أصيب أكثر من ثلاثين مسؤولاً بالحكومة الإيرانية وأعضاء من البرلمان الإيراني بفيروس كورونا، وأسفر الفيروس أيضاً عن وفاة أحد كبار مستشاري المرشد الأعلى لإيران.
تقترح وزارة الصحة الإيرانية إرسال 300 ألف فرد من قوات شبه عسكرية، ليدقُّوا الأبواب، في مهمة يائسة لتطهير المنازل. وحذَّر المدعي العام من أن أي شخص يخزّن أقنعة الوجه ولوازم الصحة العامة الأخرى قد يواجه عقوبة الإعدام.
"فشل قد يستغله الأعداء"
تقول صحيفة The New York Times الأمريكية، إنه قبل أسبوعين فقط، تنبأ المسؤولون الإيرانيون بكل ثقة، بأن عدوى فيروس كورونا، الذي يجتاح الصين، لن تمثّل أي مشكلة في بلادهم، حتى إنهم تباهوا بتصدير أقنعة الوجه إلى شركائهم التجاريين في الصين.
والآن، تعاني إيران من انتشار عدوى كورونا، التي أودت بحياة 92 شخصاً وفقاً لتصريحات المسؤولين، الخميس 5 مارس/آذار، وهي من أعلى معدلات الوفاة الناتجة عن الإصابة بالفيروس خارج الصين. لكن بدلاً من أن يحصل الأطباء والممرضون على الدعم الحكومي اللازم، يقول أفراد الفرق الطبية إن قوات الأمن تحذّرهم بالتزام الصمت. ويقول بعض المسؤولين إن القيادة الإيرانية تدرك المدى الحقيقي لتفشي المرض، ولكن خبراء قالوا إنها تخشى من أن يُنظر إلى الأمر باعتباره "فشلاً قد يستغله الأعداء".
تخبُّط وفوضى
وبينما يصارع العالم من أجل وقف انتشار فيروس كورونا، يقدم الوباء في إيران درساً عمّا قد يحدث عندما تحاول دولة شديدة التحفظ ذات موارد محدودة، التقليل من شأن تفشي مرض، ثم تجد صعوبة بالغة في احتوائه.
يبدو أن السلطات الإيرانية قلقة بشأن السيطرة على تدفق المعلومات، أكثر من قلقها من تفشي الفيروس، وفقاً لمقابلات أُجريت عبر الهاتف ومراسلات نصية مع عدد من العاملين الإيرانيين في القطاع الطبي.
وقال عديد منهم إن هناك عناصر أمنية متمركزة في كل مستشفى، تمنع أفراد الطاقم الطبي من الكشف عن أي معلومات مرتبطة بفيروس كورونا مثل نقص الموارد أو أعداد المرضى أو الوفيات.
أرسلت ممرضة في مدينة بشمال غربي إيران رسالة إلى أسرتها، شاركتها لاحقاً مع صحيفة The New York Times الأمريكية، تصف فيها خطاباً من الأجهزة الأمنية، تحذر فيه من أن مشاركة أي معلومات بخصوص المصابين بفيروس كورونا تُعتبَر "تهديداً للأمن القومي" و"إشاعة الخوف العام". وقالت الممرضة إن خطاب الأجهزة الأمنية ذكر أن مرتكبي "مثل هذه التهم سرعان ما سيُحالون إلى لجنة تأديبية".
العقاب لمن يسرب المعلومات
يقول أطباء وخبراء آخرون إن هذا التكتم والارتياب يعكسان تركيز السلطات الإيرانية على مكانة إيران وصورتها العامة، إلا أن ذلك يأتي بنتائج عكسية مثل فقدان ثقة الشعب بالسلطات، وعرقلة اتخاذ أي خطوات عملية حقيقية لاحتواء المرض.
قال أخصائي بارز بعلم الأمراض في طهران، إن الأفراد العاملين بالمختبر والمختصين بفحص عينات فيروس كورونا ذكروا أنهم تعرضوا لتهديدات بالاعتقال، في حال تقديمهم أي معلومات لوسائل الإعلام.
وقال أخصائي علم الأمراض، في مقابلة هاتفية: "هذا مشين! عندما يحوّل المسؤولون هذا الأمر إلى مسألة أمن قومي، فإنهم يضعون مزيداً من الضغوط والتوتر على الأطباء والأطقم الطبية، ويخلقون بيئة من الفوضى والخوف".
واشترطت جميع المصادر عدم الكشف عن هوياتهم؛ خوفاً من التهديدات. وفي محافظة غلستان شمال إيران، حيث اعترفت طهران بإصابة ما يقارب 24 شخصاً، أعلن مسؤول كبير بوزارة الصحة، في مؤتمر صحفي، يوم الأحد 1 مارس/آذار، إحباطه من رفض طهران الاعتراف بمدى انتشار وخطورة الوباء.
وقال المسؤول، الدكتور عبدالرضا فاضل: "كنا نصرخ في وزارة الصحة بأن لدينا 594 مصاباً بفيروس كورونا، لكن الوزارة تخبرنا في المقابل بأنه طالما لا توجد نتائج اختبار إيجابية فلن يقدموا لنا المعدات التي نحتاجها. وظلوا يطالبوننا بـ(الانتظار) مراراً وتكراراً، ثم فجأة يعلنون أن غلستان بؤرة انتشار الوباء!". وأضاف فاضل: "ندرك من اليوم الأول أننا بؤرة انتشار للوباء".
إخفاء الأزمات واحدة تلو الأخرى
أصاب الفيروس، الذي ظهر لأول مرة بالصين أواخر عام 2019، إيران في أوقات تعاني فيها قيادتها ضعفاً. يترنح الاقتصاد الإيراني تحت وطأة العقوبات الأمريكية، وتعاني قوات الأمن من أجل قمع موجة من الاحتجاجات الشعبية، ولم يستفق الجيش الإيراني بعد من اغتيال القائد العسكري الإيراني قاسم سليماني في هجوم أمريكي بطائرة من دون طيار. وانخفضت مصداقية السلطات لدى الشعب على نحو غير مسبوق، بسبب التردد في الاعتراف بإسقاط أنظمة الدفاع الجوي طائرة ركاب أوكرانية مليئة بالركاب الإيرانيين، عقب أيام من الإنكار.
قالت سانام فاكيل، الباحثة في الشأن الإيراني بمعهد "تشاتام هاوس" البحثي في لندن: "هم ينتقلون من أزمة إلى أزمة أخرى، ويحاولون إخفاء كل أزمة. لقد قللوا من التداعيات المحتملة لفيروس كورونا".
تباهى مسؤولو الصحة الإيرانيون في البداية بالمهارة العالية لنظامهم الصحي. وسخِروا من إجراءات الحجر الصحي باعتبارها "آلية قديمة"، وروّجوا للنموذج الإيراني باعتباره نموذجاً يحتذى به. وقال الرئيس حسن روحاني منذ أسبوع، إنه بحلول السبت 29 فبراير/شباط، ستكون الحياة عادت إلى طبيعتها في إيران.
لكن بحلول الخميس 5 مارس/آذار، اعترفت إيران بوصول عدد الوفيات إلى 92 حالة، وارتفاع عدد الإصابات إلى 3000 حالة على الأقل. ويشير خبراء في القطاع الطبي إلى أنه بناء على معدل الوفيات المتوقع، من المفترض أن يكون عدد الإصابات أكثر من 5 آلاف حالة.
وقالت السلطات أيضاً يوم الثلاثاء، إنها أفرجت مؤقتاً عن 54 ألف سحين ممن لا تظهر عليهم أي أعراض؛ في محاولة للحد من انتشار الفيروس في زنازين إيران المتكدسة. لكن لم يذكر إعلان السلطات عدد المساجين الذين أُجريت لهم أي اختبارات أو فحوصات، بالنظر إلى النقص الحاد في معدات الفحص والاختبار بالبلاد.
العدد الفعلي للإصابات قد يكون 18 ألف حالة!
وبسبب نقص المعدات، لا يمكن أن يتوقع أحدٌ مدى انتشار الفيروس في إيران. توقعت دراسة كندية منذ أسبوع، أن العدد الفعلي الحقيقي للمصابين قد يكون أكثر من 18 ألف حالة، ويقول إسحاق بوغوش، أحد الأطباء المشاركين في الدراسة: "عندما نقول (منذ أسبوع) في علم الأوبئة، فهذا يعني دهراً".
تضم قائمة كبار المسؤولين الحاليين أو السابقين المصابين كلاً من نائبة الرئيس لشؤون المرأة، ونائب وزير الصحة، و23 عضواً برلمانياً. ويوم الإثنين 2 مارس/آذار، ذكرت وسائل الإعلام الحكومية الإيرانية وفاة مسؤول واحد على الأقل؛ من جراء الفيروس، وهو محمد مير محمدي (71 عاماً)، عضو مجمع تشخيص مصلحة النظام، المجلس الاستشاري الأعلى للقائد الأعلى للجمهورية الإسلامية.
لم يتضح بعدُ متى كان آخر تواصل للمستشار مع القائد الأعلى للثورة الإيرانية، آية الله علي خامنئي، الذي يبلغ من العمر 80 عاماً. وبسبب إحراج السلطات الإيرانية من انتشار المرض، جاءت الاستجابة على هيئة تدابير متناقضة تجمع بين القمع ومحاولات حفظ ماء الوجه.
فقد هدد المدعي العام في البلاد بإعدام أي شخص يخزّن أقنعة الوجه وغيرها من اللوازم الطبية؛ اعترافاً بالأزمة.
قوات الباسيج تتدخل
وأعلن وزير الصحة سعيد نمكي، يوم الأحد 1 مارس/آذار، خطة لتوزيع قوة من 300 ألف فرد من قوات الباسيج، يرتدون ملابس مدنية؛ للمرور على البيوت وتطهيرها وفحص المقيمين.
لكن الانتقادات انهالت من الأطباء والسياسيين الإيرانيين على خطة الوزير، وقالوا إن الأفراد العسكريين غير المتدربين قد يساعدون على الأرجح في انتشار الفيروس بدلاً من احتوائه.
وكتب دكتور أميد رضائي، أخصائي الأورام البارز في طهران، على تطبيق الرسائل تليغرام: "وزارة الصحة الإيرانية تعيد تعريف مفهوم سوء الإدارة والجهل. أشعر بالأسف لأننا جميعاً جالسون في قارب يغرق، تتولى وزارة الصحة دفَّته".
مدينة قُم ما زالت تستقبل زوارها
تظهر شوارع طهران خاوية مجهورة، إذ قرر المواطنون المذعورون البقاء في منازلهم؛ خوفاً من العدوى. لكن في مدينة قُم المقدسة لدى الشيعة، وهي موقع أول وأبرز تفشٍّ للمرض في إيران، لا تزال المساجد والأضرحة تستقبل حجاجها بأعداد كبيرة للغاية، رغم تحذيرات وزارة الصحة.
يقول أمير أفخامي، الطبيب والمؤرخ بجامعة جورج واشنطن، والذي درس استجابة إيران للأوبئة السابقة: "بصراحة، عدم رغبة إيران في منع أو تقييد الزيارات الجماعية لتلك الأضرحة يعتبر جريمة، في ظل انتشار هذا المرض".
وقال عن استجابة القيادة الإيرانية في العموم: "الحكومة تضع مكانتها الدينية وصورتها العامة قبل أمان شعبها وسلامته. وهذا أمر غير مسبوق حتى في تاريخ الجمهورية الإسلامية".
شهادات وفاة كاذبة!
محسن بصيري، الطبيب الإيراني المقيم حالياً بهيوستن، في أثناء مكالمة هاتفية، يوم الأحد 1 مارس/آذار، قال إن زملاءه في إيران أخبروه بأن عناصر الأمن الإيراني أجبرت الأطباء على كتابة شهادات وفاة كاذبة للوفيات التي تبدو ناتجة عن الإصابة بفيروس كورونا، وكتابة أن سبب الوفاة "قصور في الرئة أو القلب"؛ لتجنب الاعتراف بأعداد الوفيات الكبيرة بسبب العدوى.
أضاف دكتور بصيري: "ليست لديهم الوسائل أو المعدات أو الأموال أو الموارد اللازمة لمواجهة فيروس على هذا النطاق، فضلاً عن سوء الإدارة وعدم ثقة الشعب الإيراني بقياداته".
صرّح اثنان من أعضاء البرلمان الإيراني، على الأقل، بمزاعم مماثلة حول سعي السلطات إلى إخفاء أعداد الوفيات الحقيقة الناجمة عن الإصابة بفيروس كورونا، عن طريق كتابة أسباب أخرى بشهادات الوفاة.
قال غلام علي جعفر زاده، النائب البرلماني عن محافظة غيلان القريبة من بحر قزوين، لوسائل الإعلام الإيرانية، الإثنين 2 مارس/آذار، إن هناك أكثر من 20 شخصاً تُوفوا في نطاق دائرته الانتخابية، ووصلت المستشفيات إلى أقصى طاقاتها الاستيعابية، وأصبحت المراكز المخصصة لعلاج الفيروس لا تستقبل المرضى. وزعم أيضاً أنه في بعض الحالات سجَّلت السلطات المحلية أسباب وفاة مختلفة لضحايا الوباء الفيروسي.
وقال: "بناء على الأعداد والشهادات والدلائل التي حصلنا عليها، فإن أعداد الوفيات والمصابين أعلى بكثير مما أعلنت عنه السلطات"، واصفاً الأرقام الرسمية بـ"المزحة". وأضاف: "لم يكشف مسؤولونا عن الحقيقة الكاملة حول الموقف الحالي".
في الأسبوع الماضي، صعَّد النائب البرلماني أحمد أمير عبادي فاراهاني، عن محافظة قُم، شكاوى مماثلة، ونشر على تويتر أن أطقم العمل ببعض المستشفيات تُصدر شهادات وفاة كاذبة؛ للحد من أعداد الوفاة المرتبطة بالوباء.
وكتب فارهاني على تويتر: "الأطباء بمستشفى كامكار ومستشفى فوغاني يكتبون سبب الوفاة (قصور بالجهاز التنفسي)، ولكنهم يعلمون جيداً أن الوفيات تحدث في جناح الحجر الصحي الخاص بمصابي فيروس كورونا".
شكَّك متحدث باسم وزارة الصحة في صحة هذه الاتهامات، مشيراً إلى أن أي تناقض بين التقديرات المحلية والأرقام الرسمية لا يعكس سوى الفجوة الزمنية حتى ظهور نتائج اختبار الحالات المؤكدة. وقال المتحدث، كيانوش جاهانبور، إن الوزارة تتحقق من النتائج مرتين قبل إضافتها إلى الحصيلة الرسمية.واشتكى نواب آخرون من أن النقص الشديد في أدوات الاختبار وغيرها من المعدات قد يسهم في ظهور أعداد الإصابات أقل من الحقيقي. إذ كتب بهرام بارساي، النائب البرلماني عن محافظة شيراز، على تويتر: "لا توجد معدات للاختبار، أو مطهرات، أو أدوات وقاية في بلادنا تكفي لمواجهة الانتشار السريع لهذا المرض. لهذا السبب لا تعبر الأرقام الرسمية عن الحقيقة".
إيران تخلت عن حذرها
قال دكتور أفخامي، مؤلف كتاب عن استجابات إيران السابقة للأمراض الوبائية، إن إيران كانت تفخر بنفسها على مر العقود بقوة نظامها الصحي، ميراً إلى أنه في 2008 تصرفت إيران على نحوٍ جيد جداً، من أجل تجنب وباء الكوليرا الذي انتشر في البلدان المجاورة، وذلك عن طريق منع بيع الخضراوات الطازجة وأطعمة الشارع بأماكن معينة.
لكنه أضاف أنه في هذه المرة يبدو أن السلطات الصحية بإيران تخلّت عن حذرها. تعتمد إيران إلى حدٍ كبير على الصين باعتبارها أهم شريك تجاري لإيران في مواجهة العقوبات الأمريكية، لذا تباطأت السلطات الإيرانية في تقييد السفر من وإلى الصين بعد التقارير الأولى التي أشارت إلى تفشي المرض بمدينة ووهان وسط الصين، في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
ثم تباهت إيران بإرسال مستلزمات طبية، مثل الأقنعة الطبية المصنّعة محلياً، إلى الصين؛ وهو ما أدى إلى نفاد المستلزمات الإيرانية، في الوقت الذي كانت تحتفظ فيه الدول الأخرى بمخزونها من تلك المستلزمات في هدوء. ويقول دكتور أفخامي: "الآن، تعاني إيران من نقص أقنعة الوجه، بسبب قرارات سياسية".