صُعِقَت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الصيف الماضي حين احتل مُرشَّحها المفضل لمنصب المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) المركز الثالث بفارقٍ كبير عن الفائز تشو دونغ يو الصيني. وبذلك الفوز، أصبح الصينيون مسؤولين عن أربعٍ من وكالات الأمم المتحدة المتخصصة التي يبلغ عددها 15 وكالة، بينما يتولَّى كلٌّ من الفرنسيين والأمريكيين والبريطانيين رئاسة وكالةٍ واحدة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ التنافس على هذه المناصب القيادية أصبح ساحةً لسياسات القوى العظمى، وقد أظهر فوز تشو رغم المعارضة الأمريكية أنَّ الولايات المتحدة ستحتاج إلى تكريس المزيد من الجهد والموارد إذا كانت تأمل في النجاح في الانتخابات المستقبلية على المناصب القيادية في الأمم المتحدة، بحسب تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية.
ثم مرَّت الأشهر بوتيرةٍ سريعة وصولاً إلى الشهر الجاري مارس/آذار، الذي شهد انتخاب المدير العام للمنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو). وتسمح منظمة الويبو للمخترعين في جميع أنحاء العالم بتسجيل ابتكاراتهم وحمايتها. لذا فليس من المستغرب أن الصين، التي تعد اللص الأبرز لحقوق الملكية الفكرية في العالم، كانت تضغط بقوة على الدول الأخرى لدعم مُرشِّحها وانغ بينينغ للفوز بمنصب مدير المنظمة. غير أنَّ فوز المُرشَّح الصيني برئاسة الويبو كان سيُعرِّض سرية معلومات براءات الاختراع المُسجَّلة للخطر.
الولايات المتحدة تدفع بقوة
لذا فعلى عكس انتخابات منظمة الأغذية والزراعة، بذلت الولايات المتحدة مساعي قوية على أعلى المستويات لدعم المرشح السنغافوري دارين تانغ في انتخابات الويبو. إذ ضغط أندرو بريمبرغ، السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة في جنيف، على الحكومات الأخرى بلا كللٍ طوال عدة أشهر من أجل دعم المرشح السنغافوري. فيما سلَّط وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو الضوء كثيراً بينه وبين القادة الأجانب وقادة مجتمع الأعمال على مخاوفه بشأن التعدي الصيني على الملكية الفكرية. حتى أنَّ بيتر نافارو، مساعد ترامب، حذَّر من فوز المرشح الصيني علانيةً في صحيفة The Financial Times البريطانية. بينما كتب بعض أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي من كلا الحزبين رسالةً أعربوا فيها عن معارضتهم لتولِّي الصين رئاسة الويبو.
واستخدم المسؤولون الأمريكيون حججاً منطقية مختلفة لإقناع الحكومات المختلفة بوجهة نظرهم، إذ اقتنع البعض بحجة الإنصاف التي تقول: هناك 193 دولة عضوة في الأمم المتحدة، فلماذا ينبغي لدولةٍ واحدة -أي الصين- أن ترأس 5 من وكالات الأمم المتحدة المتخصصة الخمس عشرة في الوقت الذي هناك فيه مرشحون مؤهلون آخرون؟
فيما ركَّزت حجةٌ أخرى على ضرورة حماية سمعة الويبو المؤسسية، إذ تشير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) إلى أنَّ أكثر من 80% من السلع المُقلَّدة والمُقرصنة في السنوات الأخيرة تصدر من الصين وهونغ كونغ. وهذا أمر مُزعِج لأولئك الذين شعروا بالقلق من أنَّ فوز الصين برئاسة الويبو قد يقوِّض نزاهتها المؤسسية أو يجعل بعض الدول تبحث عن بدائل أخرى للويبو من أجل تسجيل براءات الاختراع، مما يهدد استقرار المنظمة.
بينما أشارت حجةٌ ثالثة أبسط إلى ضرورة عدم مكافأة السلوك السيئ. فالعديد من الدول تشعر بالاستياء حيال ما تمارسه الشركات الصينية من سرقةٍ للملكية الفكرية أو تخويف شركات هذه الدول لإجبارها على مشاركة معلومات الملكية الفكرية الخاصة بها. ومن ثَمَّ، لم ترغب تلك الدول في مكافأة هذا النوع من السلوكيات بمنح الصين رئاسة الويبو.
وقد أتت جهود الولايات المتحدة بثمارها يوم 4 مارس/آذار الجاري، حين فاز تانغ بدعم ثلثي أصوات لجنة التنسيق في الويبو. وصحيحٌ أنَّه ما زال ينتظر تصديق الجمعية العامة للويبو على توليه المنصب في مايو/أيار المقبل، لكنَّ هذا التصديق المُنتظر يعد مجرد تصويتٍ تأكيدي وليس انتخاباتٍ تنافسية.
وصحيحٌ أنَّ فوز تانغ بهذا المنصب يُعد إنجازاً ممتازاً، ولكن ينبغي للولايات المتحدة ألَّا ترتكن إلى هذا الإنجاز وتكتفي به، إذ سيشهد العام الجاري والعام المقبل انتخاباتٍ على منصب الرئاسة في عددٍ من المنظمات الدولية البارزة. وفي بعض هذه المنظمات، مثل المنظمة البحرية الدولية والمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، من المرجح أن يسعى شاغل المنصب إلى الفوز بولايةٍ ثانية. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ معظم شاغلي هذه المناصب الإدارية يفوزون بولايةٍ ثانية ما لم يتعرَّضوا لفضيحةٍ كبرى أو يرتكبوا أخطاء فادحة في الإدارة.
ولكن في العقود الأخيرة، نادراً ما بقي مديرو هذه المنظمات الدولية في مناصبهم أكثر من فترتين. وهذا يعني أننا سنشهد عدداً لا بأس به من الانتخابات التنافسية خلال العامين المقبلين على الأرجح. نستعرض هنا ستة من أبرز هذه الانتخابات المنتظرة:
1- منظمة الطيران المدني الدولي (إيكاو)
ستُكمِل فانغ ليو، الأمينة العامة الصينية للمنظمة فترتها الثانية البالغة ثلاث سنوات في العام المقبل 2021. وتجدر الإشارة إلى أنَّ منظمة الطيران المدني الدولي مسؤولةٌ عن تدوين معايير الطيران الدولية لضمان السلامة والأمن. ولكن تحت القيادة الصينية، دعمت المنظمة الأولويات السياسية الصينية، حتى على حساب مهمتها. وتشمل هذه الممارسات الداعمة للسياسة الصينية حرمان تايوان من المشاركة في أعقاب تفشي مرض كوفيد-19، والتكتُّم على تجسسٍ سيبراني صيني.
2- منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (اليونيدو)
من المقرر أن يُكمل لي يونغ، المدير العام الصيني للمنظمة، فترته الثانية البالغة أربع سنوات في العام المقبل. وتعمل منظمة اليونيدو على الارتقاء بالتنمية الصناعية للحد من الفقر والاندماج في الاقتصاد العالمي. ويُذكَر أنَّ الولايات المتحدة انسحبت من اليونيدو في عهد إدارة الرئيس الأمريكي الأسبع بيل كلينتون، لذا ليس لديها الكثير من الاهتمامات المباشرة بشأن اليونيدو أو رئاستها. غير أنَّ بعض الدول الأعضاء في اليونيدو قد تُشكِّك في تأييد المنظمة القوي، تحت قيادة مديرها الصيني، لمبادرة الحزام والطريق الصينية.
3- الاتحاد البريدي العالمي (UPU)
سيختتم بشار عبدالرحمن حسين، المدير العام الكيني للاتحاد البريدي العالمي، فترة ولايته الثانية البالغة أربع سنوات في العام الجاري 2020. ويتمثل الهدف الرئيسي للاتحاد البريدي العالمي في تسهيل تسليم المواد البريدية والطرود بين البلدان عن طريق تحديد قواعد البريد الدولي. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الولايات المتحدة انتصرت في مفاوضاتٍ شاقة في الخريف الماضي بشأن تغيير الرسوم المفروضة على الطرود البريدية، لذا فلديها مصلحةٌ في ضمان أنَّ المدير العام المُقبِل سيدعم هذه التغييرات.
4- مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد).
من المقرر أن يختتم موكيسا كيتوي، الأمين العام الكيني للأونكتاد، فترة ولايته الثانية البالغة أربع سنوات في العام المُقبل. ويهدف الأونكتاد إلى مساعدة البلدان النامية على الاستفادة من التجارة الدولية عن طريق تقديم خدمات التحليل والمساعدة التخصصية. وكثيراً ما تعتمد البلدان النامية على الأونكتاد بدلاً من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية للحصول على المشورة بشأن قضايا التنمية.
5- منظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (CTBTO)
سيُكمِل لاسينا زيربو، الأمين التنفيذي البوركينافي للمنظمة، فترة ولايته الثانية البالغة أربع سنوات في العام المقبل. وتُعَد منظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية مُكمِّلةً لجهود المنظمة الدولية للطاقة الذرية في منع تطوير الأسلحة النووية عن طريق حظر مشاركة الدول الأعضاء في إجراء تجارب نووية، والحفاظ على نظام تحقُّقٍ للكشف عن الأسلحة النووية. ويمكن القول إنَّ هذه المنظمة تُمثِّل أهميةً خاصة لمصالح الولايات المتحدة نظراً إلى طموحات إيران النووية.
6- منظمة التجارة العالمية
من المقرر أن يختتم روبرتو أزيفيدو، المدير العام البرازيلي للمنظمة، فترة ولايته الثانية البالغة أربع سنوات في العام المقبل. وتعد منظمة التجارة العالمية هي المنظمة الدولية الرئيسية التي تُحدِّد قواعد التجارة وحل النزاعات التجارية بين الدول.
وبالمثل، يجب أن يشغَل المناصب القيادية في المنظمات والمناصب العليا الأخرى الأقل شهرةً داخل منظومة الأمم المتحدة أفرادٌ أكفاء يُركِّزون على الوفاء بمسؤولياتهم بأمانةٍ دون الالتفات إلى ضغوطٍ سياسية غير مُبرَّرة من حكوماتهم الوطنية.
ولكن ليست كل هذه المنظمات والمناصب، ولا جميع المهام أو المسؤوليات القيادية التي تجعل تلك المناصب أهدافاً مُغرية للمنافسات بين الدول، مهمة بالقدر نفسه لمصالح الولايات المتحدة. لذا يجب على الولايات المتحدة ألَّا تبالغ في رد فعلها، بل ينبغي أن تُكرِّس الجهود والضغوط والموارد المناسبة لكل منظمة ومنصب على حدة.
وينبغي كذلك للولايات المتحدة أن تبذل جهوداً متضافرة لتحديد الانتخابات والتعيينات القادمة المهمة، وأن تتواصل باستمرار مع الحكومات الأخرى والمسؤولين الدوليين الآخرين بشأن المرشحين المحتملين، وأن تكون مستعدةً لتصعيد الضغط وتطبيق الدروس المستفادة من انتخابات منظمتي الفاو والويبو لتعزيز فرص نجاح مُرشَّحين مؤهلين ومستقلين.