لا صوت يعلو على صوت تفشي وباء كورونا حول العالم، وأخبار المدة الزمنية المطلوبة لتطوير لقاح ضد الفيروس التاجي أو كوفيد-19 أو كورونا تملأ الفضاء الإلكتروني، لكن قصة تطوير اللقاح تحديداً قضية علمية بحتة، لذلك لابد من متابعتها من خلال أصحابها.
موقع ذا ديلي بيست الأمريكي نشر تقريراً بعنوان: "العلم الجديد المُستخدم لتسريع الوصول إلى لقاح فيروس كورونا"، ألقى الضوء على تفاصيل عملية تطوير اللقاح ضد الفيروسات بشكل عام وما يعنيه ذلك بالنسبة للوباء الحالي.
قصة لقاح شلل الأطفال
قبل قرنٍ من الزمن، في الـ26 من يوليو/تموز عام 1916، اكتسح مرضٌ فيروسي نيويورك، وفي غضون 24 ساعة، ارتفعت أعداد المُصابين الجُدد بشلل الأطفال بنسبة 68%، وقتل تفشّي المرض أكثر من ألفي شخص في مدينة نيويورك فقط، وفي كافة أنحاء الولايات المتحدة، قتل شلل الأطفال أكثر من ستة آلاف شخص عام 1916، وترك الآلاف في حالةٍ من الشلل.
ورغم أنّ العلماء تعرّفوا بالفعل على فيروس شلل الأطفال، لكنّهم استغرقوا 50 عاماً لتطوير اللقاح. ونجح اللقاح في استئصال شلل الأطفال من الولايات المتحدة خلال أقل من 10 سنوات، وتُعَدُّ اللقاحات واحدةً من أكثر أدوات مكافحة الأمراض فاعليةً في عصرنا.
واليوم الإثنين 30 مارس/آذار، أصاب الانتشار السريع لكوفيد-19 نحو 730 ألف شخص حول العالم، وقتل أكثر من 34 ألف مُصاب، وهناك حاجةٌ شديدة للقاح من أجل الحيلولة دون إصابة الملايين بالعدوى وموتهم، لكن تطوير اللقاح يستغرق عادةً 16 عاماً في المتوسط.
كيف يستطيع العلماء تطوير لقاح كورونا بسرعة إذن؟
بوصفنا علماء مناعة، نُحاول تسريع عملية تطوير اللقاحات وعلاجات الأجسام المضادة، ونُطوّر حالياً لقاحات مُحتملة جديدة لفيروس زيكا، كما نجحنا في تطوير علاج وقائي قائم على الأجسام المضادة -في 90 يوماً- لوقف هذا المرض الفيروسي.
وتُعَدُّ "دورات العمل" السريعة هذه جزءاً من مشروع منصة الوقاية من الجوائح، الذي تُديره وكالة الأبحاث الدفاعية المتقدّمة (داربا) التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية، لمساعدتنا في تحديد العلاجات الوقائية القائمة على الأجسام المضادة ونشرها لمكافحة تفشّيات الأمراض الفيروسية مثل سارس-كوف-2، وفي الوقت الحالي، يعمل عددٌ من الزملاء على تسريع عملية إنتاج نوع جديد من اللقاحات لمكافحة كوفيد-19.
لقاحٌ أوّلي
يُدرّب اللقاح جهاز مناعة الجسم على التعرّف إلى بروتين فيروسي مُميّز يُدعى المستضد، وسارس-كوف-2 يحمل هذا الاسم بفضل شكل سطحه الذي يُشبه التاج، مثل الفيروسات التاجية الأخرى، وتُوجد ثلاثة بروتينات على سطح هذا الفيروس: الغلاف، والغشاء، والحسكة التي تلتف حول حبل من الحمض النووي الريبوزي (رنا)، ويحمل جزيء رنا التعليمات الجينية التي يتكوّن منها الفيروس.
لكن الفيروسات لا تصنع مُكوّناتها الخاصة، إذ يدخل فيروس كورونا إلى الرئة، وغيرها من خلايا المسار التنفسي، عن طريق الالتصاق بها بواسطة بروتين الحسكة، وبمجرد دخولها، يصير الرنا الفيروسي جزءاً من آلية إنتاج البروتين في الخلية المُضيفة، ويُنتج نسخاً جديداً من البروتينات والرنا الفيروسي لتجتمع على هيئة آلاف الفيروسات الجديدة لنشر المرض.
لذا فإنّ إحدى طرق وقف المرض هي منع الفيروس من دخول الخلايا، وتفعل اللقاحات ذلك بتدريب الجسم على تحديد الفيروس، ومُهاجمته، قبل أن يُعدي الخلايا البشرية السليمة.
واللقاح هو في الأساس بمثابة إعدادٍ نقي لواحدٍ أو أكثر من مُكوّنات الفيروس -مثل بروتينات الغلاف أو الغشاء أو الحسكة- قبل حقنها داخل الجسم لمنح جهاز المناعة فكرةً مبدئية عن الفيروس دون التسبب في عدوى الجسد المُضيف. وهذه الفكرة المبدئية تُعلّم جهاز المناعة أن يبحث عن الفيروسات التي تحتوي على تلك البروتينات، ويُهاجمها في حال ظهور الفيروس الحقيقي داخل الجسم.
لكن تطوير اللقاحات المبنية على البروتينات الفيروسية يستغرق فترةً عدة سنوات، كما كان الحال مع فيروس الورم الحليمي البشري، وبين بضع عقود كما حدث مع فيروس الروتا. وتتطلّب اللقاحات القائمة على البروتين إنتاجاً هائلاً للبروتينات الفيروسية في المعامل التي تستطيع ضمان نقائها، ويُمكن أن يستغرق نمو الفيروسات وتنقية البروتينات، بالمقاييس الصيدلانية المقبولة طبياً، عدّة سنوات، وعلى أرض الواقع، لا تُوجد لقاحاتٌ فعّالة حتى الآن ضد الأوبئة الحديثة مثل الإيدز والزيكا والإيبولا.
المسار السريع
ويعتمد الباحثون بجامعة فاندربيلت وغيرها من المؤسسات العلمية على مقاربات بديلة في صُنع لقاحٍ فعّال سريعاً، لمكافحة الفيروسات سريعة الانتشار بدرجةٍ غير مسبوقة مثل سارس-كوف-2، إذ سيحمل جيلٌ جديد من اللقاحات تعليمات جزيئية لصُنع البروتين، بدلاً من حمل البروتينات نفسها، ويطلق على تلك اللقاحات اسم الرنا المرسال.
وبدلاً من اللقاحات القياسية التي تستخدم البروتينات لتوفير المناعة، يُوفّر لقاح الرنا المرسال الحمض النووي الريبوزي المرسول اصطناعياً، حتى يستخدمه جسد المُضيف لاحقاً لإنتاج البروتينات الفيروسية نفسها.
وأهم ميزات لقاحات الرنا المرسال هي قدرتها على تجنُّب متاعب إنتاج بروتينات فيروسية نقية، إذ تُوفّر في بعض الأحيان شهوراً أو سنوات تُقضى في وضع معايير الإنتاج الضخم وزيادته.
وتُحاكي لقاحات الرنا المرسال في الأساس العدوى الطبيعية بالفيروس، لكنها تحتوي فقط على نسخةٍ اصطناعية قصيرة من الرنا المرسال الفيروسي تُشفّر البروتين المستضد فقط، ويُعَدُّ استخدام الرنا المرسال في التلقيح آمناً، نظراً لأنّه لا يستطيع أن يصير جزءاً من كروموسومات الشخص، وستكون لقاحات الرنا المرسال من هذا النوع أكثر أماناً من اللقاحات الفيروسية -أو القائمة على البروتينات- الضعيفة، لأنّها لا تحمل مخاطر أن ينشط الفيروس المحقون أو يتلوّث البروتين.
وباستخدام هذه الاستراتيجية، أعلنت شركة التكنولوجيا الحيوية Moderna Inc أنّها طوّرت سريعاً لقاح رنا مرسال تجريبياً لكوفيد-19 في الـ24 من فبراير/شباط، ويُدعى الرنا المرسال-1273، وأوضحت الشركة أنّها جاهزةٌ لبدء التجارب السريرية على البشر، وخرج هذا اللقاح المُحتمل إلى النور بتمويلٍ من مؤسسة Coalition for Epidemic Preparedness Innovations، وبالتعاون مع المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية، ويُشفّر الرنا المرسال-1273 صيغةً مُستقرة من بروتين الحسكة الخاص بسارس-كوف-2.
وفكرة استخدام الرنا المرسال ليأمر الجسد البشري بقراءة التعليمات، وإنتاج البروتينات الفيروسية، ليست فكرةً جديدة. إذ برهن الباحثون قبل عقدين من الزمن على أنّ الرنا المرسال المُزوّد خارجياً يُترجَم إلى بروتين مُشفّر، لكن الرنا المرسال لا يُعَدُّ من الجزيئات شديدة الثبات، مما حال دون تحوّله إلى لقاحٍ على أرض الواقع. ويعتمد الرنا المرسال-1273 الذي يجري تطويره اليوم على تعديلات كيميائية تهدف إلى تثبيت الرنا المرسال، وتعبئته في شكلٍ قابل للحقن باستخدام جزيئات النانو السائلة.
الأجسام المضادة القائمة على الرنا
إلى جانب استخدام الرنا المرسال بوصفه لقاحاً، يستخدمه العلماء بوصفه عقاراً يُمكن تعاطيه وريدياً. وفي هذه الحالة، يُشفّر الرنا المرسال بروتين أجسام مُضادة يُعرف عنه مهاجمة الفيروس. لذا فبدلاً من إعطاء المريض جرعةً من بروتينات الأجسام المضادة، يستطيع الأطباء حقنه بالرنا المرسال الذي يحمل تعليمات للجسم بكيفية إنتاج نسخة من بروتينات الأجسام المضادة المكافِحة للمرض.
ويُمكن تحديد الأجسام المُضادة سريعاً عن طريق فحص الناجين من المرض. لكن إنتاج هذه الأجسام المُضادة من أجل العلاج يُواجه عادةً عقبات ضعف قدرة الإنتاج، وعدم كفاية التنقية، والتعديلات الخاطئة على البروتين.
وبرهن فريق جيمس كرو على فاعلية هذه الاستراتيجية بالفعل هنا في جامعة فاندربيلت. إذ عزلت إحدى الدراسات الحيوانية جسماً مُضاداً لأحد الناجين من الشيكونغونيا، وهي عدوى فيروسية استوائية ناشئة يحملها البعوض وتُسبّب آلام المفاصل المُزمنة المُوهنة والتهاب المفاصل. ثم جرى تشفير الجسم المضاد على هيئة رنا مرسال وحقنه في الفئران. ونجح الجسم المضاد الناتج عن الرنا المرسال المُشفّر في وقاية الفئران من العدوى والتهاب المفاصل المُرتبط بالفيروس، كما نجح في توليد أجسام مُضادة وقائية لدى قرود المكاك. وتخضع الأجسام المضادة القائمة على الرنا للتجارب السريرية حالياً.
ومن المنطلق نفسه، يجري عزل الأجسام المضادة لسارس-كوف-2 من أجساد الناجين من مرض كوفيد-19. إذ يُمكن تشفير التعليمات الجينية، لأكثر الأجسام المضادة فاعليةً في مكافحة فيروس كورونا، على هيئة رنا مرسال. ومن ثم يُمكن استخدام الأجسام المضادة المُشفّرة للرنا المرسال من أجل علاج المرضى الذين يحتاجون إلى رعايةٍ عاجلة.
وفي حين تُعتبر هذه المقاربات الجديدة واعدة، لكنّها ما تزال تجريبية. وتظل أفضل الأساليب المُتاحة للوقاية من كوفيد-19 هي الحيلولة دون انتشار المرض واحتوائه. ويظل التباعد الاجتماعي -واليقظة- أفضل أسلحتنا في مواجهة سارس-كوف-2، حتى نعثر على لقاحٍ مُضاد جيد.