كان خطاب رئيس الحكومة اللبنانية السابق سعد الحريري في الذكرى الـ 15 لاغتيال والده محطّ أنظار اللبنانيين، كونه أول خروج إعلامي له بعد منح البرلمان الثقة لحكومة حسان دياب المحسوبة على حزب الله وحليفه رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل.
الخطاب الذي أطلق به الحريري لهجة عالية النبرة في وجه باسيل ومن ورائه عمّه رئيس الجمهورية ميشال عون، كان أقرب إلى "استتابة" من التحالفات التي جاءت بالحريري منذ سنوات إلى رئاسة الحكومة، بعد قبوله التسوية التي أفرزت تحالفات سياسية هشة بين أضداد السياسة اللبنانية.
الحريري يبدو أنه يحاول العودة لتحالفاته السابقة، خصوصاً الخارجية المتمثلة في السعودية، ما جعله يشن هجوماً على حزب الله وحلفائه من جهة ويدعو لإعادة توحيد السنة من جهة أخرى. لكن يبدو أن رغبات الحريري هي مجرد أمانٍ لا تناسب الواقع.
الانضمام لجنبلاط وبري في مواجهة باسيل
تعيش معظم القوى السياسية اللبنانية سواء تلك الحليفة لحزب الله أو على خصومة معه، هاجس تمدّد نفوذ جبران باسيل ومحاولاته المتكررة للصعود نحو سدة الرئاسة خلفاً لعمّه ميشال عون.
الكل يعايش ممارسات الرجل واستفزازاته، تارة لجمهور نبيه بري وتارة استفزازاً لموقع وليد جنبلاط في جبل لبنان، والتي كانت تؤدي أحياناً إلى تطورات أمنية كالتي حدثت في قبرشمون على خلفية زيارات باسيل لمناطق نفوذ جنبلاط.
مصدر مقرّب من الحزب التقدمي الاشتراكي برئاسة حنبلاط، ذكر لـ "عربي بوست" أنه بعد تشكيل حكومة حسان دياب، واضح أن هناك اتفاقاً ضمنياً بين سعد الحريري ووليد جنبلاط ونبيه بري للانقضاض على جبران باسيل ومنعه من الوصول لسدة الرئاسة في حال قرر حزب الله ترشيح الرجل.
ويبدو – بحسب المصدر ذاته – أن هذا الاتفاق سيشمل في المرحلة القادمة خصوم باسيل المسيحيين، سمير جعجع وسليمان فرنجية، واللذين يشعران بأن باسيل بات الأكثر خطراً على الحضور المسيحي بتسليمه البلاد بهذه الطريقة المغطاة من حزب الله.
ويبدو أن الحريري بهذه الخطوة يحاول التمهيد لعودته إلى التحالفات القديمة داخلياً وخارجياً، خصوصاً الحلفاء الخليجيين وعلى رأسهم السعودية.
عودة لأحضان السعودية
كان واضحاً أيضاً في خطاب الحريري إصراره على التأكيد بأن تياره السياسي المرتبط بتحالفات سابقة مع السعودية ودول الخليج سيعود حاملاً مفتاح الحصرية لتمثيل تلك الدول والتحدث باسمها إن اقتضى الأمر. هذا ما بدا في خطابه حينما استهزأ الرجل بفرضية تخلي السعودية والولايات المتحدة عنه.
لكن ما هو أكيد أن سفيرة الولايات المتحدة التقت الوزير جبران باسيل لمدة 3 ساعات في محاولة من باسيل لتحسين علاقاته مع واشنطن، ومحاولة للقول إنه حاضر وبقوة ليكون مفتاح واشنطن في بيروت بكونه الأكبر مسيحياً.
هذا اللقاء كان قبل بضع ساعات من خطاب الحريري في احتفالية ذكرى اغتيال والده، وقد يكون باسيل أرادها رسالة بأنه عاد لمفاوضة الجميع وأنه حاضر في اللعبة وعلى الطاولة.
ويبدو أن أكثر ما يحاول باسيل الاستفادة منه هي تلك الحروب التي يتعرض لها من خصوم السياسة، فتسهم في تكبيره، وزيادة قدرته وتأثيره، لأن خصومه يستسهلون الهجوم عليه ويستجيبون لاستفزازيته، بدلاً من الذهاب بالمواجهة المباشرة مع رعاته الحقيقيين أي حزب الله ونظام بشار الأسد.
يحاول الحريري أيضاً استجلاب تعاطف عربي معه بهجومه على حزب الله وإيران المنغمسة – بحسب الرجل – في حروب المنطقة.
هذا كان واضحاً حينما قال الحريري في خطابه إن السياحة في لبنان غير ممكنة بلا العرب والخليجيين، كما أن الأسواق العربية والخليجية ضرورية لتصريف الإنتاج اللبناني.
وأضاف: "أموال إيران الكاش تحل أزمة حزب، لكنها لا تحل أزمة بلد. الدولة لم يعد ممكناً أن تسير بالمفرّق من دون سياسات واضحة، ومن دون مصالحات جدية مع الشعب اللبناني ومع الدول العربية ومع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية".
أكد الرجل في هذا الخطاب وما وراء الخطاب أنه حاضر بالعودة لأحضان المملكة التي كانت قد ساهمت في إسقاطه سياسياً، وهي التي بادر ولي عهدها لاحتجازه خريف 2017، لكن يبدو أن سياسة الحريري الجديدة تعتمد على استعادة ثقة بن سلمان وبن زايد.
ذكر الرجل أيضاً أسماء الدول الخليجية التي وقفت إلى جانب لبنان في المحن العصيبة، لكن الحريري تناسى ذكر اسم قطر التي كان سفيرها يشارك آل الحريري مصابهم لينشر الحريري بعد ساعات على الفعالية صورة تجمعه بالسفيرين السعودي والإماراتي، كرسالة بأنه لا زال رجلهم الأوحد في البلاد المأزومة.
خطاب مظلومية السُّنة وإعادة الروح للمستقبل
لكن يبدو أن هذه الرغبة تصطدم بصخرة كبيرة، إذ كيف يمكن الحصول على ثقة الحلفاء الخارجيين وهناك تشتت وتفرّق للبيئة السنية بل وبيت المستقبل نفسه. فقد أطل الرجل على جمهوره المشتت والمنقسم على نفسه منذ التسوية التي قام بها مع حزب الله وميشال عون.
وذكر مصدر مقرب من تيار المستقبل لـ "عربي بوست" أن الحريري عازم على تنظيف التيار ممن وصفهم في خطابه بـ "الوصوليين والمستوزرين والغادرين".
المصدر أوضح أن الحريري كان يقصد وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق، الذي أعلن منذ رفض الحريري إعادة منحه الوزارة أنه بات خارج كتلته النيابية، والذي – بحسب مصادر تيار المستقبل – يتحين الفرص للقول إن الحريري يتنازل لصالح إتمام التسويات على حساب الطائفة والجو العربي الرافض للتحالف مع حزب الله وتأمين الغطاء له.
وأوضح المصدر أنه ممن كان يقصدهم الحريري أيضاً الوزير السابق أشرف ريفي.
من أجل هذا حاول الحريري في خطابه استخدام لهجة رفض إقصاء السنة واللعب على مشاعرهم. وذكر المصدر أن الحريري سيسعى في المرحلة المقبلة إلى إعادة استجماع دور السنة تحت مظلة دار الفتوى ومفتي الجمهورية وإشراك القيادات السنية في ورقة عمل مشتركة للخروج من الأزمة الراهنة التي تعصف بهم.
التحدي يكاد يكون مستحيلاً
لكن علاقة الحريري مع باقي مكونات الطائفة السنية ليست أصلاً على ما يرام. فسنة حزب الله لن يركبوا في مركب الرجل لأنهم دخلوا اللعبة من بوابة الحزب ولن يخرجوا منها لإعطاء الحريري الفرصة لاستعادة مكانته.
أضف إلى هذا العلاقة السيئة بين الحريري ورئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتي، الذي سدد ضربات عدة في مرمى الحريري خلال فترة التسوية الرئاسية مع حزب الله وحلفائه.
لكن الحريري يسعى لاسترضاء الرجل بعد أن قدم ميقاتي تنازلات له في السياسة ولم يحصد منها شيئاً.
أما عن علاقته مع الجماعة الإسلامية، وبحسب مصادر داخل الجماعة لـ "عربي بوست"، فهي ليست جيدة. وأوضح المصدر أن الحريري منزعج من الجماعة كونها شاركت في الحراك الشعبي المناهض لحكومته دون التنسيق معه.
لكن في المقابل تشعر الجماعة بأن الحريري يريدها كأداة لمصالحه وتحالفاته دون التفكير في إعطائها مكتسبات كان الرجل يحتكرها.
وتؤكد مصادر الجماعة أنه لم توجه لها الدعوة للمشاركة في ذكرى اغتيال الحريري لأول مرة، ما يعتبر رسالة قوية لها من بيت الوسط، ربما لكونها – بحسب الحريري – جزءاً من تيار تحاربه الرياض وأبوظبي كحليفة لأنقرة والدوحة.
بهاء الحريري إلى العلن
كانت دعوات قد خرجت لإحياء ذكرى اغتيال الحريري بعيداً عن خطاب الحريري الابن لمحاولة استعادة الشعبية، وهو ما أزّم الوضع الأمني وسط بيروت بالقرب من ضريح الرجل.
وقام مناصرو الحريري بالاعتداء على الخيم في ساحة الشهداء يومي الخميس والجمعة، ما استفز جموع المشاركين في الانتفاضة، الذين يعتبرون أن تيار المستقبل جزءٌ من شعار رفعه اللبنانيون وهو "كلن يعني كلن".
وعلى وقع الدعوات والدعوات المضادة أصدر شقيق الحريري، بهاء، بياناً عالي النبرة في وجه الطبقة السياسية اللبنانية معلناً تأييده للثورة اللبنانية ضد الطبقة الحاكمة.
لكن المثير للدهشة أن اسم بهاء ارتبط بعملية احتجاز شقيقه في السعودية. يومها أرسل بهاء مستشاره الذي دار على بيوت سياسية في محاولة لإقناعها حينها بالذهاب في خيار بهاء خلفاً لسعد.
وها هو بهاء يطلّ اليوم عبر زجّ اسمه بالدعوات لإحياء الذكرى بعيداً عن منزل شقيقه المسؤول – بحسب البعض – عن إضعاف تيار المستقبل وإفلاسه مالياً وسياسياً.
مستقبل سعد الحريري على المحك بحسب أحد المقربين من بيته، الذي يعتبر في تصريحه لـ "عربي بوست" أنه خسر كثيراً طوال 15 عاماً، "لم يعد بالإمكان استخدام دماء والده بعد اليوم. كُل إرثه وإرث والده على المحك".
نسخته الجديدة ستحدد ما إذا كان سيعود قوياً بعد كل هذا التخبط أم لا، حلفاؤه خذلوه كثيراً وهو خذلهم مراراً، والدول الصديقة بين منشغل عنه وبين مَن يعتقد أن لم يعد ينفع ليكون حليفاً.