قصة الباخرة النيلية بين الأقصر وأسوان في مصر تتكشف شيئاً فشيئاً، لترسم صورة أكثر وضوحاً عن أسباب تأخر اكتشاف السلطات الصحية في مصر وجود فيروس كورونا، وهل أدى ذلك لتحول تلك الباخرة إلى بؤرة انتقلت منها العدوى للعديد من الدول حول العالم؟
صحيفة واشنطن بوست الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "حكاية الرحلة النيلية التي أدت إلى تفشي فيروس كورونا عالمياً"، تتبّع القصة منذ الإعلان عن أول حالة إصابة بالفيروس والإجراءات التي تم اتخاذها بعد ذلك، وصولاً إلى تحول الباخرة لبؤرة انتقل منها الفيروس إلى دول عديدة حول العالم.
متى علمت السلطات المصرية؟
بحلول الوقت الذي علمت فيه السلطات الصحية المصرية بشأن وجود حالة فيروس كورونا على متن الباخرة السياحية النيلية، كانت العدوى انتشرت بالفعل حول العالم.
قال مسؤولو الصحة، إن في أواخر شهر يناير/كانون الثاني الماضي، كانت هناك راكبة أمريكية تايوانية على متن الباخرة النيلية MS Asara حاملة لفيروس كورونا المستجد. ولكن حتى اكتشاف ذلك استضافت الباخرة أربع رحلات أخرى على الأقل، وأصيب 12 فرداً على الأقل من طاقمها بالعدوى. وقال أحد أفراد الطاقم الخاضعين للحجر الصحي وأحد كبار المسؤولين الصحيين في الأقصر إن بعض أو كل أفراد الطاقم عملوا على متن الباخرة في فبراير/شباط وأوائل مارس/آذار.
من المحتمل أن يكون مئات الركاب المصريين والأجانب، ومن بينهم عشرات الأمريكيين، تعرضوا للفيروس في الفترة من منتصف شهر فبراير/شباط إلى أوائل مارس/آذار، في مثال واضح على كيفية انتقال فيروس كورونا من حالة واحدة بسرعة كبيرة إلى جميع أنحاء العالم.
وسجلت الولايات المتحدة إصابة ستة أمريكيين على الأقل على متن الباخرة النيلية Asara بعد عودتهم إلى ماريلاند، وفقاً لحاكم الولاية لاري هوغان، ومن المحتمل أنهم نشروا الفيروس في مجتمعاتهم. وسُجلت اثنتا عشرة حالة إيجابية أخرى في منطقة هيوستن. وتتواصل مراكز مكافحة الأمراض واتقائها مع عشرات الأمريكيين الآخرين الذين كانوا على متن الباخرة في فبراير/شباط الماضي، من أجل عمل الاختبارات اللازمة لهم، أو لكي تطلب منهم تطبيق الحجر الصحي الذاتي على أنفسهم.
الباخرة تعمل حتى بعد الإبلاغ
حتى بعد إخطار السلطات الصحية المصرية يوم 1 مارس/آذار بأن المرأة الأمريكية التايوانية كانت حاملة للفيروس أثناء وجودها على متن الباخرة Asara، وأنها على الأرجح تسببت في عدوى آخرين على متن الباخرة، أبحرت الباخرة في رحلة سياحية أخرى يوم 5 مارس/آذار أثناء انتظار السلطات الصحية نتائج فحوصات الطاقم.
وبحلول ذلك الوقت، أخبرت وكالة السياحة الأمريكية التي حجزت الرحلة السياحية النيلية، مركز مكافحة الأمراض واتقائها، بأن الأمريكيين الذين كانوا على متن الباخرة Asara ربما أُصيبوا بالعدوى، ووفقاً لنائب رئيس شركة السياحة Gate 1، مارتي سيسلو، تواصلت الوكالة مع شركة تشغيل البواخر النيلية والسفارة المصرية في واشنطن. وقيل لشركة Gate 1 إن نتائج فحوصات طاقم الباخرة جاءت سلبية، وإن الطاقم غير مصاب بفيروس كورونا، وقال سيسلو: "كانت المعلومات الواردة إلينا تفيد بعدم وجود أي مريض، وأن الجميع على ما يرام، وخلال 24 ساعة قيل لنا إن العشرات كانوا مصابين بالعدوى".
لماذا قرر السائحون البقاء؟
بالرغم من حصول وكالة Gate 1 في البداية على معلومات تفيد بأن نتائج فحوصات الطاقم جاءت سلبية، قررت الشركة إخبار عملائها الحاليين على متن الباخرة بشأن مراسلاتها مع مراكز مكافحة الأمراض واتقائها، وعرضت عليهم إنهاء رحلتهم، ولكن الركّاب اختاروا البقاء على متن الباخرة.
قالت آمي خاميسيان، 65 عاماً، مساعدة قانونية من ميامي: "سبب اتخاذنا القرار بالبقاء على متن الباخرة هو إخبارنا في البداية بأن نتائج فحوصات الطاقم سلبية، وأنهم طهروا الباخرة مرتين. قررنا أننا سنكون أكثر أماناً في هذه المساحة المحكومة، ولكننا كنا في ذلك الوقت مُضلَّلين بمعلومات مغلوطة".
خلال أقل من يوم، عندما وصلت الباخرة إلى مدينة الأقصر، جُمعت عينات من الإفرازات الحلقية والأنفية للركاب، بالإضافة إلى عينات الدم.
وكانت نتيجة فحوصات 33 منهم إيجابية، من بينهم على الأقل ثلاثة أمريكيين و16 أجنبياً آخر، بالإضافة إلى طاقم الباخرة المكوّن من 12 فرداً. أُرسل الركّاب المصابون وطاقم الباخرة إلى مستشفى في شمال مصر للعزل والعلاج. بينما البقية، ومن بينهم 26 أمريكياً و56 أجنبياً آخر فُرض عليهم الحجر الصحي على متن الباخرة.
الاكتشاف
تتألف الباخرة السياحية Asara من خمسة طوابق، منها سطح مشمس وحمام سباحة، وتحتوي على 64 مقصورة مريحة، بالإضافة إلى جناحين كبيرين، وتحظى بشعبية كبيرة بين الركّاب الأمريكيين وغيرهم من المسافرين الأجانب، ويمكنها استضافة ما يصل إلى 132 راكباً. كانت وكالة Gate 1 وحدها تحجز في المتوسط 35 مكاناً لعملائها الأمريكيين على متن الرحلة النيلية الأسبوعية منذ بداية العام الحالي، بما في ذلك رحلتها الأخيرة.
كل يوم أربعاء، كانت الباخرة تُبحر في رحلة نيلية بين مدينتي أسوان والأقصر في جنوب مصر، وقال سيسلو إن الركّاب الأمريكيين على متن الرحلات الأربع للباخرة، التي أبحرت في 12 و19 و26 فبراير/شباط و4 مارس/آذار، محل اهتمام مركز مكافحة الأمراض واتقائها، وأكّد على تعاون شركة Gate 1 التام مع السلطات الصحية الأمريكية ووزارة الخارجية الأمريكية.
كان الزوجان المتقاعدان من بنسلفانيا، باميلا آلين، 69 عاماً، وهارولد آلين، 72 عاماً، على متن الباخرة Asara في رحلة 26 فبراير/شباط. وكانا في رحلة سياحية إلى مصر مدتها تسعة أيام، وكانا يعتقدان أنهما يهربان بذلك من الاضطرابات التي يسببها فيروس كورونا، إذ كانت وجهتهم السياحية تبدو خالية في ذلك الوقت من الحالات المرضية التي ظهرت في كل مكان آخر في العالم.
وقالت باميلا آلين: "لم يتحدث أحد عن الفيروس. كنا نشاهد الأمر في الأخبار، ولكننا لم نكن نشعر بالقلق، فقد كان ما يحدث بعيداً جداً"، وأضافت أنه في نهاية رحلتهم النيلية بدأ العاملون على متن السفينة "ينظفون كل شيء مثل المجانين". وقالت: "لم نكن نشك في أي شيء خلال ذلك الوقت. ولكن عندما ننظر إلى الأمر الآن ندرك أنهم كانوا يعلمون".
عندما عاد الزوجان إلى بنسلفانيا يوم 5 مارس/آذار، سألهما ضباط الجمارك في الولايات المتحدة إن كانا في الصين خلال الفترة الأخيرة، وعندما قالا إنهما كانا في مصر مرّا دون مشكلات. ولكن عندما رأيا في الأخبار وضع الباخرة التي كانا على متنها في الحجر الصحي، بدآ يتساءلان إن كان يجب أن يكونا في الحجر الصحي أيضاً لم تكن تظهر عليهما أي أعراض.
تواصلت شركتهم السياحية Gate 1 مع السلطات الصحية المحلية، التي اتصلت بالزوجين وطلبت منهما البقاء في المنزل وعدم الخروج، وحضر إليهما مسؤولون يرتدون أقنعة وملابس واقية وقفازات مع بعض المعاملات الورقية إلى جانب أقنعة لكي يرتديها الزوجان، وقالت باميلا آلين: "كان يمكن أن تكون الأمور أسوأ، كان من الممكن أن يُفرض الحجر الصحي علينا في مصر".
وفي يوم 6 مارس/آذار، في نفس اليوم الذي أبحرت فيه الباخرة Asara في رحلتها الأخيرة إلى الأقصر، أعلن حاكم ماريلاند هوغان عن ثلاث حالات إصابة بفيروس كورونا بين مواطني مقاطعة مونتغومري، وقال إنهم جميعاً كانوا على متن الباخرة السياحية Asara.
عاد المسافرون الثلاثة إلى الولايات المتحدة يوم 20 فبراير/شباط، وعندما خضعوا لفحوصات الفيروس يوم 4 مارس/آذار، كان أحدهم قد حضر فعالية بالقرب من فيلادلفيا. وقال هوغان إنه خلال تلك الفعالية خالط طلبة ومدرسين من مدرسة محلية. وأضاف أن الإدارة التعليمية أغلقت فيما بعد خمس مدارس.
وحضر مسافر آخر من الثلاثة فعالية في إحدى دور المسنين في روكفيل، وخالط أشخاصاً أعمارهم ما بين السبعين والمئة عام، وناشد هوغان جميع من حضروا فعالية روكفيل بأن يتصلوا بأطبائهم المعالجين أو الاتصال على الخط الساخن لولاية ماريلاند.
وقال هوغان لاحقاً إن ثلاثة مواطنين آخرين من ماريلاند، اثنين من مقاطعة برينس جورج وواحد من مقاطعة مونتغومري، أصيبوا بفيروس كورونا على متن الباخرة Asara، ووفقاً لصحيفة Houston Chronicle، هناك 12 حالة إصابة بفيروس كورونا على الأقل بمنطقة هيوستن ذات صلة بالباخرة النيلية.
وسجلت فحوصات أكثر من 110 حالات أجنبية نتائج إيجابية بعد رحلات سياحية مؤخراً في مصر، من بينها الرحلات السياحية النيلية، وشملت تلك القائمة مواطنين من اليونان وفرنسا وكندا وأمريكيين من ولايات مختلفة، من بينها إيوا وفلوريدا وكاليفورنيا. وفي ولاية فرجينيا، هناك أربع حالات إصابة بفيروس كورونا على الأقل ذات صلة بالبواخر النيلية. ولم يُعلَن ما إذا كان هؤلاء المصابون على متن الباخرة Asara أم غيرها.
وكانت هناك طائرة عسكرية مصرية بانتظار السائحين الذين ظهرت نتائج فحوصاتهم إيجابية؛ من أجل نقلهم من الأقصر إلى مستشفى الحجر الصحي في الساحل الشمالي المصري بمحافظة مرسى مطروح.
فرصة للفيروس
عادة ما كانت تتوقف الباخرة Asara، التي تتراوح مدة رحلتها البحرية من ليلتين إلى سبع ليالٍ، في معابد نهر النيل بمدن إدفو وكوم أمبو وإسنا. وهناك، خالط ركاب الباخرة عدداً كبيراً من التجار والباعة في الأسواق، فضلاً عن مئات الركاب من بواخر أخرى. وعندما تصل البواخر إلى وجهتها، غالباً ما ترسو بعضها بجوار بعض، وهو ما يعني أن ركّاب الباخرة Asara كانوا يمرون عبر بواخر أخرى للوصول إلى الشاطئ، وأن ركاب البواخر الأخرى كانوا يمرّون بالباخرة Asara أيضاً. كما يتعامل طاقم العمل على متن البواخر المختلفة بشكل وثيق بعضهم مع بعض.
وقال مسؤول بـ"الصحة" في مدينة الأقصر: "إذا أصيب طاقم العمل بالعدوى، فإن ذلك يمثّل خطراً على الجميع".
وفقاً لمسؤولي "الصحة المصرية"، لم تظهر الأعراض على أي من الأفراد الـ12 المصابين من طاقم السفينة، وقال مسؤول الصحة بالأقصر، إنهم كانوا جميعاً من طاقم الضيافة المسؤول عن تنظيف المقصورات، وغسل الملابس وحمل الأمتعة، وإن بقية الطاقم فُرض عليهم الحجر الصحي على متن الباخرة.
وقال أحد أفراد الطاقم من الحجر الصحي، إن بعض أفراد الطاقم المصابين أخذوا إجازة لزيارة عائلاتهم، وأكد أنه على علم بسبعة منهم على الأقل فعلوا ذلك، وقال إن أُسرهم خضعوا للفحوصات الطبية، بسبب احتمالية إصابتهم بالفيروس، ولكنه لا يعرف النتائج. وأضاف أن عائلته على المستوى الشخصي لم تخضع للفحص. وقال المسؤول بـ"الصحة" إنه لم يخضع كذلك أي من التجار وأصحاب المحال الذين زارهم ركاب الباخرة للفحص.
وقال: "إذا ظهرت عليهم أي أعراض، فسوف يذهبون إلى المستشفى. ولكن المستشفى في أسوان لم يستقبل حالة واحدة".
وأدى تفشي فيروس كورونا على متن الباخرة Asara إلى تدمير موسم السياحة. شهدت مدينة الأقصر، الشهيرة بمعبد الكرنك ومقبرة توت عنخ آمون، تراجعاً حاداً في أعداد السياح الأجانب الوافدين إليها خلال الأيام الأخيرة.
وقال فرج يوسف (49 عاماً)، مرشد سياحي رفض مؤخراً فرصة للعمل على متن باخرة نيلية: "عديد من أصدقائي المرشدين السياحيين خائفون أيضاً. نخاف من الإصابة بفيروس كورونا".
وعلى متن الباخرة Asara، يشعر أفراد الطاقم بالقلق من المستقبل، وقال أحد أفراد طاقم المطبخ من الحجر الصحي، (30 عاماً)، ورفض الكشف عن هويته؛ خوفاً على عائلته، إن زوجته على وشك إنجاب أول مولود لهما، وقال إنهم يعتمدون بشكل أساسي على مرتبه الشهري الذي يتقاضاه على متن الباخرة Asara، والذي يبلغ 200 دولار أمريكي، وإنه يعيل أمه أيضاً.
ولكنه الآن يشعر بالقلق من إمكانية عدم العثور على أي وظيفة أبداً. بالرغم من أن نتائج فحوصاته جاءت سلبية، فإنه يخشى من الوصمة التي ستلحق دائماً بالباخرة Asara. وقال إن أقارب طاقم الباخرة تعرضوا لمضايقات بالفعل بسبب ذلك.
"إنه فيروس ضعيف جداً"
وخلال هذا الأسبوع، في محاولة لتبديد المخاوف بشأن الفيروس وحث السياح على العودة إلى المدينة، أجرى مسؤولو الصحة في الأقصر أكثر من 2400 فحص عشوائي للعاملين والنزلاء في الفنادق والبواخر النيلية. وقال مسؤول كبير بالصحة إن جميع النتائج جاءت سلبية، وقال: "إنه فيروس ضعيف جداً".
وكان ذلك مقنعاً بما يكفي لمسؤولي الصحة في مصر لإنهاء الحجر الصحي لحوالي 82 أجنبياً على الأقل على متن الباخرة Asara وعودتهم إلى بلادهم، بالرغم من عدم انتهاء نصف فترة الحضانة المحتملة للفيروس والتي قد تبدأ الأعراض في الظهور خلالها. ووفقاً للركاب، قبل يوم من إنهاء الحجر الصحي قيل لهم إنهم خضعوا لفحوصات جديدة من قبل مسؤولي الصحة في مصر، وغادروا جميعاً مصر على متن رحلات جوية تجارية.
قالت أشلي كوليت، إحدى ركاب الباخرة، وسافرت من الأقصر إلى القاهرة، ثم إلى دالاس: "إنهم حتى لم يتحققوا من درجة حرارتها في أي من مطاراتهم".
وعندما عادت أشلي إلى بلادها راسلت إدارة الصحة بولاية تكساس، لتطلب إجراء فحص آخر، على أمل أن تتأكد من أنها ليست مصابة بالفعل، ولكن الإدارة الصحية أخبرتها أنها لا يمكنها إجراء فحص جديد إذا لم تظهر عليها أعراض الإصابة بفيروس كورونا، وقالت: "يبدو أن معظم الأشخاص والمسؤولين لا يأخذون الأمر على محمل الجد".