"يتجمعون في المصاعد الضيقة لينزلوا أميالاً تحت الأرض، حيث يقطعون طبقات من الذهب أو البلاتين في درجات حرارة شديدة ورطوبة مرتفعة"، كانت أيامهم كالجحيم، ولكن اليوم بسبب تداعيات أزمة كورونا على إفريقيا يتمنى هؤلاء الناس عودة هذا الجحيم.
كان هذا الجحيم يمثل يوم عمل طبيعياً لمئات الآلاف من الرجال في مناجم جنوب إفريقيا، حسبما ورد في تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.
وبعد ساعات من العمل القاصم للظهر، يعودون إلى السطح للاستحمام في المناطق العامة، ويتقاسم الكثيرون وجبات الطعام وينامون في بيوت مزدحمة.
أفارقة يفتقدون أيام الجحيم
ولكن أيام الجحيم هذه ولت وجاءت أيام أسوأ منها.
فرضت جنوب إفريقيا في 26 مارس/آذار 2020 إغلاقاً لمدة ثلاثة أسابيع لمكافحة فيروس كورونا، وفرضت حظراً على الملايين في منازلهم وأغلقت معظم الأعمال التجارية بما فيها المناجم.
ولكن إغلاق هذه المناجم ليست مشكلة لعمالها ولا أصحابها فقط، بل للعالم كله.
فهذه المناجم تعد الحلقة الأولى في سلسلة توريد عالمية تمر عبر مصانع الهواتف الذكية في الصين ومصانع السيارات في ديترويت، أو تورينو أو طوكيو، وتنتهي في المتاجر وصالات العرض حول العالم.
تداعيات أزمة كورونا على إفريقيا
حتى مع إعادة فتح آسيا ببطء بعد إغلاقها، تداعيات أزمة كورونا على إفريقيا لا تتراجع بل مرشحة للتصاعد.
تتعرض المصانع هناك لمخاطر نقص الإمدادات حيث ينتشر الفيروس في البلدان التي تنتج المواد الخام الحيوية. وليس هناك مشكلةٌ في أيِّ مكانٍ آخر أكبر من إفريقيا، التي توفر المعادن والمعادن اللازمة لكل منتج صناعي تقريباً، حيث تعاني البلدان التي تعتمد بشدة على التجارة مع الصين من انهيار أسعار السلع الأساسية.
في حين أن عدد حالات الإصابة المؤكدة بفيروس كورونا في جميع أنحاء إفريقيا لا يزال منخفضاً مقارنة بأجزاء أخرى من العالم -حوالي 7 آلاف حالة في قارة يبلغ عدد سكانها 1.3 مليار نسمة- يعد التباعد الاجتماعي رفاهية لا تكاد المنطقة تتحملها.
وتفتقر معظم الحكومات إلى الموارد اللازمة لتطبيق تدابير احتواء فعالة، والنظم الصحية مهددة بالانهيار إذا وصل المرض إلى مدن الأكواخ الفقيرة والأحياء الفقيرة في إفريقيا.
من جانبه، قال أوريت فان هيردين، الرئيس التنفيذي لشركة Equiception، وهي شركة استشارية في سلسلة التوريد في جنيف: "بالنسبة لإفريقيا، سيكون الأمر أصعب بكثير مما تتخيل. لقد نجوا من فيروس الإيبولا، وتعاملوا مع الملاريا والسل، لكنني لا أعتقد أنهم واجهوا من قبل شيئاً معدياً مثل هذا".
تستعد المناجم الإفريقية التي تنتج المواد الخام للمصانع في جميع أنحاء العالم لوصول الفيروس. في جنوب إفريقيا، قلصت شركة Kumba Iron Ore Ltd، أكبر منتج لخام الحديد في القارة إنتاجها، كما قلصت كل من Anglo American Platinum Ltd وSibanye Stillwater Ltd، أكبر موردي البلاتين في العالم، معظم إنتاجهما. بالإضافة إلى ذلك، جرى إغلاق مناجم الكروم والمنغنيز، التي تزود مكونات الصلب، إلى حد كبير.
مشكلة المواد الخام المستخدمة في البطاريات، وعزل كامل لأحد المناجم
لوابالا، وهي مقاطعة في جمهورية الكونغو الديمقراطية والتي تعد مزوداً رئيسياً للنحاس والكوبالت المستخدم في البطاريات القابلة لإعادة الشحن، تظل المناجم مفتوحة ولكن قوة العمل اقتصرت على الأفراد الأساسيين لتقليل خطر العدوى.
وجرى عزل Tenke Fungurume، وهو منجم تملكه شركة China Molybdenum، مع إصدار أمر لحوالي 2000 شخص بالبقاء في الموقع وتجنب "الاتصال بالعالم الخارجي"، وفقاً لمذكرة وزعت على الموظفين.
يقدم هذا المنجم نموذجاَ لتطرف تداعيات أزمة كورونا على إفريقيا رغم عدم انتشار المرض، عزل كامل للعمال عن العالم الخارجي، لكي يستمر الإنتاج.
وأزمة بسبب شبكة النقل
حتى المنشآت المستمرة في الإنتاج تتعرض لمخاطر إعاقة توصيل سلعها إلى السوق. في أفضل الأوقات، تعد شبكات النقل في إفريقيا مجزأة وغير فعالة، وموانئها وخدماتها الجمركية بطيئة بشكل ملحوظ.
اليوم، أغلقت معظم البلدان الإفريقية حدودها، في حين قيدت العديد من الدول الإفريقية السفر الداخلي أو فرضت الإغلاق.
في حين أن البضائع عادة ما تكون مستثناة من القيود، إلا أن تزايد الضوابط الأمنية والتدابير الصحية وانخفاض عدد الموظفين في الموانئ والسكك الحديدية يهدد بالتأخير الشديد.
والدول المنتجة للخامات تعتمد على موانئ جيرانها
على سبيل المثال، ينتقل معظم النحاس والكوبالت من مناجم الكونغو بالشاحنات عبر زامبيا، ثم إلى الموانئ في جنوب إفريقيا وتنزانيا. في حين لا يزال بإمكان ناقلات البضائع العبور إلى زامبيا، إلا أن التدابير الصحية الجديدة أدت إلى التكدس بطول 25 ميلاً على الحدود.
في كينيا، أدى حظر التجول من غروب الشمس إلى طلوع الفجر إلى تكدس البضائع في الموانئ، مما أدى إلى ارتفاع تكاليف الشحن بنسبة الثلث تقريباً، وفقاً لما ذكره دنيس أومبوك، الرئيس التنفيذي لاتحاد شركات النقل في كينيا، الذي يمثل أصحاب أسطول الشاحنات. وقال أومبوك إنه بالرغم من إعفاء السلع الأساسية رسمياً، إلا أن السائقين يتعرضون لمضايقة الشرطة.
وقال: "إن الأمر يستغرق ثلاثة أيام للتخليص الجمركي عند الحدود بين كينيا وأوغندا. تحتاج الشرطة إلى تخفيف حدة طريقة تعاملها مع شركات النقل. نحمل الطعام والمواد الخام. هذه ضرورية".
في جنوب إفريقيا، اقتصرت عمليات ميناء ديربان، الأكثر ازدحاماً في إفريقيا جنوب الصحراء ويخدم دولتي زامبيا وزيمبابوي غير الساحليتين، على البضائع الأساسية، وأوقفت الشرطة جميع الشاحنات التي تحمل بضائع أخرى لعدة أيام.
وفي يوم الخميس 2 أبريل/نيسان 2020، جرى إلغاء طلب للمساعدة في تخفيف الازدحام الهائل في الميناء. وسط الارتباك، تقول شركة First Quantum Minerals Ltd.، التي تمثل أكثر من نصف إنتاج النحاس في زامبيا، إنها بدأت في وضع خطط شحن بديلة.
والجيران يغلقون حدودهم، والعالم قد يواجه نقصاً في إنتاج النحاس
عند المعبر الرئيسي بين زامبيا والكونغو، اضطرت أكثر من 1000 شاحنة تحمل أغذية ومعدات وإمدادات للمناجم إلى الانتظار في الأسبوع الماضي بعد دخول الإغلاق الجزئي حيز التنفيذ. في الوقت الحالي، تمكنت زامبيا من إقناع حكومة موزمبيق بالسماح للشاحنات التي تحمل الوقود من ميناء بيرا بالخروج من موزمبيق، بعد احتجازها على الحدود.
من جانبه، حذَّر الرئيس الزامبي إدغار لونغو الأسبوع الماضي من هذا الوضع قائلاً "مع وجود أزمة بهذا الحجم، سنجد أنفسنا تحت الإغلاق القسري إذا أغلق جميع جيراننا حدودهم".
وتتحرك التجارة العالمية في العديد من الاتجاهات هذه الأيام، لذا تواجه المناجم نقصاً محتملاً في الواردات الأساسية اللازمة لمواصلة العمل حيث يحد الموردون في جميع أنحاء العالم من الإنتاج؛ حمض الكبريتيك، على سبيل المثال، مهم في معالجة النحاس.
وأثارت زامبيا وناميبيا، اللتان تشحنان النحاس واليورانيوم إلى الصين، ناقوس الخطر بشأن النقص الوشيك في المواد الكيميائية الرئيسية لمناجمهما.
وقال فيستون مالانجو، رئيس غرفة المناجم في ناميبيا: "تحصل معظم شركات التعدين، إن لم يكن جميعها، على مدخلات من الصين. ولم نتمكن من القيام بذلك".