يبدو أن أزمة سد النهضة ربما تجد مخرجاً بعد أن صاغت الولايات المتحدة مسوّدة اتفاق سلمتها لمصر وإثيوبيا والسودان بشأن بناء وملء السد، وأمهلت الأطراف ثلاثة أيام لمراجعة الشروط، بحسب تقرير لموقع "مدى مصر"، فما أبرز بنود ذلك المقترح؟ وهل ترضخ مصر لضغوط واشنطن؟
ماذا تقترح واشنطن لتقريب وجهات النظر؟
الاقتراح الأمريكي، بحسب تقرير مدى مصر الذي استشهد بمصدر في منظمة دولية تنموية قريبة من المحادثات، ومصدر آخر يعمل مستشاراً لمصر في ملف سد النهضة، يهدف إلى تجاوز الخلافات بشأن حصة المياه السنوية من نهر النيل التي تصل إلى دولتي المصبّ مصر والسودان.
ينص الاقتراح في هذه النقطة على أن تقبل مصر بحصة سنوية من المياه هي 37 مليار متر مكعب، بينما موقف إثيوبيا الأخير -حتى الجولة الحالية من المفاوضات- هو أن تكون حصة مصر السنوية 31 مليار متر مكعب فقط، وتحدث مسؤول مصري لـ"مدى مصر" دون الإفصاح عن هويته قائلاً إن القاهرة متمسكة بحصة سنوية من المياه هي 40 مليار متر مكعب.
لكن لابد هنا من توضيح رقم 40 مليار متر مكعب، في ضوء أن حصة مصر السنوية هي 55.5 مليار متر مكعب، بحسب اتفاقية عام 1959 بين مصر والسودان، والمقصود هنا أن 40 مليار متر مكعب تأتي من النيل الأزرق فقط وليست حصة مصر السنوية الكاملة.
ويسهم النيل الأزرق بنسبة 57% من إجمالي جريان مياه نهر النيل الرئيسي، بينما يسهم نهرا النيل الأبيض وعطبرة بنسبة 30% و13% على التوالي. ويبلغ إجمالي التدفق السنوي إلى السودان ومصر، وفقاً للبيانات المتاحة، 85 مليار متر مكعب، توزيعها: 26 مليار متر مكعب من النيل الأبيض، و11.1 مليار متر مكعب من نهر عطبرة، و48.3 مليار متر مكعب من النيل الأزرق.
الوفد المصري في المفاوضات الحالية التي تحتضنها وترعاها واشنطن متمسك بألا تقل حصة مصر السنوية عن 40 مليار متر مكعب أثناء سنوات بناء وملء خزان سد النهضة الإثيوبي فقط، لكن أديس أبابا تريد أن تكون الحصة السنوية من المياه التي يتم الاتفاق عليها الآن هي الحصة السنوية الدائمة من المياه وهذه نقطة خلاف أساسية أخرى.
ما أوراق واشنطن في الضغط على مصر وإثيوبيا؟
من المهم هنا أن نذكر دافع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في توصّل الأطراف لاتفاق نهائي وهو إقامة حفل ضخم في البيت الأبيض يستضيفه ترامب بحضور السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد ورئيس وزراء السودان أو رئيس مجلس السيادة، في عام الانتخابات الرئاسية الأمريكية حتى يؤكد ترامب على دوره كصانع للصفقات.
وفي هذا السياق تستخدم إدارة ترامب أوراقاً عدة للضغط على مصر منها صفقة شراء القاهرة أسلحة روسية، وأيضاً ملف حقوق الإنسان السيئ والذي يتغاضى عنه ترامب في العادة، لكنه الآن يستخدمه للضغط على السيسي للقبول بالمقترح الأمريكي وهو 37 مليار متر مكعب سنوياً.
وفي المقابل تسعى واشنطن أيضاً لإقناع آبي أحمد بالقبول بنفس المقترح، وذلك عن طريق مساعدته في الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي، وأيضاً تقديم الدعم السياسي له لتقوية موقفه في الانتخابات التي سيخوضها الصيف المقبل، وتأتي زيارة وزير الخارجية مايك بومبيو لأديس أبابا في هذا السياق، حتى يتمكن آبي أحمد من حشد التأييد الشعبي "لمنح مصر 37 مليار متر مكعب" من المياه سنوياً بعد أن كان قد وعد بألا يوافق على أكثر من 31 ملياراً.
كيف أصبح موقف مصر بهذا الضعف؟
الموقف المصري في المفاوضات يتسم بالضعف الشديد، وهو ما ينذر بأن يوافق الرئيس المصري على المقترح الأمريكي، في تكرار للخطيئة الكبرى التي ارتكبها بالتوقيع على اتفاقية إعلان المبادئ في مارس/آذار 2015 وهي السبب الرئيسي في إضعاف الموقف المصري من الأساس.
هذا المعنى ردّده مصدر أمني مصري تحدث إلى "مدى مصر" في يناير/كانون الثاني الماضي، مشيراً إلى المخاوف بشأن سابقة التوقيع على الاتفاق، والتي قد تتسبب في إدارة دولية للمياه، قائلاً إن الرأي السائد داخل الأجهزة الأمنية المصرية هو ضرورة عدم توقيع مصر على أي اتفاقية لا تحمي كامل حقوقها في المياه.
ويقول المصدر الأمني لـ"مدى مصر" أنه "كان يجب أن نتعلم من الخطأ الكبير المتمثل في التوقيع على إعلان المبادئ في عام 2015 في الخرطوم"، في إشارة إلى وجود انقسام في الرأي بين السيسي والمستشارين المصريين في ذلك الوقت بشأن ما إذا كان يجب التوقيع على إعلان العمل على التوصل إلى اتفاق بشأن إدارة موارد نهر النيل بطريقة تسمح لإثيوبيا باستخدام ما يكفي من المياه لإكمال المرحلة الأولى من بناء السد دون الإضرار بمصالح الخرطوم والقاهرة.
سابقة خطيرة تفتح أبواب العطش على مصراعيها
في حال وافقت مصر على الاقتراح الأمريكي ووقعت على الاتفاقية فإن ذلك يعني أن تفقد 18.5 مليار متر مكعب من حصتها السنوية من المياه، علماً بأن الحصة الحالية 55.5 مليار لا تكفيها مع تخطي عدد السكان حاجز 100 مليون نسمة ومعاناة مصر من الفقر المائي منذ سنوات، لكن لن تكون تلك هي الكارثة الوحيدة التي ستنتج عن هكذا توقيع.
توقيع مصر على الاتفاقية يعني تغيراً في الموقف التاريخي لمصر، والذي أصرّ على التمسك طوال العقود الماضية بحق الفيتو الذي منحته لها اتفاقية تقاسم مياه النيل 1929، بما يفتح الباب عملياً أمام دول أخرى في حوض النيل للشروع في إقامة مشروعات مائية ثقيلة، حسب ما قاله مصدر المنظمة التنموية الدولية لـ"مدى مصر".
والحقيقة أن هذا التخوف ليس قلقاً مستقبلياً بل أصبح بالفعل واقعاً حالياً، بعد أن أعلنت أوغندا قبل أيام عن دراسة عرض من شركة صينية لبناء سد هيدروليكي لتوليد الكهرباء، وهو سد عملاق بتكلفة 1.4 مليار دولار، أي أن دول حوض النيل قد بدأت بالفعل بالسير على خطى إثيوبيا، دون اعتبار لدولتي المصبّ مصر والسودان.
هل هناك بديل آخر؟
يعتبر نهر النيل شريان الحياة الرئيسي لمصر، وهذه الحقيقة يدركها الجميع، وعبّر عنها الرئيس عبدالفتاح السيسي نفسه من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول الماضي عندما قال إن نهر النيل مسألة حياة بالنسبة لمصر، بينما سد النهضة قضية تنمية لإثيوبيا، وهذا هو المبدأ الذي يجب أن تتفاوض مصر على أساسه.
صحيح أن موقف مصر في المفاوضات مع إثيوبيا أصبح ضعيفاً بسبب التوقيع على إعلان المبادئ، لكن التوقيع على مقترح الاتفاق الأمريكي والقبول بأن تكون حصة مصر السنوية من المياه أقل بكثير مما كانت عليه قبل نحو 70 عاماً، إضافة لفتح الباب أمام باقي دول حوض النيل لبناء السدود الثقيلة والسير على خطى إثيوبيا سيكون بمثابة التوقيع طواعية على صكّ التنازل عن شريان الحياة لمصر طواعية.
ومن المؤكد أن الأجهزة الأمنية والسيادية التي اعترضت على توقيع السيسي على إعلان المبادئ في الخرطوم والمعترضة الآن على توقيع اتفاق مع إثيوبيا يقنن تنازل مصر عن حقوقها التاريخية في نهر النيل ليس نابعاً من فراغ، وعلى الرئيس ألا يرضخ لضغوط ترامب، فالانسحاب من المفاوضات ربما يكون أفضل الخيارات المتاحة، حتى وإن أصبحت المواجهة العسكرية الخيار البديل في مواجهة الموقف الإثيوبي.