للشهر الثالث على التوالي تواصل ميليشيات النظام السوري المدعومة بغطاء جوي روسي هجومها على آخر معاقل المعارضة في إدلب، واضعة أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون من المدنيين السوريين في مرمى أخطار متعددة؛ الموت قصفاً أو حرقاً ببراميل المتفجرات، أو الهرب نحو الجبال والموت بسبب الطقس البارد.
صحيفة ذا تايمز البريطانية نشرت تقريراً بعنوان: "الموت واليأس يواجه السوريين المحاصرين بين جيش النظام السوري وقوات المعارضة والطقس"، ألقى الضوء على أحدث حلقات مأساة السوريين المستمرة منذ تسع سنوات.
ما يحدث في إدلب لم يكن مفاجأة
لا يستطيع أحدٌ القول إنه لم يتوقَّع حدوث هذا، فقد كان جلياً منذ سقوط حلب في يد النظام السوري منذ ثلاث سنوات أن الرئيس السوري بشار الأسد سيحاول استعادة بقية شمال غربي سوريا.
كانت منظمات الإغاثة تحذِّر سكان المنطقة، البالغ عددهم ثلاثة ملايين ونصف المليون شخص، محاصرين بين جيشٍ ينوي الانتقام وقوات جهادية مصممة على الدفاع عن المنطقة والصمود للنهاية، بأن هذه المعضلة ستعصرهم.
وحالياً، يعيش هؤلاء الناس متشبثين بجوانب التلال المغطاة بالثلج في منطقة قاحلة، لأن الأشجار التي ربما كانت ستوفر لهم حماية من البرد والرياح استخدموها كوقود. ويعيش آخرون في مخيمات محاطة بالوحل على كميات ضئيلة من الطعام لهم ولأطفالهم، دون توافر الدواء اللازم لتضميد جراحهم.
توفي المزيد من الأشخاص جراء القصف الروسي، الجمعة 14 فبراير/شباط. وحتى هؤلاء، الذين يعتقدون أنهم بمأمن عن القصف، معرضون لمخاطر ظروف المعيشة مثل ستيف حمادة وعائلته.
احتمت هذه العائلة في خيمتها من درجة الحرارة التي وصلت إلى مستوى تحت الصفر في شمالي سوريا، جالبةً مزيداً من البؤس إلى سكانها النازحين.
جلب حمادة (53 عاماً) الموقد من الخارج ليضعه داخل الخيمة، وهو خطأ مميت نظراً لنقص مصادر التهوية في الخيمة. وقال أخوه نزار: "تمكَّنا من الحصول على خيمتين، لكن لا توجد بهما أي فتحات للمداخن"، وتابع: "في الصباح وجدناهم جميعاً متوفين. اعتاد ستيف أن يستيقظ مبكراً، وكان يستيقظ دوماً مع بزوغ الفجر. شعر ابنه رواد بالقلق عندما لم ير والده في الخارج مع مطلع الصباح، ذهب إلى الخيمة ووجدهم جميعاً متوفين".
تُظهر صورةٌ انتشرت على نطاقٍ واسع للسوريين المتوفين مشهداً هادئاً، إذ يظهر حمادة مستلقياً ووجهه لأعلى وعيناه مغلقتان، قد يظن البعض أنه نائم، لكن وجنتيه شاحبتان في ضوء الصباح. تجمَّعت ابنته هدى، 12 عاماً، وحفيدته وهاد، 4 أعوام، تحت بطانيته، ولا تظهر زوجته أمون، 40 عاماً، في الصورة.
عدد قياسي من النازحين
كان عدد النازحين في سوريا خلال الشهر الماضي، يناير/كانون الثاني، أعلى من أي مستوى بلغه في أي مرحلة خلال أعوام الحرب التسعة السابقة، ما تسبب في فظائع لا يمكن تجاوزها. أصدرت الدول الغربية التماساً بالاتفاق مع منظمات الإغاثة تطالب فيه بوقف إطلاق النار، والتفاوض من أجل الوصول إلى اتفاق سلام ونقل السلطة في دمشق. لكن هذه القوى لم تعد ممثلة في المنصات الرئيسية التي يجري التفاوض خلالها بشأن الصراع الدائر. فمنذ عام 2016، أصبحت كل من روسيا، وتركيا، وإيران ممثلة للقوى الخارجية المشتركة في هذه المفاوضات.
وضع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يخشى في الوقت نفسه من تدفق موجة أخرى من اللاجئين إلى بلاده، ثقته في قدرات الرئيس الروسي فلاديمير بتوين على صنع السلام. أُعلِنت اتفاقات لوقف إطلاق النار، الواحد تلو الآخر، لكنّ أياً منها لم يُجبر الأسد على التخلي عن طموحه لوضع بقية المناطق السورية، الخاضعة لسيطرة قوات المعارضة، في قبضته.
وفّر بوتين الدعم لبشار الأسد؛ إذ مهّدت الطائرات الحربية الروسية، التي تحلق من قاعدة حميميم الروسية الواقعة جنوبي المنطقة التي تسيطر عليها قوات المعارضة، الطريقَ لاستهداف المستشفيات والملاذات الأخرى التي يقصدها السوريون، غير أن أعلى معدلات الخسائر في الأرواح كانت بسبب براميل المتفجرات التي يلقيها النظام السوري.
قامر الرئيس أردوغان مجدداً خلال الأسبوع الحالي، إذ هدد بانضمام الجيش التركي للقتال إذا واصل الجيش السوري تقدمه. وقد زوَّد، على ما يبدو، قوات المعارضة بصواريخ أرض- جو متقدمة للمرة الأولى.
وأسقطت هذه الصواريخ طائرة مروحية تابعة للنظام السوري يوم الثلاثاء الماضي، 11 فبراير/شباط، متسببة في مقتل طيَّارين. ووردت تقارير عن سقوط طائرة مروحية أخرى يوم الجمعة، لكن إذا كان أردوغان يريد قلب موازين الحرب فقد تأخَّر كثيراً على فعل هذا، وهو غالباً يطيل أمد النزاع المؤلم فقط في هذه المرحلة.
ميليشيات الأسد تواصل التقدم
تحدَّت قوات الأسد، بدعم من الميليشيات المدربة على يد إيران، تهديد أردوغان، إذ واصلت التقدم الجمعة لمسافة 10 أميال عند معبر باب الهوى الحدودي الرئيسي بين سوريا وتركيا، واستعادت القاعدة 46، وهي معسكر استراتيجي في المنطقة الريفية غربي حلب، التي خسرها النظام السوري لصالح قوات المعارضة في 2012، وستكون الأتارب على الأرجح هي المدينة التالية التي ستسقط على يد النظام السوري، وهي إحدى المدن الثلاث الواقعة جنوب غربي حلب، والتي كانت مراكز لمقاومة المجتمع المدني غير الجهادي. واستعاد النظام السوري المدينتين الأخريين، وهما سراقب ومعرة النعمان، خلال الأسابيع الثلاثة الماضية.
وكانت نتيجة هذا هي حدوث حالة من الهرج والمرج في الطرقات، مع تدفق السيارات والشاحنات المليئة بالمدنيين الفارّين عبر الطرق المزدحمة صوب المخيمات غربي البلاد، وسط تعرضهم للقصف من وقت لآخر، على يد النظام الذي يواصل خطته لإرهاب المناطق الداعمة لقوات المعارضة وإجبارها على الاستسلام.
قال وليد عبين، الذي فرَّ من مدينة الأتارب خلال هذا الأسبوع: "لقد بدا الأمر وكأنه يوم القيامة. كان الأطفال في الشاحنات يرتعدون من البرد، وشعر الجميع بالرعب عندما كان المراقبون يعلنون عن اقتراب الطائرات الحربية منهم"، وتابع: "طاردنا الرعب بينما كنا نفر، كان الموقف فوضوياً، لم تتمكن حتى فرق الدفاع المدني من التحرك في المدينة؛ إذ كانت الطرق مختنقة من الزحام".
بدأت حملات النزوح الجماعي في الليلة السابقة عندما بدأت براميل المتفجرات تنهمر من مروحيات الأسد. وقال عبين إن رجلاً وابنه قد قُتلا بينما كانا يحاولان الهروب من القصف في الظلام. وتابع: "حتى إجلاء الجرحى من أماكنهم كان مهمة انتحارية". استمرت قذائف المدفعية مع بزوغ الفجر، بينما كان يقصد الطريق للفرار من المدينة.
من الصعب استيعاب كيف تسببت هذه الحرب في هذا العدد الهائل من النازحين واللاجئين: في مارس/آذار 2013، أي بعد عامين من بدء الانتفاضة السورية بلغ عدد اللاجئين السوريين مليون شخص. دفعت معركة السيطرة على مدينة إدلب وحدها هذا العدد الكبير من الأشخاص للفرار من بيوتهم في غضون أشهر قليلة. وفي ظل غلق تركيا للحدود الوحيدة التي يمكنهم الهرب عبرها، لم يعد لديهم مكان آخر يقصدونه. وإجمالاً، أُجبر 5.6 مليون سوري على الفرار من البلاد -أكثر من 800 ألف شخص منذ بداية ديسمبر/كانون الأول، و140 ألف شخص خلال ثلاثة أيام في الأسبوع الجاري، بينهم النازحون من مدينة الأتارب. ويقدر عدد الأطفال بينهم بحوالي 60%.
منظمات الإغاثة عاجزة
تعاني منظمات الإغاثة من نفاد الأموال منها، إذ لم تعد الحرب، التي باتت قضية خاسرة، تلقى صدى لدى المانحين الأفراد والحكومات. وتكافح هذه الحكومات سياسات الشعبويين في بلادهم أو ترضخ لها، ولا يتعاطف هؤلاء الشعبويون كثيراً مع مسلمي إدلب، وأحياناً مع السكان المسلمين لديهم.
وقد يضطر مستشفى باب الهوى، وهو أكبر مستشفى في المنطقة، إلى غلق أبوابه بسبب نفاد التمويل ما لم يصل النظام السوري إلى هناك أولاً.
جثث متجمدة
في الوقت نفسه، يعيش حوالي 82 ألف شخص وسط حدائق الزيتون المجاورة، في ظل موجة البرد القارس هذا الأسبوع. يعثر عمال الإغاثة بشكل منتظم على جثث متجمدة في الثلج، وقال ميستي بازول، مدير سياسات بلجنة الإنقاذ الدولية: "في كل مرة تعتقد أن هذه الكارثة لا يمكن أن تتدهور إلى وضع أسوأ من هذا يحدث العكس. يعيش عشرات الآلاف من الأشخاص في العراء أو في مبان غير مكتملة البناء. الأوضاع موحشة".
أُجبر العديد من هؤلاء الضحايا على الخروج من قراهم إلى البلدات المجاورة، ليهربوا مرة أخرى إلى الحدائق. ولا يعلم أحد أين يذهبون لاحقاً.
يفكر أحمد أبوعلي، وهو أب لأربعة أطفال بين الثانية والـ11 من العمر، في دفع أموال لتهريبه عبر الحدود، لكن العديد من اللاجئين الذين حاولوا هذا قُتلوا رمياً بالرصاص. باتت إدلب تجمع بين كونها منطقة حرب وسجن، وقال أبوعلي: "أشعر بالحزن من أجل الأطفال الذين خسروا العديد من الأشياء الجميلة في حياتهم، أهمها طفولتهم". تمزقه الحيرة بين الخوف من عبور الحدود والخوف من البقاء في مكانه، إذ تابع: "لا أدري ما الذي قد يحدث لاحقاً".