في أحدث اضطراباتها، أسفرت الحرب في سوريا عن أكبر محنةٍ إنسانية حتى الآن. لكن أنظار العالم مُصوّبةٌ في اتجاهٍ آخر. إذ أدت العملية العسكرية لبشار الأسد ضد إدلب إلى تهجير أكثر من 900 ألف مدني -غالبيتهم من النساء والأطفال- بحسب إحصائيات الأمم المتحدة.
ووجد أولئك النازحون داخلياً الملاذ المؤقت بالقرب من الحدود التركية داخل مخيماتٍ مؤقتة ووسط ظروفٍ شتوية قاسية. وعرض تقرير الأمم المتحدة الأخير أمثلةً مختلفة على المدنيين النازحين وهم يحرقون ما تبقى من ممتلكاتهم للتغلُّب على البرد. ومات العديد من الأطفال بالفعل.
غياب التدخل الخارجي يزيد من المعاناة
تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية، كان ينبغي بأزمةٍ إنسانية من هذا النوع أن تُحفّز المجتمع الدولي على إطلاق حملةٍ مُنسّقة من أجل إنهاء هذه المُعاناة. لكن السياسات الإقليمية والعالمية أعاقت هذه الجهود. وفي غياب أيّ تدخُّلٍ خارجي، فمن المُرجّح أن يزيد الصراع من فداحة العواقب الإنسانية.
وأحد أسباب ذلك هو أن النظام السوري، المدعوم من روسيا، يتقدّم للسيطرة على الأراضي التي تتحكم فيها قوى المعارضة. واستخدم نظام الأسد والميليشيات الشيعية المدعومة من إيران تكتيكات وحشية بهدف إخلاء منطقة إدلب من السكان، حتى تستطيع قوات النظام السيطرة على الأراضي ذات الأغلبية السنية.
وغضّ المُجتمع الدولي الطرف عن ما يحدث حتى الآن وسمح لنظام الأسد بالتقدُّم، بسبب وجود جهاديين في إدلب، ومن بينهم هيئة تحرير الشام وكتائب صقور الشام المرتبطة بالقاعدة. وصارت إدلب بالصدفة ملاذاً آمناً للعديد من تلك الجماعات، والتي أُجبِرَت على الانتقال إلى هناك بسبب فقدانها الأراضي تدريجياً في أجزاءٍ أخرى من سوريا لصالح القوات النظامية. وفي غياب سياسةٍ واضحة تتعلّق بإعادة المقاتلين الأجانب إلى أوطانهم، تتمنى غالبية الدول الغربية أن ينتهي المطاف بأولئك الجهاديين مقتولين في سوريا بدلاً من أن يعودوا إلى أوطانهم الأصلية. وهذه هي الحجة التي تتبناها دمشق وموسكو لتبرير عملية إدلب.
تركيا تواجه كل ذلك وحدها
في هذه المعادلة، تظل تركيا هي الدولة الوحيدة المعرضة لعواقب سلبية نتيجة عملية إدلب. وتركيا لها الحق في أن تخشى موجة لاجئين جديدة قد تُجبِر صُنّاع السياسة الأتراك على فتح حدود البلاد أمام مليون شخصٍ بالإكراه، في حين أنّ البلاد تستضيف بالفعل 3.6 مليون لاجئ سوري حالياً.
وهذا أيضاً سببٌ آخر لحشد أنقرة قوات ضخمة على الحدود، وتنفيذها عدة ضربات انتقامية ضد القوات السورية بعد تعرُّضها للاستهداف، وتهديدها النظام السوري بعمليات عسكرية إضافية في حال مواصلته التقدُّم. ووجّه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إنذاراً أخيراً لدمشق ينتهي في الـ29 من فبراير/شباط، من أجل إجبار القوات السورية على التنازل عن جزءٍ من الأراضي التي استحوذت عليها في إدلب. وطلب أردوغان من القوات النظامية العودة إلى شرق الطريق السريع الاستراتيجي M5، الذي يربط دمشق وحلب. وهي خطوةٌ من شأنها تخفيف الضغط عن اللاجئين.
ويعتقد مراقبون أن الوساطة الروسية ستساعد على الوصول إلى هدنةٍ مؤقتة بين أنقرة ودمشق، ما سيُعزّز موقفهما الحالي على الأرض. لكن المحادثات لم تُسفر عن اتّفاقٍ بعد، وما يزال الوضع غير مستقر وبدون ضمانة على الخروج بنتيجةٍ تفاوضية. وفضلاً عن ذلك أنه حتى في حال رضوخ النظام السوري للضغط التركي وموافقته على وقف الحملة القائمة، فبإمكانه استئنافها خلال الأسابيع أو الأشهر المقبلة.
وبعد أن أقرَّت بحجم المأساة الإنسانية؛ حاولت الأمم المتحدة زيادة حجم مهمة مساعداتها الإنساني في إدلب خلال شهر ديسمبر/كانون الأول من عام 2019. لكن فتح طرقٍ جديدة لتوصيل المساعدات تعرقل في مجلس الأمن بواسطة روسيا والصين. وكانت مخاوفهما تكمُن في أن تُؤدي زيادة المساعدات التي تُقدِّمها الأمم المتحدة إلى خدمة مصالح المعارضة المسلحة. وليس هناك سببٌ للاعتقاد بأنّ الأمم المتحدة تستطيع خلال المستقبل القريب أن تتغلّب على هذه العقبة السياسية، أو تصير طرفاً نشطاً في مواجهة الكارثة الإنسانية المُتكشِّفة على الأرض.
التقاعس الغربي عن التدخل
خلال الأيام المُبكِّرة للأزمة السورية أُلغِيَ الحديث عن التدخُّل الدولي بسبب معارضة روسيا. وأسفر التقاعس الغربي حينها عن حربٍ امتدت لعقدٍ من الزمن، ومعاناةٍ إنسانية لا حصر لها في سوريا، علاوةً على أزمة لاجئين أقلقت تركيا ونشرت الاضطرابات السياسية في كافة أنحاء أوروبا. وضاعت فرصة تغيير النظام في سوريا الآن. ولكن الغرب يستطيع التحرّك لأغراضٍ إنسانية في إدلب رغم المقاومة الروسية، ويجدر به فعل ذلك.
وإدلب هي مثالٌ نموذجي على نوعية المواقف التي تتطلّب تدخُّلاً إنسانياً دولياً. لكن منظومة الحوكمة الدولية المعطوبة، التي تضمن إخماد جهود الأمم المتحدة، تعني أنّ الخيار الوحيد أمام الدول الغربية هو أن تتزعم تشكيل "تحالفٍ من الراغبين" خارج مظلة الأمم المتحدة.
وسيكون الهدف هو تقديم مساعدات إنسانية واسعة النطاق إلى سكان إدلب النازحين. ومن شأن مهمةٍ إنسانية مشتركة بين الاتحاد الأوروبي والناتو أن تسمح لبعثة الاتحاد الأوروبي المدنية بالاعتماد على حماية الناتو. إذ إنّ العنصر العسكري المدعوم من الناتو سيكون ضرورياً لحماية المنطقة من العدوان السوري.
وفي أعقاب الفشل الاستراتيجي داخل سوريا، يجب على الغرب أن يسعى على الأقل لحماية المدنيين العالقين في إدلب -ويتخلّى عن الاهتمام السطحي بمصيرهم والاعتماد على تركيا لفتح حدودها. إذ ستتطلّب الصيغة المُقترحة للتحرُّك الأوروبي أن تُوافق الحكومة الأمريكية على أن يقود الاتحاد الأوروبي مهمةً للناتو، تكون مدنيةً في المقام الأول، في شمال غرب سوريا.
والأهم من ذلك هو أن هذا سيختبر ما إذا كانت أوروبا جاهزةً بالفعل للحديث بلغة القوة كما تزعم قيادتها الجديدة. ويجب أن يُؤدي ظهور أزمةٍ إنسانية جديدة بالقرب من حدود أوروبا، لا تُضاهى في شدتها منذ الحروب اليوغوسلافية، إلى إقناع الدول الغربية بإعادة تقييم مخاطر عدم التدخُّل.