ"بومبيرغ": "لقد غيَّر هذا كل شيء. كان جزءٌ كبير جداً من التعافي الأخير يعتمد على حقيقة ارتفاع سعر النفط عن مستوى 50-60 دولاراً، ما يوفر الدعم للنشاط الاقتصادي، وقد تبدَّد هذا للتو".
تطرح هذه الانتكاسة خيارات صعبة أمام ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. فبعد التراجع الأخير لأسعار النفط بين 2014 و2016، أعلن خطة تحوُّل اقتصادي كبرى. وفي حين أحرز المسؤولون تقدماً كبيراً، يصعب تمويل المشروعات والاستثمارات، في الوقت الذي كان من المقرر أن يأتي فيه أكثر من 60% من العائدات من النفط.
قارن ريكاردو هاوسمان، الاقتصادي بجامعة هارفارد الأمريكية، الوضع الذي يواجه السعودية بأنَّه "حربٌ تُخاض على جبهتين على الأقل": الجائحة وأزمة النفط.
وكتب هاوسمان: "كل صدمة ضخمة بحد ذاتها. وحدوث كليهما في الوقت نفسه يجعل الأمور أكثر تعقيداً بكثير".
"تداعيات هائلة على أعمال الجميع"
سجَّلت السعودية حتى الآن معدلات إصابة بمرض فيروس كورونا المستجد (COVID-19) بواقع 12.772 ألف حالة حتى اللحظة، من بين 34 مليون نسمة. يعود هذا جزئياً إلى الإجراءات القوية الرامية إلى إبطاء الانتشار، وهي الخطوات التي تؤدي أيضاً إلى إغلاق قطاعات كبيرة من الاقتصاد البالغ حجمه 779 مليار دولار.
وفي ظل حظر التجول الذي فرضته الحكومة هذا الشهر، تزايدت أعمال أيمن السند، المؤسس المشارك في واحدٍ من أكثر تطبيقات توصيل الطلبات رواجاً بالمملكة، "مرسول". سارعت شركته لتوظيف عمال التوصيل لتلبية الزيادة الكبيرة في الطلب من الأشخاص العالقين بمنازلهم. لكن حتى مع إشادته بالحكومة لمساعدتها الشركات، يشعر السند بالقلق بشأن أزمة النفط البادية في الأفق.
يقول: "الكل خائف من فيروس كورونا وحالة الإغلاق، لكن انظر، كل شيء هنا يدور حول أسعار النفط. وإن تراجعت، يجب أن تتوقع تداعيات هائلة على أعمال الجميع".
وللانهيار في أسعار نفط غرب تكساس الوسيط تأثير مباشر محدود على السعودية، لأنَّها تبيع نحو عُشر نفطها فقط للولايات المتحدة. لكنَّ مصير المملكة أكثر ارتباطاً بسعر مزيج خام برنت القياسي العالمي، الذي يتراجع هو الآخر، جزئياً، بسبب تراجع الأسعار في الولايات المتحدة.
قال يوجين فاينبرغ، مدير أبحاث السلع لدى مصرف كومرتس بنك الألماني: "كان تراجع الأسعار بالأمس مهماً للغاية من الناحية النفسية. وهناك إمكانية بأن يُغيِّر هذا التصورات إلى الأبد".
كان تراجع أسعار النفط يعود جزئياً إلى زيادة المعروض خلال الحرب النفطية المريرة بين السعودية وروسيا، لكنَّ أساسها هو توقعات بفترة طويلة من تراجع الطلب. ولم تؤدِّ التهديدات القادمة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنَّه يبحث منع واردات النفط الخام من السعودية إلا إلى زيادة المخاوف.
عرقلة الانتعاش
كان كثير من أصحاب الشركات السعودية يتطلّعون إلى عام 2020 بعد سنوات عصيبة عديدة. لكنَّ الاقتصاديين الآن يقولون إنَّ هؤلاء بالكاد قادرون على خفض توقعاتهم بالسرعة الكافية، لمواكبة ما يجري.
فوفقاً لمونيكا مالك، قد يتقلَّص الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 3% هذا العام، فيما قد يُمثِّل أول انكماش منذ 2017 والأكبر منذ 1999. ويوشك معدل البطالة على الارتفاع، في ظل معاناة الشركات للبقاء واقفةً على قدميها.
وقال محمد أبو باشا، رئيس قسم تحليل الاقتصاد الكلي بالمجموعة المالية "هيرميس" في القاهرة، إنَّ عجز الموازنة الحكومية قد يتسع إلى 15% من الناتج الاقتصادي. ووفقاً لصندوق النقد الدولي، بلغ العجز المالي 4.5% العام الماضي، بعدما كان قد بلغ ذروته عند مستوى أعلى من 17% في 2016.
وعلى الرغم من التوقعات القاتمة، يقول أصحاب الشركات إنَّ حزمة التحفيز الحكومية أنقذتهم من الانهيار. وحتى الآن، يقول المسؤولون إنَّهم يعتزمون اقتراض المزيد لسد الفجوة المتزايدة في الميزانية، ولم يعلنوا إلا عن تخفيضات بسيطة في الإنفاق. وقال فواز الفواز، وهو مستشار اقتصادي سعودي، إنَّ الحكومة لديها احتياطيات كبيرة ونسبة منخفضة من الدين بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي مقارنةً باقتصادات أخرى كبيرة. وأشار إلى أنَّ هذه ليست المرة الأولى التي تمر فيها السعودية بانهيار نفطي.
وأضاف: "دورة صناعة النفط ليست جديدة على صناع القرار السعوديين. لقد شهدوا هذه المأساة من قبل؛ ومن ثم لديهم خبرة".