منذ أصبح تفشي وباء كورونا حول العالم، توقف كل شيء واختفت جميع الملفات والقضايا تقريباً باستثناء كيفية احتواء التفشي والبحث عن علاج أو لقاح، وقضية التغير المناخي التي تبدو أكبر المستفيدين من الإغلاق شبه التام بسبب الجائحة، لكن ما علاقة القصة بمفهوم التكافل ودور الأثرياء؟
موقع ذا إنتريست الأمريكي نشر تقريراً بعنوان: "ما الذي تستطيع جائحة فيروس كورونا أن تُعلمنا إياه بشأن حالة الطوارئ المناخية"، أعده تشارلز كومانوف، خبير اقتصادي وناشط مستقر في مدينة نيويورك ويدير مركز Carbon Tax Center المعني بضريبة الكربون، وكريستوفر كيتشام، أحد سكان شمال نيويورك ومؤلف كتاب This Land: How Cowboys, Capitalism, and Corruption are Ruining the American West.
كيف حقق كورونا نصرا لصالح البيئة؟
لم تستطع غريتا ثانبرغ أن تفعلها. ولم يستطع بيل مكيبن ومنظمة 350.org أن يفعلوها، ولا حتى استطاع اتفاق باريس للمناخ أن يفعلها. لكن مرض كوفيد-19 يخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون والغازات الدفيئة الأخرى التي يتسبب فيها الإنسان، نظراً إلى أن السفر والأنشطة الاقتصادية الأخرى تباطأت أو توقفت كلها في أغلب مناطق العالم.
بالرغم من أن تقلص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الذي تسبب فيه الفيروس ربما لا يكون واضحاً بنفس قدر وضوح الانخفاض المتصل -والبارز في الوقت ذاته- في الملوثات "التقليدية" التي على شاكلة السناج والضباب الدخاني "الضبخان"، فإنه ذو مغزى أكثر أهمية بكثير. إذ إن السناج والضبخان يسممان ويقتلان في الوقت الحاضر فقط، بينما تستمر الغازات الدفيئة في الوجود وتشوّه المناخ على مدى القرن القادم. يعادل حرق وقود أحفوري في يومنا الحالي، التوقيع على شهادة وفاة أجيال المستقبل، وفي المقابل، ينتج الاستغناء عن الأفعال التي يمكن أن تؤدي إلى حرق وقود أحفوري، فائدةً دائمةً.
حتى الآن، شهد عام 2009 التراجع الوحيد الجدير بالملاحظة في إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون حول العالم خلال عصر التوعية بالمناخ -وهو العصر المحددة بدايته في عام 1995 مع أول مرة يعقد فيها مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي- مع ظهور الركود الاقتصادي الذي أسفرت عنه الأزمة المالية في 2008، وكان ذلك التراجع وجيزاً وخفيفاً.
وعلى النقيض من ذلك، قد يكون التقلص الحالي شديداً بما يكفي لأن يخفض تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي للعام الحالي إلى مقدار النصف -وهو المقياس الذي يملي التغير المناخي- وذلك بحسب العمليات الحسابية التي توصل إليها تشارلز كومانوف، الذي شارك في كتابة هذا المقال.
هل التغيير مُستدام؟
هل من القسوة الإشارة بعين الاستحسان إلى الانخفاض الشديد في انبعاثات الكربون الذي يتكشف الآن، في ظل الارتفاعات الحادة في أعداد الوفيات وفقدان سبل العيش وانتشار العوز؟ ألن تبطل هذه الانخفاضات عندما تجري السيطرة على الفيروس، وتعود الانبعاثات بسرعة؟ لا ولا.
كغيره من الأمور، سيعتمد استمرار الانخفاض الحالي في ثاني أكسيد الكربون على هوية من سيعيد بناء المجتمع في أعقاب الفيروس، لكن الانخفاض لن يبطل. مثلما تبقى انبعاثات الكربون لعهد طويل بما يكفي في الطبقة العليا من الغلاف الجوي للكرة الأرضية لتشكل عوامل دائمة للتغير المناخي من ناحية حياة الفرد، فإن الانبعاثات المتجنبة تشكل أيضاً علاجاً ملطفاً دائماً.
إذ إن الرحلات الجوية التي لم تلحق بها هذا العام لن تعوضها في عام 2021، والسبب البسيط في هذا أن أغلب الأشخاص الذين يستخدمون الطائرات يستخدمونها بانتظام، يعني هذا أن أي رحلة فُوتت ليست تجربة تحدث مرة واحدة في العمر ستعوّض في العام القادم، بل إنها مجرد رحلة فائتة، وانتهى الأمر. ينطبق الأمر نفسه على تنقلات العمل والأنشطة الترفيهية.
لذا، أجل يحمل الانخفاض الشديد في محروقات الوقود المستخدم في السيارات والطائرات أثراً دائماً. والتقلص الذي شهده الاقتصاد الأمريكي هذا العام يمكنه أن يطهر 30% إلى 40% من انبعاثات الكربون التي كنا سننفثها إذا لم يحدث ما حدث. يمكن للاستغناء المماثل عن احتراق الكربون -وإن كان أقل- في بقية أنحاء العالم أن يقلص مُجتمِعاً جزءاً في المليون من أصل 415 جزءاً في المليون من تركيز ثاني أكسيد الكربون، وهو إنجاز حمائي متواضع من أجل المناخ، ولنكن متأكدين من هذا، لكنه إنجاز غير مسبوق في العصر الحديث.
المأساة التي يخلفها الفيروس
تحمل المعاناة قصة مختلفة. وإذا كان هناك حاسبة للسعادة والبؤس، وكانت قادرة على قياس إيجابيات وسلبيات الرفاه من الأحداث التي تصيب المجتمع البشري، فإن تسطيح فيروس كورونا لمنحنى ارتفاع ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي ستغمره حالات الوفيات وفقد الحياة والفوضى التي لحقت بالأعمال التجارية المعتادة، ومن ثم فإن الأعمال التجارية المعتادة يجب أن تتوقف إذا أردنا أن نعطي لأطفالنا كوكباً صالحاً للعيش.
كيف نحقق طوعاً ما فرضه الفيروس كرهاً؟
تكمن المشكلة في كيفية خفض انبعاثات الكربون مع أقل قدر من المعاناة وأعظم قدر من العدالة الاقتصادية والاجتماعية، وبدون دفع الطبيعة لإجبارنا على خفضها عبر الجوائح أو أحداث البجعة السوداء الأخرى الموجودة في جعبتها بكل تأكيد.
والحقيقة التي تقول إن النشاط والسلوك البشري يمران بتغيرات مفيدة للمناخ في بوتقة انتشار مرض كوفيد-19، تشير إلى أن "الأعمال التجارية المعتادة" يمكن أن تتغير، وبسرعة، مع أننا لا نستطيع بعد أن نشير إلى نماذج جديدة لانخفاضات مخططة ومتكافئة في مستويات الكربون، ثمة أربع ثورات في الوعي الاجتماعي تدفعها الجائحة ويمكن التعرف عليها، وهو ما يجب أن يمنحنا أملاً في استهلال التحولات الضرورية لكيلا ترتكب الحضارة انتحاراً مناخياً جماعياً.
يتعلق أحدها بأنه يجري استعادة قيمة ومكانة العلم، إذ يشاهد الأمريكيون الإحاطات اليومية التي يقدمها ترامب حول فيروس كورونا، والتي تشبه السيرك، بينما يتدخل الدكتور أنطوني فوتشي، مدير المعهد الوطني الأمريكي للحساسية والأمراض المعدية، ليصحح التعليقات الجاهلة جهلاً خطيراً التي يدلي بها الرئيس.
وبالمثل، نعلم أن مجتمع الأطباء والطبيبات والممرضين والممرضات وعمال وعاملات الرعاية الصحية في الخطوط الأمامية، هم الذين سوف يعتنون بالمرضى، وأن علماء الأوبئة والصحفيين العلميين هم الذين سوف يبلغون العامة بالاستجابة ورد الفعل، وأن الخبراء الكيميائيين والبيولوجيين والإحصائيين هم الذين سيعملون على تركيب اللقاح الذي سيضع حداً لهذه الجائحة، وهم الذين سوف يتأكدون من أثره. بحسب ما كتب عالم القانون البيئي مايكل جيرارد هذا الأسبوع، فإن دروس التغير المناخي المتأتية من كوفيد-19 هي أن نلتفت إلى تحذيرات العلماء، وأن نفعل كل شيء ممكناً لتقليل المخاطر التي يتنبأون بها، وأن نتأهب للتماشي مع الآثار الباقية.
هل يستعيد الأمريكيون السلطة؟
ثاني هذه الثورات أن الأزمة تساعدنا لأن نرى مدى اعتماد الرفاه على الحكم القوي الاستباقي، حكومة من الشعب يديرها الشعب ولصالح الشعب هي حرفياً ما يُطلب الآن أكثر من ذي قبل. يجب أن يكون الشعب صاحب السيادة على الشركات وليس العكس، وهي نقطة محسوسة من الاستجابة الفاترة من جانب الشركات الكبرى في مقابل مناشدات ترامب لزيادة تصنيع المعدات اللازمة لحماية عمال الرعاية الصحية.
أما ثالثها فهي أننا ربما نتخلص من الانهزامية الكامنة في القول إن لا شيء يُنجز بسرعة، لنضرب مثالاً بهؤلاء منا الذين يحتمون في مكان ما: إننا نتعلم، بين عشية وضحاها، أن البساطة لا تعني التقشف بالضرورة، وأن التوفير لا يحتاج إلى حرمان، وأننا قادرون على التخلي عن قدر كبير من الترفيه الذي نستمتع به وعن الاستحقاقات الاستهلاكية، إذا كان ذلك يخدم هدفاً أسمى. يتمثل هذا الهدف حالياً في منع إصابة بني جنسنا من البشر بالمرض ومنع موتهم. أما على المدى البعيد، فيتعلق بأن نعكس المنحنى المرتفع لانبعاثات الكربون ونضع نهاية قوية للفوضى المناخية.
أنت لا تعيش وحدك على الكوكب
علاوةً على ذلك، إذا استطاع مجتمعنا التحرك، في النهاية، لتصنيع مليون جهاز تنفس صناعي ومليار قناع واقٍ، من المؤكد أننا نستطيع في غضون أعوام قليلة التحرك على نطاق أكبر بكثير، لنقل مثلاً من أجل إقامة مليون توربين رياح وعزل ملايين البنايات وجعل اعتمادها على الطاقة الشمسية، وبناء ممرات للدراجات في أنحاء المدن والضواحي، وما إلى ذلك، ونظراً إلى أن الجائحة تفرض إعادة تنسيق قاسياً لكنه ضروري، فإن السلوكيات الأنانية التي تُعرف بـ NIMBYism، (والتي تعني "إن لم يكن في بيتي فلا يعنيني")، والتي أعاقت مثل هذا النوع من التقدم عملياً في كل مكان، ربما يجب التخلص منها من أجل الصالح العام.
ومن المشجع للغاية أن الأزمة تغرس تقديراً متجدداً تجاه التكافل الاجتماعي. من المفارقة أنه كلما أُجبرنا على الحجر الصحي والعزلة، صرنا أكثر إدراكاً بالحاجة إلى التبادلية والعلاقات الاجتماعية والوعي الاجتماعي.
يعتمد رفاهي على ألا تكون أنت مريضاً. وتعتمد استطاعتي إطعام نفسي على قدرتك على زراعة الغذاء ونقله وتوزيعه. وصارت حياتي الآن بين يديك حرفياً، استناداً إلى قراراتك المتعلقة بما إذا كنت ستقيد أنشطتك في الحياة العامة، وتحافظ على المسافة بينك وبين الآخرين، وتبقى في الحجر الصحي.
إذا كان بعضنا في حاجة تامة إلى بعضنا الآخر، فكيف يمكنني احتمال عدم حصولك على رعاية صحية ميسورة التكلفة؟ في هذه اللحظة التي يتضح فيها تداعي نصف الأسر الأمريكية أو أكثر من النصف، كيف يمكنني احتمال حكومة تضع أولوية رفاه المليارديرات -التي تدر عليهم ثرواتهم كل أسبوع أموالاً تفوق ما سيربحه كثيرون منا طيلة حياتهم- على حساب رفاه 90% من الأمريكيين الذين يحققون أقل من 100 ألف دولار سنوياً؟
العلاقة بين التكافل والمناخ
فما هي العلاقة بين التكافل والمناخ؟ إنها كل شيء. فالأشخاص ذوو الصحة الضعيفة ومن لا يملكون المال لا يستطيعون الوقوف بسهولة من أجل اتخاذ إجراء يتعلق بالمناخ، لكنهم قد يفعلون إذا وضعتهم الحكومة على موطئ قدم ثابت، وقدمت إطار عمل -مثلما هو الحال في التشريع المقترح المعروف بـ "الصفقة الجديدة الخضراء"- لحصولهم على أجور جيدة من أجل تنفيذ هذا الإجراء فعلياً.
ثمة أوجه كثيرة للتآزر. ومن خلال تقديم حكومة الولايات المتحدة مبالغ مباشرة إلى الأسر الأمريكية، فإنها على بعد خطوة أو خطوتين من دفع المال إلى عمال المناجم ومربي الماشية كي يصبحوا عمال تركيب لوحات شمسية وعمال صيانة مزارع الرياح. ويمكن لاستحداث شكل من الدخل المضمون، حتى إن كان مؤقتاً، أن يمهد الطريق لنهج " رسوم وأرباح الكربون" المتعلق بفرض ضرائب على الوقود الكربوني، بدون إثقال كاهل الأقل ثراء. وفي سياق مختلف، يمكن أن يؤدي استبدال العطلات المنزلية بالسفر المحموم خارج البلاد إلى تقليص حجم الشركات المدمرة اجتماعياً التي على شاكلة إير بي إن بي، مما يجعل تأجير الشقق ميسور التكلفة، وهو ماسيؤدي بدوره إلى تقليص حجم السفر لمسافات بعيدة وخفض انبعاثات الكربون بالتبعية.
الأغنياء يلوثون الكوكب
أما بالغو الثراء، فلم يتضح كلياً من قبل أن ثرواتهم جوفاء ومتسببة في التآكل، إذ إن نسبة الكربون التي تحرقها أثرى 5% من الأُسر حول العالم مجتمعة، تتجاوز نسبة إجمالي نسبة الكربون التي يحرقها النصف الأقل ثراءً من سكان العالم، وذلك بحسب تقرير شامل جديد صادر عن جامعة ليدز. ففي أعقاب هذه الجائحة، هل حان وقت تتويج جهود العقد الماضي من الأبحاث والتحريض ضد عدم المساواة، في إصرار على تحويل الثروة الخاصة المفرطة إلى ثروة جديدة يشترك فيها الجميع وتتشكل من الطاقة المتجددة والمجتمعات المستدامة؟
إذ إن هذا النوع من البرامج– أكثر من محاولات تصفية الاستثمارات في الوقود الأحفوري وجهود الدعاوى الجماعية- هو الذي سيتخلص من قبضة إمبراطورية الوقود الأحفوري التي تعتمد عليه ثروات فائقي الثراء. وفي هذه العملية، يمكن أن تتنحى جانباً التطلعات السامة بالانضمام إلى طبقة بالغي الثراء. وحينها سنقول وداعاً لاشتهاء ركوب مروحيات نقل الركاب، ووداعاً لتعطش المرء لشراء جزيرة خاصة به، ووداعاً للتشريعات التي تُشترى بأموال الكسب غير المشروع.
وبالنسبة للطبقات العليا المتحجرة، الذين يعتنقون المبدأ اليميني الليبرالي القائل إنه "لا يوجد ما يُعرف بالمجتمع"، وهي كلمات شهيرة قالتها مارغريت ثاتشر من قبل، فلنأمل أن تجيب عليهم الملايين من عوام الشعب، الذين يرون بوضوح -في ظل زيادة حدة الجائحة- أننا جميعاً نستقل هذا القارب المثقوب معاً.