في الساعات الأولى من يوم الثالث من يناير/كانون الثاني الماضي، هاتَفَ رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي مستشاريه قائلاً: "أمر جلل حدث"، واستدعاهم للقاءٍ بمكتبه. وأضاف: "عليكم المجيء حالاً".
وكما هو الحال مع رئيسهم، كان المستشارون قد سمعوا دويّ الانفجارات التي وقعت على طريق المطار بعد الواحدة صباحاً بقليل، وظلَّت هواتفهم ترن بلا توقف. وراحت كل مكالمة تُحوِّل الفكرة المستبعدة رويداً رويداً إلى واقعٍ صادم: لقد قُتِل قاسم سليماني، القائد المُبجَّل لفيلق القدس الإيراني وأقوى رجل في العراق، إلى جانب كل مساعديه المقربين تقريباً. وطوال سنوات الفوضى الـ17 التي سادت الشرق الأوسط بعد صدام حسين، قليلةٌ هي اللحظات التي يمكن أن تنافس هذه اللحظة التي قُتِل فيها سليماني، بحسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
ساعات من الفوضى
كشفت مقابلات أُجريَت مع سبعة أشخاص على دراية مباشرة بالغارة الجوية الأمريكية، بينهم مسؤولون في إيران وبغداد، عن مشهدٍ من الفوضى والخلل الوظيفي حين تكشَّفت هُويات أولئك الذين قُتِلوا في الغارة.
قال مسؤول مطلع على المحادثات التي دارت في أروقة السلطة ذاك الصباح: "سُحِبَت 11 جثة من الحطام، إنَّنا نتحدث عن الدائرة الداخلية الكاملة لفيلق القدس، لم يكن ذلك الحاج قاسم سليماني وأبومهدي المهندس وحسب، بل كل مَن كان له أهمية بالنسبة لهما في العراق وخارجه".
كان مصدرٌ آخر، يتمثَّل في جهاز استخبارات أجنبي، أكثر حذراً، فأشار إلى أنَّ أولئك الذين قُتِلوا ربما كانوا فعالين في العلاقة مع إيران بدرجة أقل مما يعتقد العراقيون. وأضاف أحد المسؤولين: "لكنَّ الاغتيالات قد تكون لها تداعيات كبيرة على العلاقة بين فيلق القدس والمجموعات المتحالفة مع إيران في العراق في المدى القريب".
أثر رحيل سليماني
وفي أربعين الجنرال سليماني، الذي حلَّ الخميس 13 فبراير/شباط، بالكاد هدأت التداعيات في العراق، بل بات أثر الواقعة أكثر حدة هناك، وكذلك في موطن سليماني، إيران، وفي مناطق أخرى في منطقةٍ هيمن عليها هو كما لم يهيمن شخصٌ آخر.
فمن ملاجئ بيروت المحصّنة، مروراً بساحات المعارك في شمالي سوريا، وحتى شوارع العراق القابلة للاشتعال، عرقلت خسارة سليماني الكثير من الزخم الإيراني في المنطقة وعرَّضت الغموض الذي استغلّه فيلق القدس لمدّ نفوذه على مدى عقدين من الزمن لحالة ضعفٍ نادرة.
وسلَّطت عملية الاغتيال كذلك ضوءاً على العلاقة المعقدة بين القيادة الإيرانية والحكومة العراقية، التي سارع أعضاء كبار فيها منذ ذلك الحين لإحياء مشروعات سليماني الإقليمية الرئيسية، التي تصل بعيداً حتى العاصمة اللبنانية، ودمشق. وبدأت عملية تقدير الحسابات بمجرد دفن القتيل.
وإلى جانب التفكير العميق بشأن أفضل السبل لإعادة تجميع الصفوف، كانت هناك اتهامات واتهامات مضادة بشأن الكيفية التي أمكن بها قتل سليماني ومحيطه من الأساس.
فقال أحد المستشارين: "كان لدى الحكومة العراقية أربعة أساطيل من السيارات، تُستخدَم في مثل هذه الزيارات". ورفض، شأنه شأن المصادر الأخرى الذين تحدَّثنا إليهم، الكشف عن هويته. وأضاف: "لقد كلَّفتنا ثروة طائلة، وكان لها روتين جرى التدرب عليه جيداً من شأنه أن يجعلها تبدو مثل ذلك المشهد من فيلم Body of Lies لأي طائرة بدون طيار، لكن لسببٍ ما لم يحدث هذا في تلك الليلة".
كان سليماني قد وصل إلى مطار بغداد في الساعات الأولى بعد رحلة قصيرة من دمشق، التي مثَّلت محطة ترانزيت بعد قضاء أسبوع في بيروت، إلى جانب زعيم حزب الله، حسن نصر الله.
ولطالما كان لبنان، والتكتل الميليشياوي الذي تحول إلى تكتل سياسي قوي ويدير البلد المُمزَّق، نقطة مركزية في مساعي سليماني، التي كانت محصلتها النهائية ستُهدِّد فكرة وجود إسرائيل ذاتها.
وكان سليماني ونصر الله أقوى شخصيتين داخل شبكة المتحالفين مع إيران، التي يتربَّع حزب الله على قمتها. وكان الرجلان صديقين على معظم المستويات، ولا ينافسهما أحدٌ، وكان نصر الله هو الرجل الذي لجأت إليه إيران بعد مقتل سليماني.
محاولات ملء الفراغ
أُرسِل كبير مساعدي عبدالمهدي، محمد الهاشمي، إلى بيروت، لمحاولة إقناع حزب الله بالتدخل لملء الفراغ. وقام أعضاء ميليشيات شيعية عراقية بنفس الرحلة، واتفقوا بعد مرور أسبوع على منتصف يناير/كانون الثاني، على وقف الاقتتال الذي أدَّى إلى تشتيت المجموعات في العراق، والأهم من ذلك، إلى إضعاف الحشد الشعبي، وهو الجسد القوي المُؤلَّف من الميليشيات، والذي نشأ بعد ثوران تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في العراق، وتحول منذ ذلك الحين إلى هيئة كبيرة تدعمها الدولة العراقية.
ويقول مصدران كبيران في بيروت إنَّ نصر الله وافق على المساعدة في ملء الفجوة التي تركها مصرع سليماني والمهندس، لكن كانت هناك حدود لما يمكنه عمله، إذ عاش حياته طوال الـ14 عاماً الماضية في الظل أكثر حتى من الجنرال الإيراني. ويُستبعَد أن يؤدي وقوع غارة من طائرة دون طيار من السماء ليلاً إلى جعله يشعر بأمانٍ أكثر، ومن شأن السفر إلى العراق، أو سوريا، لحشد القوات أن يكون فكرة ميتة قبل ولادتها. وبدلاً من ذلك، سيتعين على شبكات وكلاء إيران أن تسافر إلى لبنان، وسيقوم نصر الله بمهمته من هناك.
وفي مساء الأحد 16 فبراير/شباط، أثناء خطابٍ ألقاه بمناسبة نهاية فترة الحداد الرسمية لدى الشيعة، بدا أنَّ نصر الله يتبنى نظرة إقليمية أوسع، فتحدَّث مطولاً عن هيئة الحشد الشعبي.
وقال: "المطلوب الحفاظ على قوات الحشد الشعبي؛ لأنَّ أمريكا تريد إلغاءه، لأنَّه من ضمانات وعوامل القوة في العراق". وأضاف: "أقول للشعب العراقي العزيز والوفي والمظلوم إنَّ المسؤولية الأولى للرد على اغتيال أبومهدي المهندس وقاسم سليماني تقع على عاتقه".
وقبل خطاب نصر الله، كُشِف عن نُصُب لسليماني في قرية مارون الراس اللبنانية، الواقعة على بُعد مسافة قصيرة من الحدود مع إسرائيل. وسرعان ما تعرَّض ظهور النُّصُب للإدانة من جانب القادة اللبنانيين المنافسين، الذين لطالما نظروا إلى الرجلين باعتبارهما يتحركان وفقاً لمصلحة إيران على حساب بلدهم.
النفوذ الإيراني في لبنان
فقال أشرف ريفي، وزير العدل اللبناني الأسبق: "إقامة نصب لسليماني بالجنوب لا علاقة له بمواجهة إسرائيل، بل بتأكيد وصاية إيران على لبنان. فيلق القدس لم يقاتل من أجل القدس، بل دمَّر سوريا والعراق وحوَّل لبنان إلى دولة فاشلة".
وفي غضون ذلك، يُنظَر في سوريا إلى التقدمات الأخيرة التي أحرزتها القوات التي تقاتل لصالح النظام في منطقة الشمال الغربي، باعتبارها تُمثِّل جزئياً رد فعل على عملية الاغتيال. فقال لبيب النحاس، وهو مسؤول بالمعارضة المناهضة للأسد، إنَّ إيران حثَّت وكلاءها على التحرك في الأسابيع الأخيرة، وهو عامل يبرهن أنَّه حاسم فوق ميدان القتال.
وقال: "إيران بعد موت سليماني أكثر هوساً بتأكيد هيمنتها الإقليمية بشكل عام، وخصوصاً في سوريا، وقررت الاعتماد فقط على نفسها ونفوذها المباشر بدلاً من أي شراكات هشّة. إذ يأخذ حزب الله اللبناني، وميليشيا النجباء العراقية، إلى جانب المجموعات الصغيرة الأخرى من المقاتلين الشيعة الأجانب والسوريين زمام المبادرة في الهجوم على جبهات حلب".
وهدَّأ الدور الإيراني المباشر في شمالي سوريا جزئياً المخاوف في إيران من أنَّ قيادة وسيطرة فيلق القدس تحطَّمتا على نحوٍ يتعذَّر إصلاحه، وأنَّ قائمة أسرار وعلاقات قد دُفِنَت مع سليماني في القبر.
وفي الأسبوع التالي لدفنه، اتصلت واحدة من أفراد عائلة سليماني بمكتب المرشد الإيراني، حاملةً بعض الأنباء. فقال أحد المسؤولين: "أرادت أن تُسلِّم عدداً كبيراً من الصناديق والحقائب مع ملاحظاته ومذكراته الشخصية. فكان قد دوَّن كل شيء، وترك في بعض الأحيان شرائط صوتية مسجلة. في نهاية المطاف، كان كل شيء موجوداً، لكن الأمر سيستغرق فقط وقتاً طويلاً لتجميع (القطع) معاً".