استراتيجية إثيوبية جديدة بشأن مياه النيل كانت وراء تغيب أديس أبابا عن الاجتماع الأخير الذي عقد بواشنطن.
هذا ما كشفه مصدر أمريكي مسؤول شارك في المفاوضات الإثيوبية المصرية السودانية التي تدور بوساطة أمريكية .
وفسر المصدر لعربي بوست سر التغيير الدراماتيكي المفاجئ للأزمة المصرية الإثيوبية، والذي تمثل في قرار أديس أبابا عدم إيفاد وفدها الى العاصمة الأمريكية واشنطن لحضور جولة المفاوضات المتفق على عقدها في 27 و28 فبراير/شباط، للتباحث حول مياه نهر النيل وأزمة سد النهضة.
ولم تكتف إثيوبيا بعدم الحضور بل أصدرت بياناً رسمياً من وزارتي الخارجية والري الإثيوبيتين أعربت فيها عن خيبة أملها من بيان وزير الخزانة الأمريكية بخصوص مفاوضات السد، والذي صرح فيه أن بلاده ستظل منخرطة مع مصر وإثيوبيا والسودان إلى أن توقع الدول الثلاث على اتفاق ينهي سنوات من الخلافات بشأن سد النهضة.
وأضافت أديس أبابا أنها ستواصل "عمليات بناء السد"، بجانب بدء "عملية ملء البحيرة"، ولم يفت الجانب الإثيوبي الإشارة إلى أن موقفه من هذا التحرك قانوني تماماً مستنداً إلى اتفاقية إعلان المبادئ التي وقع عليها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.
عربي بوست التقى بأحد أعضاء الفريق الأمريكي الراعي للمفاوضات، والذي كشف لنا عن سر التحول الإثيوبي وغيابها عن الجولة الأخيرة وامتناعها عن التوقيع.
التفكير الإثيوبي بشأن ما تسميه بالتوزيع العادل للمياه
التغير الإثيوبي والانقلاب في مسار المفاوضات هو موقف مؤسف بالطبع، ونحن حزينون لذلك، ولكنه لا يبدو لي مفاجئاً تماماً، حسبما يقول المسؤول الأمريكي.
فقد ألمح أكثر من عضو بالفريق الإثيوبي خلال اجتماعاتنا الثنائية معهم أن السؤال ليس هو سنوات ملء الخزان او حصة المصريين الذين يقنعون انفسهم أنها مقدسة (على حد تعبير مفاوض إثيوبي) بل السؤال هو لماذا نرسل المياه خامة في حين أننا يمكننا تصديرها منتجات زراعية.
الإثيوبيون والحديث هنا للمسؤول الأمريكي بدأوا مؤخراً يلمحون إلى ما يبدو أنه تغير استراتيجي في مخططاتهم، كاشفين أن إثيوبيا بلد يسعى إلى التنمية (وهذا حقهم بالطبع) وإن أحد سبل تلك التنمية التي يطمحون لها هي التوسع في الزراعة، وهو ما بدأوا فيه بالفعل من خلال التعاقد مع شركات دولية في السعوديه والصين وإسرائيل لزراعة ملايين الأفدنه لهم.
وعليه فالنمط الزراعي الحالي والذي يعتمد على الأمطار 6 أشهر ويتوقف من شهر نوفمبر/تشرين الثاني إلى مايو/أيار بفعل الجفاف أصبح لا يناسبهم ولا يتماشى مع خططهم الطموحة.
ومن هنا أتى التفكير الإثيوبي في تغيير مسار استخدام السد.
استراتيجية إثيوبية جديدة بشأن مياه النيل تظهر.. سد النهضة للزراعة وليس الكهرباء فقط
فبدلاً من الفكرة أن هذا السد لتوليد الطاقة الكهربائية لتصديرها لإفريقيا، أصبح المسار الجديد هو لماذا لا نستخدم الطاقة في محطات رفع، تأخذ المياه من خزان السد إلى الهضبة في فترة الجفاف ونزرع ونبيع محصولاتنا.
يقول المسؤول الأمريكي إن تلك التلميحات بخصوص "توزيع عادل لمياه النهر" والتي كان المفاوض الإثيوبي يشير إليها بين الحين والآخر، يبدو أنها هي حقيقة التوجه الاستراتيجي القادم في أديس أبابا، والذي يقول نحن 100 مليون نسمة ومصر 100 مليون نسمة، فلماذا تأخذ مصر النصيب الأكبر من مياه النهر وتزرع وتحقق عائداً سنوياً بالمليارات ونحن نحرم من ذلك رغم أن النهر بالأساس يأتي من أرضنا!!
انخفاض نصيب مصر للأبد وليس لملء السد فقط.. وهذه حصتها المائية الجديدة
وعن دلالة ذلك التوجه الجديد.. يقول المسؤول الأمريكي: هذا التوجه مضر لمصر بالطبع، فالقاهرة ببساطة أتت المفاوضات وهي تتحرك حول نقطة موافقون على خسارة نسبة محدودة من حصتنا بشكل مؤقت لحين ملء البحيرة على أن تعود الأمور لنصابها بعد الملء، وطالبت أن يتم ربط مستوى مياه بحيرتي ناصر والنهضة لضمان الحقوق المائية المصرية.
لكن التوجه الإثيوبي الجديد يعني ببساطة أن حصة مصر سيعاد تشكيلها من أول وجديد وبشكل "دائم" وليس مؤقتاً لحين ملء الخزان، لو حدث ذلك سيعني ذلك خصماً كبيراً ودائماً لمصر من حصتها المائية، يقترب من 30% من حصتها المائية وهو ما لا يمكن تصور أن القاهرة سوف تقبله.
في مكالمة هاتفية مع وكيل سابق للخارجية المصرية والذي كان حتى سنوات قليلة ماضية مشتبكاً مع الملف الإثيوبي شرح الرجل الذي رفض الإفصاح عن اسمه عمق الأزمة المصرية قائلاً: لا يمكنني الجزم ما إذا كان هذا التحول الإثيوبي المزمع الإفصاح عنه في شكل مشروع متكامل قريباً كما يقولون هو نتاج اللحظة أم أنه مبيت من البداية.
لكن عن نفسي أتصور أنه تطور ناتج عن تقلبات السياسة الداخلية الإثيوبية، أديس أبابا ستشهد انتخابات قريباً والرئيس في أشد احتياج لحشد شعبي معه، والأزمة لديه أن السد يبدو أنه لأسباب تقنية ولوجستية لن يكون قادراً على إنتاج الـ5 .5 غيغا وات التي كانوا يسعون إليها، فضلاً عن أن الربط بالشبكات الإفريقية متعذر لأسباب تقنية واقتصادية.
وأردف قائلاً "المشروع سياسي إذن وبعد كل النفقات تلك أصبح شبه عبء على آبي أحمد، وتحول التفكير والحديث عن نهضة زراعية واستعادة الحقوق المسلوبة من القاهرة إلى نقاط إضافة وطوق النجاه للرجل.
وأضاف: لا يمكنني الجزم إذا ما كان ذلك مبيتاً من البداية، أم تحول فكري أتى نتاج التغيرات الأخيرة، لكن المؤكد أن هذا أولاً يحمل ضرراً بالغاً ودائماً لمصر، وهو غير مقبول".
خيارات مصر كلها مريرة
وعن الكروت التي تمتلكها مصر في مواجه ذلك الموقف.. يقول السفير المصري السابق: الموقف المصري ليس جيداً للأسف، دعنا نقرر بصراحه أننا منذ البداية أخطأنا عدة أخطاء، بداية من التوقيع على اتفاقية إعلان المبادئ والتي بموجبها منحنا إثيوبيا اعترافاً رسمياً بسد النهضة، وتنازلنا ضمنياً عن حق الفيتو بلا مقابل، أخطأنا حين أسلمنا إدارة الملف (من قبل الرئاسة شخصياً) للوساطة الدولية، التي لم تساعدنا فعلياً بقدر ما منحت إثيوبيا الوقت الكافي للعمل على إتمام بناء السد.
وأضاف: أمامنا الآن مسار من اثنين: الأول البحث عن حلول غير تقليدية قادرة على إجبار إثيوبيا على الجلوس على طاولة المفاوضات مرة أخرى. الثاني الذهاب للتحكيم الدولي.
وتابع قائلاً: إن كنت عن نفسي أميل أكثر للحل الأول (والذي يعتمد على كفاءة الأجهزة المعنية المصرية) أما المسار الثاني فأشك في جدواه لسبب بسيط وهو أن التحكيم الدولي يتطلب موافقة من الطرفين، وهو ما لا يمكن إجبار إثيوبيا عليه لأننا (للأسف) لم نضم تلك النقطة إلى اتفاق المبادئ الذي وقعه الرئيس عبدالفتاح السيسي.
وأردف "وعليه فخيارنا القانوني الوحيد هنا هو التوجه لمجلس الأمن باعتبار أننا إزاء قضية تهدد الأمن الدولي، لكن هل تضمن القاهرة أن الصين (المستثمر الرئيس في السد) لن تستخدم حق الفيتو ضدها في مجلس الأمن!!.
اتصلنا بـ "محمد السباعي" المتحدث باسم وزارة الري للوقوف منه على حال الزراعة المصرية حال إصرار إثيوبيا على إعطاء مصر 30 مليار متر مكعب فقط وبذلك نفقد تقريباً 35% من حصتنا المائية: لكنه رفض التطرق لتلك النقطة مكتفياً بأن حقوق مصر في مياه النيل ثابتة وأننا لن نفرط في نقطة واحدة، ثم أنهى المكالمة نظراً لارتباطه باجتماع هام.
الموقف يبدو مرتبكاً في القاهرة ولا أحد يود الإجابة على التساؤلات حول الخطة المصرية للتعامل مع التغير الإثيوبي الأخير، لكن الذي علمه عربي بوست من أكثر من مصدر، أن الرئاسة المصرية تكثف جهودها لحث واشنطن على الضغط على الجانب الإثيوبي، لكن حتى الآن يبدو أن الأمريكيين لا يضغطون بشكل كاف كما تريد القاهرة.
لماذا المصادر مجهولة في هذه القصة؟
توافق « عربي بوست » أحياناً على عدم التعريف بأسماء مصادر تقدم معلومات حساسة لقرائنا. وبموجب إرشادات الموقع، نستخدم المصادر المجهولة فقط للمعلومات التي نعتقد أنها تستحق النشر وذات مصداقية، وأننا غير قادرين على الحصول عليها بأية طريقة أخرى.
ندرك أن العديد من القراء يشككون في مصداقية ودوافع المصادر التي لم يتم الكشف عن أسمائها، وبعضهم يتساءلون ما إذا كانت هذه المصادر موجودة أصلاً. لكن لدينا قواعد وإجراءات لمحاولة معالجة هذه المخاوف.
فبالإضافة إلى المراسل، يجب أن يعرف محرر واحد على الأقل هوية المصدر. ويجب أخذ موافقة مسؤول القسم أو من ينوب عنه قبل استخدام المصادر المجهولة في أية قصة. وعندما تكون القصة مبنية على معلومة مركزية من مصدر مجهول، فيجب الموافقة عليها بشكل عام من قبل رئيس التحرير.
نحن نتفهم حذر القراء، ولكن لا يمكن أبداً الحصول على المعلومات حول العديد من القصص المهمة في مجالات حساسة، مثل السياسة والأمن القومي والأعمال، إذا استبعدنا المصادر غير المعرّفة. فالمصادر غالباً تخشى على وظائفها أو علاقاتها التجارية. حتى في بعض الأحيان من أجل سلامتها.
يعتقد بعض القراء أن المصادر تكون أكثر صدقاً إذا تم نشر أسمائها، ومن غير المرجح أن يكذبوا إذا تم الكشف عن هويتهم. إلا أن المراسلين في العديد من المناطق يعرفون أن العكس هو الصحيح. فالمصادر في المناصب الحساسة غالباً ما سيتحدثون ببساطة بحسب التوجهات الرسمية. وسيكونون صريحين فقط إذا كانوا يعرفون أن أسماءهم لن يتم الكشف عنها.