بمجرد أن ترى الجمال الآسر لمدن سوريا المعروفة باسم المدن المنسية، فلن تستطيع أن تنساها. فهناك على التلال البرية الساحرة، يحتضن الشمال الغربي أغنى المناطق الزاخرة بكنائس القرن الرابع والخامس والسادس، فهي أكثر من 2000 كنيسة، منتشرة بين مئات من المستوطنات البيزنطية القديمة، كما يقول موقع BBC البريطاني.
وتمثل هذه المعالم معاً الانتقال من الوثنية الرومانية إلى حماسة المسيحية المبكرة، وتقدم دليلاً حجرياً متفرداً لتأثير الأنماط السورية على التطور التالي في العمارة الدينية الأوروبية الرومانية، والقوطية.
المدن المُنسية قبل الحرب
لكن اليوم، يحيط بها الخطر وتنسى مثلها مثل ثلاثة ملايين روح محصورة في محافظة إدلب. ازدهرت حياة السكان القدامى من إنتاج زيت الزيتون والنبيذ، وتشهد على ذلك مكابسهم الحجرية. أما المحصول المربح هذه الأيام فهو تبغ الدخان، الذي يشكل شريان الحياة بالنسبة للحرب التي اندلعت منذ 2011.
ومن المفارقات أن وزارة السياحة السورية أعادت تقديم هذه المناطق باسم المدن المنسية قبل الحرب، وصورتها مقصداً للتمشية الراقية للزائرين. وكانت فعلاً منسية لدرجة أن منظمة اليونسكو الثقافية التابعة للأمم المتحدة اعترفت بها موقعاً تراثياً عالمياً في يونيو/حزيران 2011، وسمّتها القرى القديمة شمالي سوريا.
"قلب اللوزة"
ما زال هناك ارتباك حول الاسم، لكن المدهش بلا شك هو حالتها المحفوظة. ما زالت الكنيسة التي سبقت كنيسة نوتردام الفرنسية المحبوبة تقف على قمة تلة بعيدة في محافظة إدلب التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة، وفي وجود البرجين المألوفين في الواجهة اللذين يحيطان بالمدخل الهائل.
نجت هذه الكنيسة -المصنوعة من الحجر الجيري في عام 460 ميلادياً تقريباً- من الحروب والزلازل، واستخدمها أطفال القرية لقرون ملعباً، ولم تتطلب تدعيماً لأكثر من 1500 عام.
صمم مدخل كنيسة قلب اللوزة اللامع للترحيب بالحجاج المتحمسين في طريقهم لسماع وعظ القديس سمعان العمودي، بعد السير مسافة يوم في الشمال الشرقي. وفي أسفل الوادي، سمع القرويون الذين يعيشون الآن في قلب اللوزة على الأغلب أصوات الانفجارات من باريشا يوم 27 أكتوبر/تشرين الأول 2019، عندما قُتل زعيم تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، أبوبكر البغدادي في غارة شنتها القوات الخاصة الأمريكية.
الطبيعة الجغرافية الوعرة لإدلب، المتأثرة بالظاهرة الجيومورفولوجية المعروفة بـ "القراس"، تجعل منها منطقة مثالية للعصابات، إذ تضم كهوفاً مثالية لاختباء عناصر المعارضة المسلحة.
وطالما اختبأ النساك في هذه الكهوف أيضاً. كان القديس سمعان، ابن أحد مزارعي القرية الذي كان أشهر نساك عصره، ينتقل من كهف إلى عمود للهروب من الحشود التي كانت تطارده.
وعندما مات في عام 459 بعد أن عاش 36 عاماً على قمة عموده، أمر الإمبراطور البيزنطي ببناء أربعة مبانٍ بازيليكا، وممشى معمودية لتحديد النقطة.
اكتمل مجمع كنائس القديس سمعان في عام 490 ميلادياً، وكان مثل كنيسة سانتياغو دي كومبوستيلا في زمانها، أول كنيسة متمركزة تحت قبة، ولم تتجاوزها كنيسة في العالم المسيحي أجمع حتى كنيسة كاتدرائية آيا صوفيا في عام 537. كانت النقوش البارزة والزخارف على العتبات والأقواس والقوالب والواجهات بشارة للعديد من التحسينات المعمارية التالية في القسطنطينية وأوروبا.
تعرّض المجمع الهائل لدمار كبير في مايو/أيار من عام 2016 بسبب الضربات الجوية الروسية، الداعمة للحكومة السورية ضد المعارضة المسلحة، ونسفت ما تبقى من عمود القديس سمعان إلى قطع. واليوم، أصبح المكان المرتفع على التلة موقع مراقبة تركي، نُصب بوصفه جزءاً من اتفاق لـ "وقف تصعيد" القتال.
متروكة لتواجه مصيرها
وللأسف، غاب عن أعين المراقبة تطور واحد على الأقل: ففي يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2019، أُبلغ عن اختفاء أسد ضخم من البازلت من عين دارا، من معبد غير معتاد للحيثيين الجدد، يقع شمال مجمع القديس سمعان مباشرة، إذ كان هذا الأسد يحرس الموقع منذ 3000 عام.
وهذا التمثال، الذي يُخشى الآن أن يكون قد جرى تهريبه عبر الحدود التركية، كان يمثل عشتار، "إلهة الخصوبة" لدى بلاد ما بين النهرين، المشهورة في قصة أغاثا كريستي "لعنة عشتار"، التي كانت تدور أحداثها في العراق، حيث كانت تعمل كريستي في التنقيب في شمالي سوريا مع زوجها عالم الآثار ماكس مالوان، وساعدت في إنقاذ الكنوز القديمة المهددة.
في شهر يناير/كانون الثاني من عام 2018، كان المعبد مدمراً بنسبة 60%، خلال عملية للسيطرة التركية على عفرين من المقاتلين الأكراد التابعين لحزب العمال الكردستاني.
أصبح القصف المعتاد الروسي السوري لمدارس ومستشفيات إدلب لا يُشار إليه في عناوين الأخبار هذه الأيام. وكذلك تهجير آلاف المدنيين الذين ضربهم الفقر إلى بساتين الزيتون الطينية. صار سكان إدلب منسيين، وصارت ثقافتها هي الأخرى منسيةً اسماً ووصفاً، وكلاهما متروك ليواجه مصيره.