تواجه البشرية عدواً مخيفاً يهدد الجميع وهو فيروس كورونا أو كوفيد-19 الذي لا يرى بالعين المجردة، والآن يعلن القادة والزعماء حول العالم حالة التأهب القصوى لمواجهته، في ظل أسئلة كثيرة تتعلق بدور هؤلاء القادة والزعماء أنفسهم فيما وصلنا إليه جميعاً.
استهانة أم طبيعة الوظيفة؟
رئيسة المفوضية الأوروبية، أورزولا فون دير لاين، اعترفت باستخفاف الأوساط السياسية في البداية بوباء كورونا المستجد، وقالت في تصريحات لصحيفة "بيلد"الألمانية،ة أمس الأربعاء 18 مارس/آذار 2020: "أعتقد أننا جميعاً، أقصد غير الخبراء، استهنا في البداية بفيروس كورونا".
تصريحات السياسية الأوروبية في الواقع تمثل فقط قمة جبل الجليد في القصة، فالقضية هنا ليست فقط استهانة أو استخفاف بل انعكاس دقيق للدور الذي يلعبه السياسيون والقادة والزعماء حول العالم، بغض النظر عن طبيعة نظام الحكم؛ فالأنظمة الشمولية في الصين وروسيا ودول العالم الثالث اتفقت – دون تنسيق – مع نظيرتها في الدول الديمقراطية في التعامل مع هذا "العدو" على أنه "فرصة" لإيقاع ضرر بطرف ما أو تحقيق مكسب سياسي ما.
هذا التعامل السياسي مع قضية صحية بدأ منذ ظهور أول حالة إصابة بالفيروس الغامض في مدينة ووهان بمقاطعة هوبي الصينية، ولا نعرف حتى الآن متى كان ذلك بالتحديد. كل ما نعرفه أن ذلك كان في أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي، وأول "اعتراف" رسمي من الصين جاء في بدايات العام الجاري، بعد أن ساهمت منصات التواصل الاجتماعي في ظهور خبر هنا وفيديو هناك، ثم كان أول بيان لمنظمة الصحة العالمية (المنوط بها قيادة الجهود في مجال الصحة) في منتصف يناير/كانون الثاني وكان بياناً سياسياً بامتياز يفيد بظهور "مرض غامض" اكتشفته الصين وتتعامل معه بصورة تستحق الإشادة.
الصين تسعى لقمع الفيروس وحقيقته
في ذلك الوقت المبكر من ظهور فيروس كورونا، اتضح الآن أن اكتشاف الفيروس نفسه في الصين ربما لم يتأخر، حيث شارك أحد الأطباء واسمه لي وين ليانغ شكوكه بشأن وجود فيروس غامض وفتاك يصيب الجهاز التنفسي وقد يكون من عائلة "سارس" (وباء مشابه ظهر أيضاً في الصين عام 2002) مع زملائه، لكن بدلاً من اتخاذ السلطات الصحية إجراءات سريعة للتعامل بجدية مع الأمر، تعرض الطبيب للاحتجاز من جانب الشرطة، وبعد أن خرج الفيروس عن السيطرة وأصبح مستحيلاً إخفاء الأمر، أعلن عن وفاة الطبيب نفسه يوم 7 فبراير/شباط كأحد ضحايا الفيروس الذي اكتشفه.
قادة الحزب الشيوعي الحاكم في الصين، وعلى رأسهم الرئيس شي جينغ بينغ، تعاملوا باستهانة مع الفيروس إذن، وربما لم يتم إبلاغهم بوجوده من جانب مرؤوسيهم إلا بعد أن تفشى في ووهان بصورة يستحيل إخفاؤها، وهذا ما يحدث في الأنظمة الشمولية الصارمة مثل النظام الصيني، حيث يخشى المسؤول الصغير أو المتوسط إبلاغ من هم أعلى منه بمصيبة كهذه دون أن يكون متأكداً تماماً، لكن في هذه الحالة لم يكن "عدو البشرية" يحتاج أكثر من ذلك الوقت كي ينتشر ويتفشى.
في هذا الوقت (منتصف يناير/كانون الثاني تقريباً) وصلت أخبار الفيروس إلى كل أركان الكرة الأرضية من خلال تغطية أخباره عبر رافدين أساسيين؛ الأول البيانات الرسمية الصادرة عن الحكومة الصينية، والثاني مقاطع الفيديو والمنشورات التي يتشاركها بعض المؤثرين ومشاهير منصات التواصل الاجتماعي داخل وخارج الصين، وتعرض بعضهم للاعتقال، خصوصاً في ووهان.
ترامب يطمئن الجميع
في الفترة من أواخر يناير/كانون الثاني وحتى الأسبوع الأخير من فبراير/شباط، كانت حقيقة خطورة الفيروس وشراسته وسرعة تفشيه قد أصبحت ماثلة أمام الجميع، بعد أن ارتفعت الأرقام الرسمية للإصابات والوفيات في الصين لعشرات الآلاف بسرعة قياسية، وفي المقابل كان السياسيون والزعماء في الغرب كأنهم يعيشون في كوكب آخر، واستغل بعضهم الموقف للهجوم على الصين – في ظل الحرب التجارية والقضايا السياسية – مع انتشار نظريات المؤامرة كالنار في الهشيم.
لكن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يعتبر نموذجاً للسياسيين الذين ساهموا في وصول الفيروس إلى ما وصل إليه الآن كالعدو الأخطر على البشرية – بتوصيف هؤلاء السياسيين أنفسهم – حيث أدلى بتصريحات لا تنم فقط عن جهل تام بشأن خطورة الفيروس، لكنها دليل واضح على أنه بالنسبة لساكن البيت الأبيض "لا صوت يعلو فوق صوت فوزه بفترة ثانية".
ترامب ركب موجة فيروس كورونا منذ يناير/كانون الثاني من خلال تغريدات تقلل من خطورته وتشيد بمتانة الاقتصاد الأمريكي في عهده وقدرته على تعويض الاقتصاد العالمي عن التراجع الذي تشهده الأسواق بسبب الفيروس (أخطأ حتى في كتابة اسم الفيروس بشكل صحيح) وتأثيره على الصين.
والآن بعد أن أصبح واضحاَ للجميع أن الفيروس أصبح العدو الأول للبشرية والجميع يحشدون الإمكانيات لإنقاذ الأرواح، لا يمكن إغفال أن من تسببوا في وصول البشرية إلى حافة الهاوية هم من يفترض بهم حمايتها ويتمتعون بسلطات وإمكانيات هائلة من أجل ذلك الهدف، وهم الزعماء أمثال شي وترامب.
ترامب توقع في فبراير/شباط أن الشهر المقبل أبريل/نيسان سيشهد نهاية فيروس كورونا (بسبب ارتفاع درجات الحرارة)، على الرغم من أن العلماء والمتخصصين أنفسهم لم يجدوا بعد دليلاً على هذه النتيجة – التي نتمنى جميعاً أن تكون صحيحة.
"لقد قامت الولايات المتحدة بعمل جيد جداً في مجال الفحص المختبري للحالات المصابة، وعندما يرغب الناس بإجراء هذه الفحوص يحصلون عليه بسهولة"، هذا واحد من تصريحات ترامب التي اتضح أنها غير صحيحة، فقد أشار البيت الأبيض في مطلع مارس/آذار الجاري إلى أن الولايات المتحدة لا تمتلك كمية كافية من عُدد إجراء الفحوص المختبرية لتشخيص الفيروس، وأفاد بعض المراكز الصحية الأمريكية أيضاً بمواجهة صعوبات في استخدامها.
اللافت أنه حتى اليوم الخميس 19 مارس/آذار، لا يزال ترامب يواصل المكابرة ويزعم أنه تعامل مع "الفيروس الصيني بمنتهى الجدية" وأنه "قام بعمل جيد جداً منذ البداية بما في ذلك قراري المبكر جداً بإغلاق الحدود أمام القادمين من الصين عكس رغبات الجميع. لقد أنقذت الكثير من الأرواح. الأخبار الزائفة تردد قصة جديدة وهي شائنة وكاذبة".
ترامب – قبل 9 أيام فقط – قال: "العام الماضي مات 37 ألف أمريكي بسبب نزلات البرد العادية. ومتوسط الوفيات سنوياً بين 27000 و70000 ، ومع ذلك لا نغلق شيئاً والحياة والاقتصاد تستمر بشكل عادي. في هذه اللحظة يوجد 546 إصابة مؤكدة بفيروس كورونا و22 حالة وفاة. فكروا في هذا!".
هذا التناقض الصارخ بين تصريحات رئيس القوة الأكبر عالمياً، والإصرار على أنه لم يخطئ، وأنه كان يدرك خطورة الفيروس منذ البداية يمثل خطورة بالغة في الحرب ضد الفيروس الذي تحول لعدو البشرية الأول، لأنه لا يوجد ضمان ألا يتخذ ترامب وغيره من القادة والرؤساء قرارات أخرى تتسبب في زيادة حجم الكارثة.
وفي هذا السياق، ركزت وسائل الإعلام داخل وخارج أمريكا على تغريدات ترامب بشأن فيروس كورونا منذ بداية ظهور حقيقة الوباء وخطورته وحتى اليوم، لكن هذه النقطة ليست حكراً على ترامب بالطبع، وإذا كانت رئيسة المفوضية الأوروبية قد اعترفت باستهانة واستخفاف السياسيين بالفيروس، فهل حان الوقت لكي يتصدر الخبراء المشهد؟
منظمة الصحة العالمية ومديرها
والمقصود بالخبراء هنا هم الأطباء وعلماء الفيروسات والأوبئة وأهل الاختصاص، وليس بالضرورة منظمة الصحة العالمية ومديرها العام، فهؤلاء في قفص الاتهام بنفس القدر وربما أكثر مع السياسيين.
فالمنظمة الأممية المنوط بها التعامل مع القضايا الصحية بشكل لا يأخذ في الاعتبار السياسة وتشابكاتها، خصوصاً في حالات الأوبئة التي قد تتفشى خارج السيطرة مثل فيروس كورونا، متهم رئيسي الآن في انتشار الفيروس خارج حدود الصين وتحوله لعدو يهدد البشرية جميعاً.
ولا يتوقف المدير العام للمنظمة الإثيوبي تيدروس عن الإشادة بالصين وقدرتها على احتواء الفيروس، داعياً العالم كله لأن يحذو حذوها، وكأنه متحدث رسمي باسم الحكومة الصينية (تفاصيل الاتهامات الموجهة لتيدروس من هذا الرابط).
ومن المنطقي الآن التساؤل عن سلسلة الأخطاء التي ارتكبتها منظمة الصحة العالمية مما ساعد الفيروس على أن يصل إلى ما وصل إليه الآن؛ بداية من البيان الأول الذي تأخر لمنتصف يناير/كانون الثاني، وصولاً إلى التأخر في إعلان الفيروس وباء عالمياً (يوم 11 مارس/آذار الجاري)، وبينهما التشكيك في جدوى وقف حركة الطيران في مكافحة الفيروس، وكلها قرارات اتخذت في ظل حسابات سياسية مجاملة للصين، على حساب الآلاف من الضحايا.
هل نتعلم الدرس؟
الولايات المتحدة الأمريكية والصين تتبادلان الاتهامات بشأن المسؤولية عما تواجهه البشرية، والصين غاضبة من ترامب، لأنه استخدم مصطلح "الفيروس الصيني"، وروسيا تقول إنها تسيطر على الوضع تماماً، وأن حالات الإصابة بها متدنية وبالعشرات وكوريا الشمالية تقول إنها تسيطر تماماً على الموقف، وأوروبا الآن تواجه عدواً فتاكاً لا يرى بالعين المجردة، والبشرية جميعاً في حالة ذعر وترقب، والبعض يبالغ ويبشر بنهاية العالم، بينما يسابق الخبراء الزمن للتوصل للقاح للفيروس.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وصف مكافحة الوباء بالحرب، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وصفته بأنه العدو الأخطر الذي تواجهه ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية، ورئيس الوزراء الإيطالي رفع الراية البيضاء معلناً عدم قدرة بلاده على مواجهة الكارثة ومستغيثاً بكل من يمكنه تقديم يد المساعدة، والصورة لا تختلف في إسبانيا وباقي دول أوروبا.
رئيسة المفوضية الأوروبية السياسية الألمانية فون دير لاين تقول إنه من الواضح الآن أن هذا الفيروس سيشغل الجميع لفترة طويلة، موضحة أن كافة الإجراءات المتخذة حالياً كان لا بد من اتخاذها قبل أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، مذكرة بأن أوروبا "تعتبر في الوقت الراهن بؤرة الأزمة"، والسؤال هو: هل يتعلم السياسيون حول العالم الدرس ويعيدون ترتيب الأولويات بصورة تحفظ حياة البشر أم أن عالم ما بعد كورونا لن يختلف كثيراً عن عالم ما قبله؟