"مصر دخلت بالفعل مرحلة الفقر المائي".. حقيقة ترددت كثيراً على لسان المسؤولين منذ عام 2015؛ فما هو الفقر المائي؟ وما علاقة سد النهضة الإثيوبي بالقصة؟ وهل هناك إجراءات تتخذها الحكومة للاستعداد لما هو قادم؟
ماذا يعني "الفقر المائي"؟
مصطلح الفقر المائي جديد نسبياً، حيث بدأ تداوله مع مطلع القرن الحالي، ولا يزال يحمل تفسيرات مختلفة من منطقة لأخرى حول العالم، ففي بريطانيا على سبيل المثال الفقر المائي يعني معاناة الشخص لسداد فاتورة مياه الشرب.
لكن المصطلح بشكل عام مرتبط بكمية المياه التي يحتاجها الفرد لاحتياجاته سنوياً وهناك توافق عام وإن كان بصورة غير رسمية على أن تلك الكمية هي 1000 متر مكعب لكل فرد سنوياً.
وبتطبيق تلك المعادلة الحسابية على مصر، نجد أن نصيب المواطن المصري من المياه كان 2000 متر مكعب سنوياً عام 1959، وبعدها بثلاثة عقود أي عام 1985 انخفض ذلك إلى 1138 متراً مكعباً سنوياً لكل فرد، وفى عام 2007 كان نصيب الفرد في مصر 759 متراً مكعباً، بينما في عام 2018 انخفض نصيب الفرد إلى 555 متراً مكعباً سنوياً، ومن المتوقع أن يتدنى نصيب الفرد إلى 300 متر مكعب فقط عام 2050.
الأرقام إذن تقول إن مصر دخلت نطاق الفقر المائي منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، وإن عمق ذلك الفقر يزداد بصورة مطردة وهو مرتبط بالزيادة السكانية بشكل مباشر، وقد تخطت مصر حاجز الـ100 مليون نسمة منذ أشهر قليلة.
سد النهضة يفاقم الأزمة
علاقة سد النهضة الذي تبنيه إثيوبيا بقضية المياه في مصر مباشرة وخطيرة، حيث تعتمد مصر على مياه نهر النيل بنسبة تتخطى 90%، وتبلغ حصتها من مياه النيل 55.5 مليار متر مكعب سنوياً، وهذه الحصة ثابتة منذ توقيع اتفاقية توزيع مياه النيل بين مصر والسودان عام 1959، وكان عدد سكان مصر وقتها تقريباً 25 مليون نسمة فقط.
ومنذ توقيع مصر إعلان المبادئ مع إثيوبيا والسودان في مارس/آذار عام 2015 بشأن سد النهضة، انطلقت أديس أبابا في تشييد السد بصورة متسارعة، على الرغم من أن فكرة ذلك السد ترجع إلى عقود طويلة وكانت تجد معارضة صارمة من الحكومات المصرية المتعاقبة، على أساس أن السد لابد أن يؤثر على حصة مصر من مياه النيل وهي الشريان الرئيسي للحياة في البلد الذي أطلق عليه المؤرخ اليوناني هيرودوت "هبة النيل".
توقيع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي على إعلان المبادئ، رغم معارضة الكثيرين داخل مصر ومنهم رئيس الوفد المصري في المفاوضات وقتها، أصبح الورقة التفاوضية الأقوى لدى الجانب الإثيوبي وأضعف الموقف المصري في المحافظة على الحقوق التاريخية لمصر في مياه نهر النيل، وهو ما أدى في النهاية إلى وصول المفاوضات بين الجانبين لطريق مسدود، والآن لا يبدو أن هناك مخرجاً للأزمة، فكيف تستعد مصر لمواجهة الفقر المائي الذي تعاني منه بالفعل بعيداً عن السد الإثيوبي الذي سيزيد الطين بلة؟
كيف تستعد الحكومة إذن؟
التقرير السنوي الذي عرضته الحكومة أمام مجلس النواب في نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي قدم لمحة عن الإجراءات التي تهدف إلى مواجهة مشكلة شح المياه، وتسير في مسارين؛ الأول محاولة الحفاظ على الحقوق المائية التاريخية في نهر النيل، والثاني تنمية الموارد المائية، وترشيد وتدبير الاحتياجات المائية، وترشيد استخدامات مياه الري، وذلك من خلال تنفيذ معالجة ثنائية وثلاثية مطورة، والتوسع في تطبيق نظام الري الحقلي بالزراعة.
من المهم هنا أن نذكر بعض الحقائق المتعلقة باستهلاك المياه؛ أولى تلك الحقائق أن 80% من موارد مصر من المياه تذهب لقطاع الزراعة، بحسب وزارة الري، وهو ما يطرح تساؤلات حول عدم التوسع في تحويل نظم الري من الغمر إلى الري بالطرح الحديثة.
وفي هذا السياق، عرضت الحكومة خطة عاجلة لترشيد وتدبير الاحتياجات المائية، فجرى فيها التنسيق والتعاون بين عدد من الوزارات المعنية؛ لتوفير٧٠٠ مليون م٣ من المياه، من خلال التوسع في إنشاء محطات الخلط الوسيط، التي أسهمت في توفير مياه الزراعة لـ٧ محافظات، هي "البحيرة، وكفر الشيخ، ودمياط، والدقهلية، والغربية، والمنوفية، والشرقية"، بالإضافة إلى الانتهاء من تحسين التربة وتسويتها بـ"الليزر" في ٩٩ ألف فدان، ما سيوفر نحو ٩٧ مليون م٣ من المياه.
وقالت الحكومة إن جهود ترشيد وتدبير الاحتياجات المائية، التي تنفذها وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي، أسفرت بالفعل عن توفير ١.٥٢ مليار متر مكعب في السنوات الثلاث الماضية.
كانت الحكومة قد بدأت بالفعل في تقليص زراعة المحاصيل التي تحتاج لكميات كبيرة من المياه وعلى رأسها الأرز وقصب السكر والقطن، وذلك منذ مطلع القرن العشرين.
إجراءات الحكومة في مجال تنمية الموارد المائية تشمل الانتهاء من إنشاء قناطر أسيوط الجديدة ومحطتها الكهرومائية لتلبية الاحتياجات المائية لمحافظات "أسيوط، والمنيا، وبني سويف، والفيوم، والجيزة" وتوفير الاحتياجات المائية لمساحة ١.٦٥٠ مليون فدان.
كما تتضمن حفر ٤٥ بئراً في محافظتي قنا وأسوان، وإحلال وتجديد ٤٠ بئراً في المنوفية والغربية والقليوبية والجيزة، وتطوير وحفر ٥٠ خزاناً أرضياً للاستفادة من مياه الأمطار والسيول في مطروح، ووصل حجم الطاقة الاستيعابية لخزانات مياه الأمطار إلى ١٢ مليون متر مكعب، بجانب إنشاء ٢٢ مخر سيل لخفض الطاقة التدميرية لمياه السيول، و٤٣ سداً للإعاقة وبحيرات صناعية في البحر الأحمر وجنوب سيناء وأسيوط وأسوان، لاستيعاب مياه السيول واختزانها سطحياً.
وبالتوازي مع تلك الإجراءات، تكثف الحكومة الجهود التوعوية لترشيد استخدام المياه في المحافظات جميعها، بهدف رفع الوعي بأهمية الترشيد عند جميع فئات المواطنين، ويرى البعض أن زيادة أسعار مياه الشرب وخدمات الصرف الصحي أكثر من مرة، كان آخرها في يونيو/حزيران 2018 بنسبة تقترب من 50%، تصب أيضاً في خانة الاستعدادات الحكومية لوصول أزمة المياه لأبعاد أسوأ.
هل يعني هذا استسلاماً للأمر الواقع؟
البعض يرى أن تكثيف الحكومة استعداداتها لمواجهة الفقر المائي ومحاولة تنمية موارد أخرى للمياه غير مياه نهر النيل إشارة إلى الاستسلام في معركة سد النهضة، في ظل تمسك إثيوبيا بموقفها ومواصلة تشييد السد والإصرار على بدء عملية ملء خزان السد في يوليو/تموز المقبل، لكن لا أحد يدري ما يمكن أن يحدث في الأشهر الأربعة المقبلة، خصوصاً مع تفشي وباء كورونا وانشغال العالم أجمع بمواجهته.
لكن بعيداً عن أزمة سد النهضة، يظل التحدي الأكبر الذي تواجهه الحكومة هو مدى النجاح في توعية المواطنين بحتمية ترشيد استهلاك المياه، واتخاذ إجراءات صارمة في قطاع الزراعة للتوقف نهائياً عن الري بالغمر واتباع الأساليب الحديثة في الزراعة بشكل كامل، لأن الفقر المائي يزداد وطأة يوماً بعد يوم في ظل الزيادة السكانية الكبيرة.
وتظل حصة مصر من مياه النيل عاملاً حاسماً بالطبع، وهو ما يعني أن سد النهضة الإثيوبي وتأثيره على تلك الحصة عنصر رئيسي لا يمكن إغفاله في مسار الحياة في مصر سواء في الأشهر القليلة المقبلة أو في السنوات القادمة.