مر أكثر من 3 أعوام الآن على قتال الظل الذي بدأ بين تركيا وروسيا في الشمال السوري. وخلال الأسابيع الثلاثة الماضية، تحوَّل هذا القتال الوهمي إلى إطلاق نار مباشر؛ مع تصويب الأتراك نيرانهم إلى نظام الأسد، حليف موسكو، وتلويح الروس المتزايد بتصويب أبراج المدفعية نحو الجيش التركي، كما تقول صحيفة The Guardian البريطانية.
وفي حرب دار الجزء الأكبر منها بالوكالة، اعتُبِر أي صراع مباشر بين الفاعلين الرئيسيين غاية في الخطورة، وحتى يوم الخميس، 27 فبراير/شباط، احتمالاً مستبعداً. لكن عقب مقتل ما لا يقل عن 30 جندياً تركياً -على الأرجح في غارة روسية- وصل الاثنان لمواجهة لن يسع أيٌ منهما التراجع عنها.
تحديد مصير الحرب السورية
تقول الصحيفة البريطانية، ما يحدث من هنا سيكون له آثار واسعة على كلا البلدين، وربما أبعد من ذلك. الأهم من ذلك، أنَّ الخطوات التالية ستحدد المراحل المميتة من الحرب السورية وتحدد مصير ما يصل إلى 3 ملايين من السوريين الذين وقعوا بين الهجوم الذي شنته روسيا والرد التركي.
وخلق الهجوم الروسي والأسدي، أزمة إنسانية لا مثيل لها في أي مكان بالعالم. وكشف كذلك عن المدى الذي تستعد كل من تركيا -التي تدعم المعارضة السورية- وروسيا -الداعم الراسخ للرئيس السوري- للذهاب إليه في هذا القتال.
استهداف وكيل الروس الأضعف
وعقب الغارة الجوية على الجيش التركي، قصفت طائرات تركية بدون طيار مواقع سورية في جميع أنحاء إدلب ومحتها بالكامل، تماماً مثلما كانت تفعل مدفعياتها في الأسابيع التي سبقت ذلك. وكان تقدير أنقرة هو أنَّ الرد الأفضل على الغارات الجوية التي استهدفت قواتها آنذاك يكون من خلال استهداف وكيل روسيا الأضعف، جيش النظام السوري.
وفي الوقت نفسه، استطاعت موسكو شن هجمات من دون دفع ثمن مباشر. وكان رد الفعل التركي أكثر جرأة وكشف عن موقف أنقرة تجاه خصم حاولت الاتفاق معه لحلول حول مستقبل شمال سوريا. ويستلزم اتهام موسكو صراحةً رداً تركياً. ولا يمكن وضع تكهنات مسبقة حول العواقب، ولا القرارات السياسية، التي قد تنشأ نتيجة تلك الخطوة.
ما الذي يمكن أن يحدث الآن؟
تقول الغارديان، يمكن لتركيا، وهي قوة تابعة لحلف الناتو، أن تتذرع بالمادة 5 من معاهدة الحلف، لإجبار الأعضاء الآخرين على الدفاع عنها. لكن لا يمكن ضمان الرد الذي سيصدر من الحلف نفسه، الذي يمكن أن تنظر بعض دوله الأعضاء إلى التصعيد على أنه خلاف يمكن تجاوزه، وليس تهديداً سيادياً -وهو المؤشر الذي يقيس تدخل الناتو أم لا. ومن ثم، يمكن للجانبين تجاوز المسألة من دون تهديد العلاقة بينهما.
إلى جانب ذلك، لا يبدو أنَّ الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يرغب في خيار يشمل تدخل الناتو، بل هدد أوروبا بدلاً من ذلك بالسماح بتدفق اللاجئين السوريين إليها الذين أوقفهم بواسطة جدار حدودي على طول حدودها الجنوبية. ولن يكون انطلاق موجة نزوح أخرى من تركيا، تماثل الأعداد الهائلة التي تدفقت إلى وسط أوروبا في عام 2015، مستساغاً سياسياً للزعماء الأوروبيين، بالإضافة إلى أنه يعتبر ورقة ضغط قوية في يد تركيا.
لعبة مبهمة المعالم
وغمر ضباب الحرب السورية جميع أبطالها. فحتى على الرغم من انخراط روسيا وتركيا في إدلب بشكل أعمق، تظل نهاية اللعبة مبهمة المعالم. فمن جانبه، يبدو فلاديمير بوتين مصمماً على إنهاء الحرب بأي ثمن، مستخدماً قوة سلاحه الجوي، ثم تسليم الأنقاض المحترقة إلى زعيم دمية تمسك موسكو بالخيوط التي تحركه في يديها. وسيأتي بعد ذلك، مصالح الغاز والنفط، وأموال إعادة الإعمار.
وبعد أربع سنوات من بذل الدماء والأموال، ستؤمن روسيا أيضاً موطئ قدم مهماً لها في الشرق الأوسط -الذي يعد أيضاً بمثابة حصن لإيران والولايات المتحدة- مزود بطريق بحري في قلب المنطقة. يا لها من جائزة! أضف إلى ذلك، أنَّ هذه النتيجة مختلفة تمام الاختلاف عمّا خرجت به واشنطن من حربها الكارثية في العراق.
أما تركيا فمصالحها في سوريا أقل وضوحاً. إذ استبدلت أنقرة باحتضان شامل للمعارضة السورية من 2012 إلى 2016، الذي انتهى مع سقوط حلب في يد النظام، الاهتمام بمصالح وطنية محدودة. وأصبح الشغل الشاغل لتركيا هو إبقاء الميليشيات الكردية بعيداً عن المنطقة الحدودية غربي الفرات، إلى جانب الوصول الاستراتيجي إلى أقصى شمال سوريا وتأمين الطريق السريع الرئيسي في المنطقة. لكن لن يمكن الاتفاق على آلية تحقيق ذلك إلا بعد وقف إطلاق النار.
تركيا تريد تصفية حساباتها قبل الاتفاق على وقف إطلاق النار
ونظراً لأنَّ كلا الجانبين ليسا مستعدين بعد لمواجهة مباشرة، فمن المحتمل أن يتفقا على وقف إطلاق نار دائم. لكن لن يحدث هذا إلا بعد تسوية تركيا حساباتها من خلال استهداف وكلاء روسيا في سوريا. ومع تحكم روسيا في المجال الجوي لمنطقة إدلب، يُحتمَل نشر تركيا طائرات بدون طيار ومدفعيات وصولاً لدرجة قتالية مدمرة خلال الأيام المقبلة، لكن لن توجه نيرانها لقوات أو قواعد جوية روسية.
وطالما بقي الوضع على هذا الحال، ستحتفظ روسيا بالسلطة على منطقة إدلب المشتعلة، حيث تقصف خصومها لإجبارهم على الخضوع، بينما تعيد تنشيط العمليات السياسية الرامية إلى تعزيز سيطرتها النهائية. وسترغب موسكو في نهاية المطاف في الوصول لتهدئة، لكن تركيا بحاجة إلى ذلك عاجلاً وليس آجلاً. وما يبرهن على ذلك هو توجيه أنقرة غضبها ضد أوروبا والأسد بدلاً من موسكو المسؤولة فعلياً عن واحدة من أكبر الخسائر البشرية التي لحقت بتركيا في تاريخ الدولة الحديث. أما أهالي إدلب المنكوبون، فسيقفون يراقبون ما يحدث.