يبصق رواد الحانات بهذه الدولة الصغيرة كثيراً، لتخليص أفواههم من المذاق المُر بعد الشرب.
والمفارقة أن هذا البلد النائي، الذي لدى سكانه عادات غريبة فيما يتعلق بالنظافة، هو أحد الدول القليلة في العالم الخالية من فيروس كورونا، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
فانواتو هي دولةٌ يقل تعداد سكانها عن الـ300 ألف نسمة، مع 80 جزيرة مُنتشرة في المحيط الهادئ، على بُعد 1800 كيلومتر شرق أستراليا. وما تزال فانواتو من البلدان القليلة في العالم التي لا تحتوي على أي حالات إصابة مُؤكّدة بفيروس كورونا.
وهناك القليل من الدول الإفريقية التي لم تُسجل لديها أيّ حالات إصابة حتى الآن، لكنّ غالبية الدول الخالية من كوفيد-19 تقع في المحيط الهادي. إذ تتمتّع دولٌ مثل بالاو، وجزر سليمان، وتونغا، وساموا بحمايةٍ طبيعية نتيجة كونها دولاً نائية. لكن عزلتها، وانخفاض الدخل، وضعف البنية التحتية الصحية تجعل السكان مُعرّضين للخطر بدرجةٍ كبيرة في حال وصل إليهم الفيروس.
الحجر الصحي في فانواتو
في صباح يوم الأحد، 5 أبريل/نيسان، تجهّز 62 ضيفاً للخروج من المُنتجع الشاعري المُحاط بالنخيل والمُطل على بحيرة في بورت فيلا عاصمة جمهورية فانواتو.
وبدلاً من أن تنتظرهم سيارات الأجرة لتصطحبهم إلى المطار، كانت الوجوه المألوفة تتحرّق شوقاً لاصطحاب الأحباب إلى المنزل.
وكان غالبية الضيوف الـ62 من سكان بورت فيلا الذين خضعوا للحجر الصحي 14 يوماً تحت رقابة وزارة الصحة، إذ كانوا آخر من دخل البلاد قبل أن تُغلق الدولة الواقعة جنوب المُحيط الهادئ كافة حدودها، في إجراءٍ وقائي لمكافحة تهديد كوفيد-19.
ظلال فيروس كورونا تحيط البلاد بأكملها
حتى هُنا، في هذا الأرخبيل النائي، الذي يبدو أبعد ما يكون عن إغلاق ووهان والمشاهد الأليمة في إيطاليا ونيويورك، تُخيّم ظلال فيروس كورونا على البلاد بأكملها.
وكان ابنا أريتايماي سالمون من بين المُحتجزين في الحجر الصحي بالفندق، بعد عودتهما من سيدني، حيث يذهب أحدهما إلى المدرسة ويذهب الآخر إلى الجامعة.
وقالت أريتايماي: "بالنسبة لابنيّ فإنّ عودتهما إلى أرض الوطن تُمثّل ارتياحاً كبيراً حتى لو اضطرا لقضاء أسبوعين في الحجر الصحي. إذ تكيّفا جيداً مع الوضع" عن طريق ممارسة ألعاب الورق والطاولة بصحبة بعضهما البعض. وأردفت: "إنّهما سعيدان لمجرد عودتهما إلى وطنهما فانواتو".
وتعمل أريتايماي مُديرةً للعمليات والعملاء في متاجر Au Bon Marche، أكبر سلسلة سوبر ماركت في البلاد. وقضت الأسابيع الماضية في طمأنة مواطني فانواتو بأنّ هناك ما يكفي من الغذاء لإطعام السكان، حتى في ظل إغلاق الحدود.
وAu Bon Marche هي واحدةٌ من الشركات القليلة التي ستنجو من آثار الاستجابة لفيروس كورونا. وبالنسبة للعاملين في قطاع الضيافة والسياحة، الذي يُمثّل أكثر من 40% من إجمالي الناتج المحلي في فانواتو، فإنّ الكثيرين منهم يتساءلون حول كيفية استرداد البلاد لعافيتها في ظل غياب السياح المُستمر.
إذ توقّفت السفن السياحية بالكامل، كما علّقت شركة الطيران الوطنية Air Vanuatu كافة رحلاتها من وإلى البلاد إلى أجلٍ غير مُسمى. وأغلقت العديد من المطاعم والفنادق أبوابها طواعية، في حين حاول الآخرون مواصلة تشغيل أعمالهم بموجب القيود الحكومية ليُغلقوا أبوابهم في تمام الساعة 7:30 مساءً قبل بدء الحظر، الذي يمنع الناس من التواجد خارج منازلهم منذ الساعة التاسعة مساءً وحتى الساعة الرابعة صباحاً.
ونُصِّبت محطات غسل اليدين خارج المحال والبنوك والمطاعم بطول الشارع الرئيسي في بورت فيلا، وهي تتألّف من حاوية بلاستيكية كبيرة وصنبور مُتنقّل. وبموجب قوانين حالة الطوارئ، أُلزِمَت كافة الأعمال التجارية بتنصيب مرافق غسل اليدين على نفقتها من أجل الترويج للممارسات الصحية.
رواد حانات الكافا يتشاركون نفس الوعاء ويبصقون على الأرض
تنطبق تلك القوانين على حانات الكافا (الناكامال) التي تُواجه تغييرات جذرية في ممارساتها بسبب المخاوف الصحية. إذ كان يتشارك الناس نفس وعاء الكافا المغموس في سائل بُني مُوحل وهم يشربون طوال الليل داخل حانات الكافا، حيث يُقدّم الشراب التقليدي المُسكِر. كما تشتهر تلك الحانات بأنّ مُرتاديها يبصقون كثيراً من أجل تخليص أفواههم من المذاق المُر بعد الشرب.
وفي أعقاب انتشار فيروس كورونا عالمياً، باتت حانات الكافا الآن تكتفي بتقديم الطلبات خارج المطعم. وداخل حانة Blue Galaxy Nakamal في عقار بلادينييري على مشارف بورت فيلا، ترتدي كيلسي جافا القفازات لتملأ الزجاجات البلاستيكية بالشراب المحبوب، قبل بيعه إلى العملاء.
وقالت كيلسي: "أفتح الأبواب عادةً حتى مُنتصف الليل. ولكنّنا نفتح الآن في الـ4:30 مساءً، ويجب أن نُغلق الأبواب في الـ7:30 مساءً، فضلاً عن أنّنا نبيع الطلبات خارج المطعم فقط. وأراد بعض العملاء أن تظل الحانة مفتوحة لأنّهم يرغبون في شرب الكافا هنا، ولكنّني اضطررت أن أشرح لهم أنّ ذلك الأمر بات في حُكم المستحيل الآن. وتتحقّق الشرطة من امتثالنا للقوانين، لذا بدأ العملاء في احترام ذلك".
واضطرت الأعمال التجارية الأخرى إلى وقف أعمالها بالكامل. إذ اضطر كريستوفر تاهومبير، رجل الأعمال المحلي الذي يُصدّر خشب الصندل إلى الصين، إلى تعليق كافة عملياته حين أُغلِقَت الموانئ. ويشعر بالقلق الآن بسبب ارتفاع معدلات البطالة، لكنّه يتّفق مع الرأي القائل بضرورة إبقاء الموانئ مُغلقة.
وقال: "إذا وصل الفيروس إلى هنا، فأتصوّر أنّه سيُؤثّر على شخصٍ مُسِن في عائلتي، وأنّني سأعجز عن زيارة ذلك الشخص في المستشفى. سيكون ذلك الأمر مُحزِناً للغاية".
بينما استطاع كالفاو مولي، عضو البرلمان السابق، أن يركب آخر طائرة من جزيرته الأم مالو إلى بورت فيلا قبل تعليق كافة الرحلات بين جزر البلاد.
لا نمتلك حتى المياه الكافية لغسل أيدينا
وقال مولي: "بصفتي أباً ومواطناً في هذا البلد، أشعر بقلقٍ كبير. إذ لا نمتلك المرافق الكافية لإدارة تفشّي الفيروس. لا نمتلك حتى المياه الكافية لغسل أيدينا. هل تعرف من أين سنحصل على الماء في شرق مالو؟ أو في وايتساندس بجزيرة تانا؟".
أما راسل تاماتا، المتحدث باسم الفريق الاستشاري لمرض كوفيد-19 في الحكومة، فقد دافع عن الإجراءات العدوانية التي اتّخذتها الحكومة.
"نحن نعرف كيف ينتشر الفيروس، وحين ننظر إلى ثقافتنا وطريقة عيشنا نجد أنّ الأمور تصُبّ في صالح الفيروس. وإذا وصل إلى هنا، فسوف تكون كارثة.
في هذه المرحلة، يجب أن نكون صارمين على الحدود ونخشى أنّه لو دخل فانواتو، فسوف ينتشر بسرعةٍ كبيرة ونحن ببساطة لا نملُك الموارد والمرافق اللازمة لإدارة الأزمة. أيّ غلطة صغيرة سيكون تأثيرها سيئاً للغاية على الجميع".
جهازان للتنفس الصناعي واستيراد للممرضات
والتزمت الحكومة الصينية بتوريد المعدات والمواد الخام نهاية شهر أبريل/نيسان، حتى تتمكّن فانواتو من بناء وحدة عناية مُركّزة في بورت فيلا، وهذا يشمل أجهزة التنفس الاصطناعي الضرورية للغاية.
وفي الوقت الحالي يعكف المستشفى الرئيسي في البلاد، مستشفى فيلا المركزي، على تحويل عنبر مرضى السل إلى عنبر عزل، ولكن المستشفى بأكمله لا يحوي سوى 20 سريراً مُتاحاً فقط.
كما أوضح تاماتا "إذا دخل المريض في حالةٍ مُعقّدة فنحن لا نمتلك سوى جهازي تنفُّس اصطناعي مُتاحين في جميع أنحاء البلاد. وحتى ذلك الحين، نجد أنّهما جزءٌ من الخدمة في المتحف، ولا تُوجد أجهزةٌ مُستعدة. لدينا 60 طبيباً، ولكنّ غالبيتهم من حديثي التخرُّج، كما استقبلنا مؤخراً دفعةً ثالثة من الممرضات اللاتي وصلن من جزر سليمان للخدمة في ست مقاطعات نظراً لقلة الموارد البشرية".
إذ إنّه نظراً لنقص الممرضات المحليات كانت فانواتو تُوظّفهم من جزر سليمان منذ منتصف عام 2019.
وممنوع الحديث عن كورونا لأن المصطلحات العلمية لا يُمكن ترجمتها للغة المحلية!
وقال تاماتا إنّ السيطرة على المعلومات المغلوطة تُمثّل واحدةً من أكبر التحديات.
فحين أعلنت فانواتو حالة الطوارئ لمدة أسبوعين في الـ26 من مارس/آذار، نصّ أحد الأوامر لكافة وسائل الإعلام على عدم نشر أي مواضيع حول كوفيد-19 إلّا بتصريحٍ من المكتب الوطني لإدارة الكوارث، وهو الأمر الذي حذّر المُعلّقون من أنّه يُثير المخاوف بشأن حرية الصحافة.
وأردف: "هناك الكثير من المصطلحات العلمية التي لا يُمكن ترجمتها إلى لغة بسلاما، ومن السهل أن يُساء تفسيرها. من الضروري أنّ نُدير مفاهيم الناس خلال هذه الأوقات، لأنّ الخوف قد يُعيقنا عن تأدية عملنا".
كارثة أخرى تسبق الفيروس
ولكن بينما تتهيّأ البلاد لوصول كوفيد-19، تجلّت نقاط ضعفها الأسبوع الجاري بالتزامن مع اجتياح إعصار هارولد المداري للبلاد. إذ وصل الإعصار من الدرجة الخامسة صباح الإثنين السادس، من أبريل/نيسان، ليضرب جزر فانواتو الشمالية.
ولم يتضح الحجم الكلي للدمار حتى الآن، ولكن الصور من جزر إسبيريتو سانتو ومالو تُظهِر قرى كاملة حوّلها الإعصار إلى أطلال.
وجاء الإعصار فجأةً ليُلغي التدابير الصارمة التي اتُّخِذَت من أجل الاستجابة لكوفيد-19. لذا استلزم الوضع التساهل في القواعد التي تحظر اجتماع أكثر من خمسة أشخاص، في ظل تجمُّع الناس بأعداد كبيرة للإيواء إلى مراكز الإخلاء الجماعي.
واعتادت فانواتو على الكوارث، إذ تُصنّف على أنّها الدولة الأكثر عرضةً للكوارث الطبيعية في العالم.
إذ واجه المكتب الوطني لإدارة الكوارث في الأسبوع الماضي فقط مشكلةً مع الفيضانات وسقوط الرماد البركاني في الوقت ذاته. ولكن هناك مخاوف من أن تكون حالتا طوارئ إعصار هارولد وفيروس كورونا أكثر مما تستطيع أنّ تتحمّله دولة الجزر المُعرّضة للخطر.
أما زعماء منطقة المحيط الهادئ، ومنهم رئيس وزراء فيجي، التي بها 16 حالة إصابة بفيروس كورونا وتتوقّع أن يجتاحها إعصار هارولد خلال الأيام المُقبلة، فقد حذّروا من أنّ منطقة المحيط الهادئ ستحتاج المعونة الدولية لمساعدتها على التعافي من أضرار العاصفة.
وكتب في تغريدةٍ يوم الإثنين: "إعصار هارولد المداري أتّى في التوقيت الأسوأ. إذ توقّفت الرحلات الجوية، وانسحب عمال الإغاثة الأجانب، والإمدادات الطبية محدودة. يجب أن يكون العالم مُستعداً للاستجابة لهذه الكارثة الوشيكة".
ورغم ذلك، فإن كورونا قد يحمل فرصة عظيمة
لكن تاماتا يُعَدُّ أكثر تفاؤلاً حيال فُرص فانواتو في تحمُّل تفشّي فيروس كورونا، رغم التحدّيات الأخرى التي تُواجهها البلاد.
إذ قال تاماتا: "نرى في كوفيد-19 تهديداً، ولكنّه يحمل في طياته نعمةً أيضاً".
إذ نُحاول منذ سنوات الترويج لممارسات النظافة الأساسية التي ننشرها حالياً، لكنّ الناس بدأوا يُلاحظون أهميتها الآن.
كما وضعنا أيدينا على الفجوات في قوانين البلاد، وخاصةً فيما يتعلّق بقانوني الصحة العامة والهجرة، ونضجنا في كيفية اتّخاذنا للقرارات، وسيظل كوفيد-19 يُمثّل تهديداً بالنسبة لفانواتو، ما دام أنّه لا يزال مُتفشيّاً في منطقة المحيط الهادئ، ولكنّنا مستعدون".