يبدو أن مواقف السلطات السودانية من قضايا كانت أساسية أصبحت قابلة للتغيير بشكل متسارع ومفاجئ، حتى لو تتطلب ذلك دفع ثمن كبير، وذلك في محاولات الخرطوم لإزالة اسم البلاد من القائمة الأمريكية الخاصة بالدول الراعية للإرهاب، وبدء الانفتاح على الخارج.
فبعد إعلان رغبة المجلس العسكري بالخرطوم التطبيع مع إسرائيل، وإعلان حكومة حمدوك موافقتها على تسليم الرئيس المخلوع عمر البشير لمحكمة الجنايات الدولية، أعلنت وزارة العدل السودانية، الخميس 13 فبراير/شباط، توقيع اتفاقية تسوية مع أسر ضحايا تفجير المدمرة الأمريكية "كول" عام 2000، لاستيفاء شروط إزالة البلاد من قوائم الدول الراعية للإرهاب. فما الذي قدمه السودان حتى الآن في سبيل ذلك، وهل يرضي ذلك واشنطن ويوقفها عند هذا الحد، أم أن الثمن ما زال أكبر من ذلك؟
1- البداية تكون بالتطبيع مع إسرائيل
رغم ما أثاره من جدل وغضب واسع في السودان باعتباره هدم ما كان محظوراً في السابق، كان اللقاء المثير بين رئيس مجلس السيادة السوداني عبدالفتاح البرهان، ورئيس الحكومة الإسرائيلية المنتهية ولايته بنيامين نتنياهو في 3 فبراير/شباط، أولى خطوات إزالة اسم السودان من قوائم الإرهاب وفتح أبواب الحوار مع واشنطن.
فبعد الانتقادات الواسعة، كرر البرهان في عدة تصريحات له تبريرات اللقاء بأنها "لتحقيق المصالح العليا للشعب السوداني"، وقال: "إنها خطوة ستحمل الخير للسودان، كل همّنا مصلحة السودان. نحن شايفين غيرنا، وحتى أصحاب القضية مستفيدين"، في إشارة إلى علاقات السلطة الفلسطينية مع إسرائيل.
وجاء لقاء البرهان ونتنياهو في وقت يتصاعد فيه الرفض العربي والإسلامي لخطة الرئيس الأمريكي للتسوية في 28 يناير/كانون الثاني الماضي، "صفقة القرن".
وتقول صحيفة هآرتس الإسرائيلية إن الوصول إلى البيت الأبيض مرهون بإقامة العلاقة مع إسرائيل، فـ "السودان، مثله مثل بقية دول المنطقة، يدرك جيداً قوة الرابطة بين نتنياهو والإدارة الأمريكية الحالية".
وتضيف الصحيفة في تقرير نشر عقب لقاء البرهان ونتنياهو، أنه "في دولة شبه منبوذة مثل السودان، هناك حاجة ماسة لمساعدة من الغرب؛ لإعادة التأهيل بعد سنوات من الحرب الأهلية. ومن ثم، يُنظَر إلى إسرائيل على أنها قناة أساسية للتواصل مع الولايات المتحدة".
بحسب محللين، فإن السودان يريد من خلال العلاقات مع إسرائيل، إزالة اسمه من قائمة الإرهاب والعقوبات الأمريكية والخروج من الأزمة الاقتصادية، والعودة للتفاعل مع المجتمع الدولي، كما أن الوضع الاقتصادي في البلاد بات يضع القرار السوداني بين "فكي كماشة الابتزاز والتنازلات المؤلمة".
2- تسليم البشير للجنايات الدولية
الثلاثاء الماضي، أعلنت الحكومة السودانية اتفاقها مع الحركات المسلحة في إقليم دارفور (غرب)، خلال مفاوضات السلام بجوبا، على تسليم كل المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، بتهم ارتكاب جرائم حرب في دارفور، وعلى رأسهم الرئيس السابق عمر البشير.
هذه الموافقة الحكومية، وفق مراقبين، يمكن أن تُقرأ في سياق التحولات التي يشهدها السودان منذ أن عزلت قيادة الجيش، في 11 أبريل/ نيسان الماضي، عمر البشير (1989: 2019) من الرئاسة، تحت ضغط احتجاجات شعبية بدأت أواخر 2018، تنديداً بتردي الأوضاع الاقتصادية، رغم إعلان المجلس العسكري في البداية أن البشير لن يحاكم إلا في السودان ولن يتم تسليمه لأي جهة خارجية، إذ قال البرهان، في 19 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إن البشير لن يُسلم إلى المحكمة الدولية، وإن القضاء السوداني لديه القدرة والاستقلالية لمحاسبة كل شخص داخل السودان.
وتخالف التحركات السياسية على مستوى مجلسي "السيادة" والوزراء الانتقاليين، خلال الأيام القليلة الماضية، مواقف ظلت راسخة لعقود في البلد الإفريقي. وهذا هو الإقرار الأول بقابلية تنفيذ الحكومة لأوامر المحكمة الدولية التي ظلت تطالب، لأكثر من 10 سنوات، بتوقيف البشير وثلاثة من أعوانه.
وأصدرت المحكمة أمرين باعتقال البشير، عامي 2009 و2010، بتهم تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية بدارفور. فيما ينفي البشير صحة الاتهامات، ويتهم المحكمة بأنها مُسيسة.
3- طلب الولاية الأممية
بالإضافة لما سبق، جاءت دعوة رئيس الوزراء السوداني حمدوك الأسبوع الماضي، الأمم المتحدة لتخصيص بعثة أممية تحت الفصل السادس "لدعم السلام في البلاد"، مفاجئة ومثيرة للجدل في السودان. ومثلما حدث في مساعي التطبيع مع إسرائيل، قسم طلب حمدوك السودانيين إلى ما بين مؤيد تحاشياً لانتكاس الفترة الانتقالية ورافض خوفاً من انتهاك السيادة الوطنية، بواسطة الولاية الأممية.
ومنذ 2005، يخضع السودان للفصل السابع وفق قرارات مجلس الأمن، الذي يجيز استخدام القوة العسكرية والعقوبات السياسية والاقتصادية ضد البلد المعنيّ أو أي أفراد يهددون الأمن والسلم، فيما يمنح الفصل السادس -الذي تطالب به الحكومة السودانية به- إمكانية تكوين بعثة أممية خاصة لدعم السلام تشمل ولايتها كامل أراضي البلاد، دون أن تشمل قوات عسكرية.
وترفض بعض الأحزاب السودانية، وبينها حزب "الأمة القومي"، طلب الحكومة بالانتقال للفصل السادس باعتباره يتيح مزيداً من التدخل الخارجي في شؤون البلاد، وتريد إلغاء أي ولاية أممية على السودان.
4- تسوية مع أسر ضحايا المدمرة "كول"
آخر الخطوات على طريق الوصول إلى نيل رضا واشنطن، هو ما أعلنه السودان، الخميس، عن توقيع اتفاقية تسوية مع أسر ضحايا حادثة تفجير المدمرة الأمريكية "كول" عام 2000، لإزالة اسم البلاد من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
وبحسب بيان لوزارة العدل السودانية، فإنه "في إطار جهود الحكومة الانتقالية لإزالة اسم البلاد من القائمة الأمريكية الخاصة بالدول الراعية للإرهاب، تم توقيع اتفاقية تسوية مع أسر وضحايا حادثة تفجير المدمرة الأمريكية كول، التي لا تزال إجراءات التقاضي فيها ضد السودان مستمرة أمام المحاكم الأمريكية".
مضيفاً أنه "تم التأكيد صراحة في الاتفاقية على عدم مسؤولية الحكومة عن هذه الحادثة أو أي حوادث أخرى"، مشيراً إلى أن "هذه التسوية دخلت حيز التنفيذ انطلاقاً من الحرص على تسوية مزاعم الإرهاب التاريخية التي خلفها النظام المباد، بغرض استيفاء شروط الإدارة الأمريكية لحذف اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب".
وفي مارس/آذار 2019 قال رئيس وفد الكونغرس الأمريكي إلى السودان، غوس بيليراكس، إن "واشنطن ستتفاوض مع الخرطوم، في المرحلة الثانية من الحوار الثنائي، بشأن دفع تعويضات في ادعاءات وأحكام ضد السودان متعلقة بهجمات إرهابية، بما في ذلك أحكام محكمة أمريكية تتعلق بتفجير السفارتين الأمريكيتين في دار السلام ونيروبي، عام 1989، والهجوم على المدمرة الأمريكية كول عام 2000".
وقتل في هجوم "كول" قبالة السواحل اليمنية، 17 بحاراً أمريكياً، وأُصيب العشرات، وتقدم المتضررون وذووهم بالدعوى في 2010. ورفعت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 6 أكتوبر/تشرين أول 2017، عقوبات اقتصادية وحظراً تجارياً كان مفروضاً على السودان، منذ 1997. لكنها لم ترفع اسم السودان من قائمة ما تعتبرها "دولاً راعية للإرهاب"، المدرج عليها منذ 1993، لاستضافته الزعيم الراحل لتنظيم القاعدة أسامة بن لادن.