قسّم المصريين حياً وميتاً.. نيويورك تايمز: رحل مبارك تاركاً 100 مليون مواطن يعيشون في دولته العميقة

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2020/02/26 الساعة 12:37 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/02/26 الساعة 13:27 بتوقيت غرينتش
تشييع حسني مبارك / رويترز

أدت وفاة الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك إلى انقسام واضح في الشارع المصري، انعكس على صفحات التواصل الاجتماعي، بين من يترحمون عليه ومن يدينون حكمه الذي أنهته ثورة شعبية قبل تسع سنوات، فكيف تعامل المصريون مع الأمر شعبياً ورسمياً؟

صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "المصريون يرون إخفاقات الربيع العربي في إرث مبارك"، ألقى الضوء على حالة الانقسام التي ولّدتها وفاة مبارك، وكيف استغل الرئيس المخلوع عاطفة عائلته وأنصاره في سنواته الأخيرة.

إذ ظهر الرئيس المستبد السابق، الذي حكم مصر ثلاثة عقود، في صورةٍ فوتوغرافية في منتجعٍ شاطئي على البحر المتوسط ​​مع حفيدته التي كانت تجلس مبتسمةً على ركبته، فيما كان نجلاه، اللذان كان العديد من المصريين يعتبرونهما منبوذين يظهران في نوادٍ ليلية وبعض مباريات كرة القدم.

وفي الشهر الماضي يناير/كانون الثاني، حين اقترب مبارك من مشارف الموت، نشر حفيده عمر صورةً على إنستغرام أظهرته وهو يُقبِّل جبهة جده، وكتب عليها: "كل الحب والتقدير"، مع رمز قلب. 

تناقض صارخ مع وفاة رئيس آخر

وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ نهاية مبارك المريحة تتناقض تناقضاً صارخاً مع الأيام الأخيرة التي عاشها خَليفته في رئاسة مصر محمد مرسي، فمع أنَّ مُرسي فاز بالرئاسة في انتخاباتٍ ديمقراطية في عام 2012، أطيح من منصبه بعد ذلك بحوالي عامٍ واحد، واعتُقِل وزُجَّ به في سجنٍ مشدد الحراسة، حيث حُرِم من الأدوية الأساسية والزيارات العائلية المنتظمة. وتوفي في يونيو/حزيران الماضي، بعد انهياره داخل قفصٍ في قاعة محكمة.

مبارك في قفص الاتهام

ويبدو أنَّ مصيري الرجلين يؤكِّدان المهمة المعقدة التي تواجه المصريين وهُم يُفكّرون في إرث مبارك، الذي أحدث انقساماً بينهم بعد مماته كما قسَّمهم في حياته، ومن المقرر أن يُدفَن مبارك، الذي توفي يوم أمس الثلاثاء 25 فبراير/شباط، عن عمرٍ ناهز 91 عاماً، بمراسم تشريفية كاملة في جنازةٍ عسكرية رسمية بالقاهرة، اليوم الأربعاء 26 فبراير/شباط.

غير أنَّ آمال تحقيق الديمقراطية والإصلاح التي أثارتها إطاحة مبارك في ثورات الربيع العربي في عام 2011 انسحقت تماماً في ظل الرئيس المصري الحالي عبدالفتاح السيسي، لدرجة أنَّ بعض المصريين يجدون أنفسهم متشوقين لحُكم الرجل الذي كانوا يحتقرونه. 

إذ قال مواطنٌ مصري على موقع تويتر بعدما أكَّدت الحكومة وفاة مبارك: "لقد كان محتالاً. "لكنه كان رجلاً حقيقياً، ولم يُهِن مصر مطلقاً، على عكس الأيام السوداء التي نعيشها الآن". 

ارتباك لافت على المستوى الرسمي

هذا الاحترام القسري لمبارك قد يجعل إحياء ذكرى وفاته مسألةً حساسة للسيسي، الذي أعلن الحداد الوطني لمدة ثلاثة أيام يوم أمس. 

إذ أوضحت بعض البوادر أنَّ الحكومة المصرية تريد الاحتفاء بمبارك بصفته بطل حرب، ويرجع ذلك أساساً إلى دوره في قيادة القوات الجوية المصرية ضد إسرائيل في حرب عام 1973. ولكن يبدو أنَّها تريد أيضاً تجنُّب أي مظاهر واسعة النطاق للتعاطف الشعبي مع مبارك.

وقد اتضح هذا التناقض في الساعات التي تلت وفاة مبارك، حين بثَّ التلفزيون الحكومي المصري نعياً ممزوجاً بانتقاداتٍ لاذعة وصف السنوات العشر الأخيرة من عهد مبارك بأنَّها "عقدٌ من الفرص الضائعة"، قبل الانتقال إلى الإعلان عن برنامجٍ حواري ترفيهي. 

وفي الوقت نفسه، أصدر السيسي بياناً يُعرِب فيه عن "حزنه البالغ وأسفه العميق" لوفاة مبارك. وقال: "لقد كان أحد قادة وأبطال حرب أكتوبر حين كان قائد القوات الجوية المصرية خلال الحرب، التي أعادت كرامة وفخر الأمة العربية".

تباين ردود الفعل

هذا، وتباينت ردود الفعل بين المصريين الآخرين بدرجةٍ كبيرة، إذ أبدى البعض استياءه من السماح له بالتقاعد بسلام. وقال محمد الدهشان، وهو خبير اقتصادي، على تويتر: "كان يجب أن يكون في زنزانة أحد السجن. أو في محكمة العدل الدولية في لاهاي، لكنَّه استفاد من النظام القضائي المهترئ الذي تركه لنا".

فيما أعرب آخرون عن عدم مبالاتهم بالأمر، إذ قال تامر سليمان، الذي كان أخوه من بين حوالي 800 شخص قتلوا على أيدي قوات الأمن المصرية في الثورة على مبارك في عام 2011. "بعد تسع سنوات لم نعد نُبالي، فالثورة لم تحقق شيئاً، ومطالبها انقلبت تماماً، ونسيها 90% من المصريين، يمكنهم إقامة أي جنازةٍ يريدونها لمبارك". 

وتجدر الإشارة إلى أنَّ إحدى المحاكم حكمت على مبارك بالسجن مدى الحياة في عام 2012 لمسؤوليته عن مقتل المتظاهرين في الربيع العربي، لكنَّه بُرِّئ في الاستئناف. وكذلك سقطت قضايا الفساد التي كانت مرفوعة ضد شخصياتٍ بارزة أخرى في حكومته وحزبه، ونجليه علاء وجمال.

ويُمكن القول إنَّ تقاعد مبارك بدأ فعلياً في عام 2017، حين أفرِج عنه من مستشفى عسكري في القاهرة، وعاد إلى فيلّته في حي مصر الجديدة الراقي بالقاهرة، وبحلول ذلك الوقت، كان العديد من المتظاهرين الشباب الذين ساعدوا في خلع مبارك في عام 2011 قد تعرَّضوا للسجن على يد السيسي أو أجبِروا على ترك البلاد بسببه.

وفي الخريف الماضي، تحدّث مبارك في مقطع فيديو نُشر على موقع يوتيوب عن حرب عام 1973، وهي أول مقابلة مصورَّة له منذ إطاحته. وفي مايو/أيار الماضي، تحدث في حوارٍ مع صحفي كويتي عن سياسته الخارجية في أثناء فترة رئاسته، بما في ذلك جهوده لمنع الغزو العراقي للكويت في عام 1991.

لكنَّ ما لفت انتباه المصريين حقاً هو إحدى صور الحوار التي أظهرت مبارك وهو يرتدي حُلَّة، ويجلس في غرفة مُزيَّنة ببذخ، مُبدياً آراء مطوَّلة في عدة موضوعات كما كان يفعل على مرِّ سنوات عديدة أثناء وجوده في السلطة. وكانت الصورة، التي نُشِرَت على تويتر، تحمل توقيعه الشخصي.

وكذلك قوبل خبر وفاته بتصريحاتٍ تُعبِّر عن الحزن من جانب قائدي إسرائيل وفلسطين، اللذين كان صراعهما شاغلاً رئيسياً خلال عقود حكمه، إذ وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنَّه كان "صديقاً شخصياً"، بينما قال الرئيس الفلسطيني محمود عباس إنَّ مبارك "قضى حياته في خدمة وطنه وقضايا الخير والعدالة في العالم، وفي مقدمتها قضية شعبنا الفلسطيني".

تشابه بين مبارك والسيسي

وبالنسبة للسيسي، يُمثِّل مبارك شخصية معقدة؛ فهو رئيسٌ أطاحه المصريون في انتفاضةٍ شعبية مع أنَّه كان حاكماً مستبداً يدعمه الجيش، مثله تماماً في الوقت الحالي. 

وفي هذا الصدد، أشار أندرو ميلر، من مؤسسة Project On Middle East Democracy، إلى أنَّ حكم القبضة الحديدية الذي يمارسه السيسي حالياً قد يكون من بين إرث مبارك نفسه. 

"لقد رحل مبارك، لكنَّ 100 مليون مصري ما زالوا يعيشون في مصره، والسيسي أسوأ من مبارك على عدة أصعدة، ولكن لولا مبارك لما حكم السيسي مصر. هذا إرث مبارك". 

ولعل أبرز الأحداث التي أبرزت حُسن حظ مبارك ما حدث في ديسمبر/كانون الأول من عام 2018، حين حضر ونجلاه إحدى جلسات محاكمة مرسي للإدلاء بشهادتهم ضده. إذ وصل مبارك ونجلاه إلى الجلسة آنذاك مُرتدين حُللاً أنيقة، بينما كان مرسي -الذي فاز بالرئاسة في عام 2013 في الانتخابات الرئاسية الحرة الوحيدة التي شهدتها مصر- يرتدي زيّ السجناء.

السيسي

وبعد وفاة مرسي في العام الماضي 2019، قرأ مذيعو نشرات الأخبار التلفزيونية نعياً مكوَّناً من 42 كلمة، وزعته عليهم أجهزة المخابرات التابعة للسيسي، ولم يُذكَر في النعي أنَّ مرسي كان رئيساً سابقاً. 

أمَّا أولئك القادة العسكريون المصريون السابقون الذين حاولوا معارضة السيسي، فقد لقوا معاملة قاسية. إذ تعرَّض أحمد شفيق، رئيس الوزراء المصري الأسبق والفريق العسكري المتقاعد، وسامي عنان، قائد الجيش الأسبق، للإسكات حين حاولا الترشُّح ضد السيسي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أجريت في عام 2018.

وقال عماد شاهين، أستاذ العلوم السياسية السابق في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، الذي يعيش حالياً خارج مصر: "هذه رسالة واضحة مفادها أنَّ رجالنا لا يتعرضون للإهانة ما داموا تحت طوعنا".

وعلى الجانب الآخر، كانت وفاة مبارك حدثاً مؤثِّراً للغاية بين أنصاره. إذ ذكر عاصم أبو الخير -وهو أحد أفراد مجموعة "أبناء مبارك" التي دعمت مبارك خلال محاكماته- أنَّه انهار باكياً حين علم بالخبر. وقال: "لا أستطيع تصديق ذلك".

وباستثناء المتشددين، يتشاطر العديد من المصريين العاديين مشاعر الحنين إلى عهد مبارك، وهذا يعد إحدى ظواهر الانقسامات العميقة التي يشهدها داخل المجتمع المصري منذ انتفاضة 2011، التي أشعلت مشاداتٍ وجدالات بين أولئك الذين كانوا يرغبون في تغيير النظام وأولئك الذين يخشون ذلك، بحسب ما ذكرت منى الغباشي، الباحثة في السياسة المصرية بجامعة نيويورك.

وقالت منى متحدثةً عن المصريين: "إنهم منقسمون أساساً، مثلهم مثل الأمريكيين بعد الحرب الأهلية"، فيما ذكر جمال عيد، الناشط البارز في مجال حقوق الإنسان، أنَّه لو كان مبارك قد خضع لمساءلةٍ حقيقية عادلة على أفعاله لأصبح عبرةً قوية في العالم العربي.

وقال: "طغاة العالم فقدوا أحدهم، لكنَّ إرثه ما زال لعنة بما يتضمنه من فسادٍ راسخ وقوانين سيئة وموالين ما زال لديهم نفوذٌ حتى الآن، معروفين باسم الدولة العميقة". والأهم من ذلك، فـ "أنا حزين لأنَّه مات دون مساءلة".

تحميل المزيد