تدريجياً يتكشف سبب الخلاف الروسي السعودي حول أسعار النفط والذي تسبب في حرب نفطية بين البلدين مرشحة للتطور.
فقد كشف تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية سبب الخلاف الروسي السعودي وتسلسل الأحداث الذي أوصل البلدين لهذه النقطة، والأهم الرجل الذي تسبب في إشعال هذه الحرب.
زواج مصلحة تحول إلى طلاق صاخب
كان ارتباط السعودية بروسيا شبيهاً بزواج المصلحة، بغض النظر عن تعهدات التفاني للحفاظ على هذه العلاقة، ولكن عندما افترقت الدولتان أوائل هذا الأسبوع بعد خلاف على إنتاج النفط، سرعان ما تحول هذا الانفصال، مثل العديد غيره، إلى خلاف حاد.
وولَّت على ما يبدو تلك الأيام التي جمعت فيها اثنين من أشد القادة طموحاً في العالم، فلاديمير بوتين وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، علاقة ودية غير متوقعة لدعم أسعار النفط ومد نفوذهما. وهي علاقة وصفها وزير الطاقة السعودي، منذ ستة أشهر فقط، بأنها مستمرة "حتى يفرقنا الموت".
وبعد انخفاض أسعار النفط وتحميل التلفزيون الحكومي الروسي السعودية مسؤولية انهيار الروبل، أتت المملكة يوم الثلاثاء 10 مارس/آذار بما بدا أنه تصعيد.
إذ قالت شركة أرامكو السعودية، شركة النفط الوطنية، إنها ستبدأ في الأول من أبريل/نيسان تزويد زبائنها بـ 12.3 مليون برميل يومياً. ويمثل ذلك زيادة بنسبة 26% في إنتاجها قبل انهيار الاتفاق مع روسيا.
وفي محاولة لضرب موسكو، قدمت المملكة تخفيضات كبيرة على طلبات شهر أبريل/نيسان لعملائها في أوروبا، وهي ضربة مباشرة لأحد الأسواق الرئيسية في روسيا.
ووسط هذه الاضطرابات، لم يكن واضحاً من منهما سيفوز بهذا النزاع على المدى الطويل، رغم أن كلتاهما تضررت حتى الآن من هذا الانخفاض في الأسعار.
الرجل الذي تسبب في اندلاع الخلاف الروسي السعودي حول أسعار النفط
لكن هذا الانفصال كان انتصاراً واضحاً لأحد حلفاء بوتين المقربين، إيغور سيتشين، رئيس أكبر شركة روسنفت، أكبر شركات النفط الروسية. وكان أيضاً بمثابة إنجاز كبير لخبراء الاقتصاد الروس ذوي الميول القومية العازمين على معاقبة الولايات المتحدة، بغض النظر عن التكلفة التي ستتحملها روسيا.
وشركة روسنفت، وهي شركة نفط عملاقة تديرها الدولة تقف، إلى جانب شركة غازبروم، في قلب مسيرة الكرملين لصناعة "أبطال قوميين" لتعزيز مصالح روسيا الجيوسياسية والاقتصادية.
وقد عارض سيتشين، الذي عمل جنباً إلى جنب مع بوتين منذ التسعينيات، حينما كانا يعملان معاً كمسؤولين من المستوى المتوسط في سانت بطرسبرغ، تخفيضات الإنتاج التي اقترحها السعوديون، لسنوات.
إذ كان الهدف من هذه التخفيضات تعزيز أسعار النفط، لكن سيتشين قال إن الجهود المبذولة للحفاظ على ارتفاع أسعار النفط عن طريق الحد من الإنتاج لم تؤدِّ إلا إلى تحفيز إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة. وقال يوم الأحد إن هذا "بلا جدوى".
ودعمه في هذه الحملة الطويلة، التي لم تؤتِ أكلها حتى الأسبوع الماضي، خبراء الاقتصاد ذوو الميول القومية في روسيا. وقد صدمتهم هذه الترتيبات مع السعوديين معتبرين إياها مساعدة للولايات المتحدة، حيث أدى الغاز الطبيعي والنفط المستخرجين من الصخر الزيتي إلى تقويض شركة غازبروم، شركة الطاقة الروسية الخاضعة لسيطرة الدولة، وكذلك شركة روسنفت، وهما الركيزتان اللتان يقوم عليهما القطاع الحكومي الروسي.
روسيا تؤمن بأن تخفيض الأسعار سيضعف النفط الصخري الأمريكي
وأدت الزيادة الكبيرة في إنتاج النفط الصخري إلى تحول الولايات المتحدة من مستورد كبير للنفط إلى أكبر منتج له في العالم ومصدِّر متزايد الأهمية، وهو ما يهدد الأسواق الروسية. لكن إنتاج النفط والغاز من الصخر الزيتي مكلِّف، وتعتقد روسيا الآن أن العديد من الشركات لا يمكنها تجاوز هذه المرحلة لأن الأسعار تنخفض عن نقطة التعادل الخاصة بهذه الشركات.
يقول ميخائيل ديلاغين، مدير معهد مشكلات العولمة والخبير الاقتصادي الحكومي السابق: "لسنا مستعدين لمنح سوقنا لأولئك الذين تتجاوز تكاليف إنتاجهم تكاليفنا. لماذا يتعين علينا التخلي عن سوقنا؟".
قرار أمريكي بتصدير النفط إلى الصين أشعل الغضب الروسي
وقال ديلاغين إن الغضب من الاتفاق الذي أبرمته روسيا مع منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) بقيادة السعودية تأجج بعد أن أعلنت الولايات المتحدة في يناير/كانون الثاني خططاً لتصدير النفط الخام إلى الصين، والتي تمثل السوق الرئيسي لعمليات استخراج النفط الضخمة عالية التكلفة المخطط لها في سيبيريا.
وقال إن روسيا قلقة أيضاً من أن المنتجين الآخرين ذوي التكلفة العالية، ومن بينهم الشركات التي تضخ النفط قبالة سواحل البرازيل، سيغزون الأسواق الأوروبية والآسيوية.
لكن ملاحظات سيتشين والقوميين لم ترُق للجميع، على الأقل من الناحية الاستراتيجية والاقتصادية.
يقول سيرغي غورييف، أستاذ الاقتصاد في معهد الدراسات السياسية في باريس وكبير الاقتصاديين السابق في البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، إن إنهاء اتفاقية الإنتاج مع أوبك "لا يصبّ في مصلحة روسيا على الإطلاق"؛ لأنه لم يؤدِّ إلا إلى بدء حرب أسعار مع السعوديين، ومن المستبعد أن يقضي على المنافسة من شركات النفط الصخري الأمريكية.
الشركات الأمريكية ستمر ببيات شتوي لكنها لن تموت
وقال عن الشركات الأمريكية، التي ستستغني عن العمال ومنصات الحفر الاحتياطية حتى تعود الأسعار إلى مستويات مربحة: "لن تنتهي، لكنها ستمر بمرحلة بيات شتوي".
وأضاف غورييف إن سيتشين، رغم ذلك، والمعارضين الآخرين في روسيا للتحالف مع السعوديين "سعداء بضرب أنفسهم، طالما أن بإمكانهم ضرب الأمريكيين أيضاً".
يُشار إلى أن سعر سهم شركة سيتشين، روسنفت، انخفض بنسبة 16% منذ يوم الجمعة الماضي، وهو اليوم نفسه الذي فشل فيه كبار منتجي النفط في التوصل إلى اتفاق في فيينا لخفض الإنتاج، حيث انتشرت المخاوف من تأثير فيروس كورونا على الاحتياجات الاقتصادية في مختلف أنحاء العالم. وفي أعقاب اجتماع فيينا، انخفض سعر النفط الخام على الفور بحوالي 30%، رغم ارتفاعه قليلاً يوم الثلاثاء.
ويؤكد احتمال مخاطرة روسيا بمعاقبتها وربما بخوض صراع ممتد مع السعودية من أجل حصة في السوق، على أن التوترات الجيوسياسية -التي يزيد من حجمها ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 والعقوبات التي فرضها الغرب على روسيا بسبب ذلك- قد أربكت حسابات روسيا الاقتصادية وأيضاً ميزان النفوذ داخل الكرملين.
وقد تسبب قرار روسيا الانسحاب من اتفاق أوبك وخفض السعر العالمي لصادراتها الرئيسية في حالة من الفزع على نطاق واسع، خاصةً أنها كثيراً ما خدعت أهداف الإنتاج التي حددتها أوبك ومجموعة أكبر من منتجي النفط تُعرف باسم "أوبك بلس".
وقال مسؤول تنفيذي بقطاع النفط في موسكو يعمل عن كثب مع حليف بوتين المقرب وطلب عدم الكشف عن اسمه ليتمكن من الحديث بحرية، إن سيتشين عارض طويلاً أي اتفاقات مع السعودية لخفض الإنتاج، وكان يعتبرها خطوة للتنازل عن حصة في السوق إلى الولايات المتحدة.
لكن حتى الأسبوع الماضي، عندما أُرسل وزير النفط الروسي ألكسندر نوفاك، إلى فيينا مع تكليف بإخبار أوبك بأن روسيا لا يمكنها قبول التخفيضات الجديدة المقترحة في الإنتاج، خسر سيتشين مراراً النقاش في الكرملين، حيث تُتخذ كل القرارات المهمة المتعلقة بسياسة الطاقة في النهاية.
ومن المعروف أن كثيرين في روسيا يخشون سيتشين لطبيعته المشاكسة، وشهرته بأنه يحصل على ما يريده. إذ حُكم على وزير الاقتصاد السابق الذي اشتبك معه بشأن السياسة الاقتصادية، أليكسي أولوكاييف، بالسجن لمدة ثماني سنوات عام 2017 بتهم فساد اعتبرها كثيرون ملفقة.
ورفض ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم بوتين، في مؤتمره الصحفي المعتاد يوم الثلاثاء التعليق على الدور الذي أداه سيتشين في الخلاف مع السعوديين.
سيتشين كان يريد هذا الانفصال منذ زمن، فلماذا رفض بوتين الاستجابة لطلبه من قبل؟
كان من الواضح منذ سنوات أن مدير شركة روسنفت يسعى لحدوث انفصال، لكنه لم يحقق تقدماً يذكر.
ويعود ذلك إلى حد كبير إلى تصادم دعواته لرفض الجهود السعودية لخفض الإنتاج مع رغبة بوتين لإقامة علاقات وثيقة مع الزعيم الفعلي للمملكة ولي العهد الأمير محمد، وبسط نفوذ موسكو على منطقة هيمنت عليها الولايات المتحدة لفترة طويلة.
وعندما نفر العديد من قادة العالم من ولي العهد بعد اغتيال الصحفي جمال خاشقجي وتقطيع جثته عام 2018 داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، دعمه بوتين. وفي قمة مجموعة العشرين في بوينس آيرس بعد شهرين من جريمة القتل، تبادل بوتين وولي العهد الضحكات والمصافحة.
وبعدها بعام، زار بوتين السعودية، وهي أول زيارة لزعيم روسي منذ أكثر من عقد، وأشاد "بتوسيع نطاق العلاقات الودية القائمة على المنفعة المتبادلة".
هذه العلاقة مع بن سلمان جعلت بوتين يستهين برد فعله
يقول فلاديسلاف إينوزيمتسيف، مدير مركز الأبحاث عن مجتمعات ما بعد الصناعة، إن علاقة الود بين الزعيمين الروسي والسعودي دفعت بوتين إلى الاستهانة باستعداد ولي العهد لتحدي روسيا.
وقال إنه في مفاوضات بوتين مع الزعماء الديمقراطيين، كان يتمتع بميزة كبيرة منحته إياها قبضته المحكمة على السياسة والاقتصاد الروسي، وهي ما كانت تمكنه من قطع وعود موثوقة بسرعة، وطرح تهديدات كذلك. لكن تلك الميزة تلاشت في تعاملات روسيا مع السعودية.
قال إينوزيمتسيف: "في الواقع، يود بوتين كثيراً أن يكون محمد بن سلمان الخاص بروسيا، لأن محمد بن سلمان يتمتع بميزة كبيرة: وهي أنه يمكنه التعامل مع بلده وكأنها ممتلكاته الشخصية. وقد تكون هذه هي النقطة التي أساء بوتين تقديرها".
إذ يبدو أن الأمير محمد غضب من الرفض الروسي لتخفيض الإنتاج، وجاء رده كاسحاً بطريقة لم يتوقعها الروس.
الإعلام الروسي يهاجم السعودية وأمريكا
وسارع المسؤولون الروس هذا الأسبوع إلى طمأنة الجمهور بأن الوضع تحت السيطرة، وأن البنك المركزي تدخل للحد من انهيار قيمة الروبل مقابل الدولار.
وحمّلت المحطات التلفزيونية الحكومية السعودية مسؤولية انهيار الروبل وعرضت، على سبيل العزاء، تعليق خبير يقول فيه إن الولايات المتحدة والسعودية هما من ستعانيان بالدرجة الأكبر في النهاية. وذكرت القناة الأولى الحكومية: "بهذه الأسعار، ستنهار شركات النفط الصخري بحلول نهاية العام".
وفي وجود مئات المليارات من الدولارات المحفوظة في صناديق الأيام الصعبة، تتمتع روسيا، من جوانب عدة، بوضع جيد على غير العادة يمكّنها من تحمُّل تأثير انخفاض أسعار النفط. ولكن ما أربكها هو سرعة السعودية وعدوانيتها في ردها على انهيار المحادثات في فيينا.
يقول غورييف، الخبير الاقتصادي، إن روسيا "أذهلها دخول السعوديين في حرب أسعار بهذه السرعة".