من المدينة التي حقق فيها هتلر أكبر نجاح انتخابي عام 1930، ها هو حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف يحقق الانتصار الكبير في مدينة تورينغن، إحدى مدن ألمانيا الشرقية، مسبباً حالة من الذعر والرعب لقادة الأحزاب الديمقراطية الأخرى.. فإلى أي مدى تسبب هذا الأمر بحدوث زلزال سياسي في البلاد؟
في فبراير/شباط 1930، حينما كان أدولف هتلر في مزاج مبتهج بانتصاره الانتخابي الذي حققه مؤخراً، قال: "لقد كان أكبر نجاح لنا في تورينغن. وها نحن قد أصبحنا الحزب الأهم، ولم يعد بإمكان أيٍّ من أحزاب تورينغن التي تحاول تشكيل حكومة أن تحقق أغلبية كافية دون التعاون معنا".
قد تكون ألمانيا تعهدت بأن تلك القوى "لن تعود أبداً مرة أخرى"، لكن بعد مرور 90 عاماً، ها هو اليمين المتطرف يعود مرة أخرى –ولو لفترة وجيزة- ليقوم بدورِ صانع الملوك في ولايات ألمانيا الشرقية، يقول موقع هيئة الإذاعة البريطانية (BBC).
من حيث انطلق هتلر أول مرة
وها هو حزب "البديل" يحقق الانتصار في تورينغن بقيادة رجل يمكن وصفه -إلى حد كبير- بأنه فاشيّ، وقد سبق أن أصدرت محكمة ألمانية حكماً بذلك منذ عام، ويتسبب في زلزال سياسي دفع بآلاف الألمان إلى النزول احتجاجاً في الشوارع.
وحتى بضعة أيام قليلة مضت، لم يكن ثمة كثير من هؤلاء المحتجين قد سمع من قبل باسم توماس كِمريش. في حين كان السياسي الإقليمي، على مدى 24 ساعة أو نحو ذلك، يرتقي على نحو غير متوقع إلى منصب رئيس وزراء ولاية تورينغن، بفضل دعم السياسيين في الولاية لحزب "البديل" الذي استبعد مرشحه لكي يتمكن من تشكيل تحالف أوسع ويطيح برئيس وزراء الولاية الحالي بودو راميلو الذي ساد اعتقاد واسع النطاق، بعد انتخابات غير حاسمة العام الماضي، أنه سيستمر في منصبه بناءً على تحالف يساري جرى التفاوض بشأنه مؤخراً.
وتعد هذه المرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، التي ينتخب فيها رئيس حكومة بفضل أصوات اليمين المتطرف ما تسبب في زلزال سياسي في البلد، أخذت في خضمه أنجيلا ميركل الكلمة للتعبير عن رفضها لهذه النتائج، داعية حزبها للانسحاب من التحالف معه.
منصب لم يدم طويلاً، ولكن
بعد حالة من الغضب انتشرت في جميع أرجاء البلاد، تراجع كِمريش معلناً استقالته. لكن تلك الاستقالة لم تأت إلا بعد أن أبرز "الحزب الديمقراطي الحر"، الذي ينتمي إليه كِمريش، ضعفَ وتداعي ما يطلق عليه الألمان اسم "جدار الحماية" (Brandmauer) –وهو الجدار الذي من المفترض أنه، بموجب اتفاقية سياسية دامت لعقود من الزمن، يحول دون أن تمارس قوى أقصى اليمين تأثيراً حقيقياً في السياسة الألمانية.
يذهب كثير من الألمان إلى أن الأمر يُعد وصمة عار قومي أن حزب "البديل" اليميني المتطرف قد وجد مثل هذه الأرض الخصبة للمشاركة في تحالف انتخابي في الولاية التي كانت جزءاً من ألمانيا الشرقية في السابق، وأن هذا الاستعداد أحد أسباب كون نتيجة الانتخابات غير حاسمة في تورينغن.
ما معنى هذا الصعود لليمين المتطرف؟
على المستوى الوطني، فقد أدى صعود الحزب اليميني المتطرف إلى "البرلمان الاتحادي لولايات ألمانيا" (البوندستاغ) إلى زيادة حدة النقاشات البرلمانية، ويمكن القول إن حملاته التي تتمركز حول مسائل الهجرة والهوية الوطنية أخذت شيئاً فشيئاً تكسر محظورات ألمانية عمّرت طويلاً، وتزيح السياسة الألمانية أكثر فأكثر نحو اليمين، وذلك في الوقت الذي تناضل قوى المركز السياسي للتعامل مع هذا التحدي الانتخابي.
لكن ما حدث في تورينغن تسبب في حالة رعب مسَّت جميع أرجاء البلاد. وقد يكون كِمريش الليبرالي المنتمي إلى "الحزب الديمقراطي الحر" قد صرّح بمعارضته لحزب "البديل"، غير أنه وافق على تولي المهمة على أي حال، بأغلبيةٍ مؤمنة بدعمهم.
وفي أعلى السلم الفيدرالي، بدا أن رئيس الحزب الديمقراطي الحر، كريستيان ليندنر، قد قبل النتيجة في البداية، وذلك رغم ردود الفعل المذعورة لكبار أعضاء حزبه.
واتُّهم ليندنر بالسعي للحصول على السلطة ولو بأي ثمن، ليذكره النقاد بكلمات سبق أن قالها في عام 2017 عندما أعرض عن التفاوض والدخول في تحالف انتخابي مع أنجيلا ميركل على المستوى الفيدرالي، قائلاً: "من الأفضل ألا نحكم، على أن ندخل في حكومة سيئة".
وقد أثارت تلك العلاقة والتحالف بين الحزبين شكوكاً مزعجة داخل حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" الذي تنتمي إليه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
تصدعات في صفوف الليبراليين
وصفت المستشارة الألمانية ما حدث بأنه "لا يُغتفر"، وانتقدت بشدة سياسيي تورينغن المنتمين لحزبها. فقد صوتوا أيضاً لصالح كِمريش، ليثيروا الاتهامات بأنه -ولو محلياً- كان حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" على استعداد لكسر تعهّد طويل بعدم التحالف مع أحزاب اليمين المتطرف.
ومن المقرر أن تناقش خليف ميركل في رئاسة حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي"، أنيغريت كرامب كارنباور، الأمر مع شركائها المتحالفين مع الحزب في نهاية هذا الأسبوع. ولا شك أن شركاءها في "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" المعارضين أبداً لأي تحالف مع اليمين المتطرف يريدون تأكيدات بأن حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" ليس لديه نية للعمل مع حزب "البديل" على أي مستوى، وبأنها وحزبها يمكنهما السيطرة على سياسيي الحزب الإقليميين.
وتعاني كارنباور نفسها من ضغط كبير، فبالنظر إلى أنها منعت قيادة حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" في تورينغن من السعي إلى تحالف محلي مع "الحزب اليساري الألماني"، فإن بعض الناس ليسوا مندهشين من أن الحزب قد انضم، عن علم أو دونه، في تحالف مع حزب "البديل" اليميني المتطرف. وها هي الحكومة الألمانية تدرك أيضاً بالطريقة الصعبة الخريطة السياسية المتغيرة، والدور المتنامي لحزب "البديل" في ذلك.
ما الذي سيحدث الآن؟
يُتوقع الآن أن تقام انتخابات جديدة في تورينغن. ومع ذلك، فإن القضية أثارت عند كثيرين أوجه تشابه مؤلمة. رئيس الوزراء البلجيكي السابق غاي فيرهوفشتات من بين أولئك الذين كتبوا على وسائل التواصل الاجتماعي احتجاجاً على ما حدث، وأعاد نشر صورة لرئيس وزراء الولاية المنتخب حديثاً كِمريش وهو يصافح زعيم حزب "البديل" اليميني المتطرف، بيورن هوكه، مستدعياً معها صورة لهتلر وهو يصافح، بعد انتصار تورينغن الانتخابي الذي أسس لصعوده السياسي، الرئيس الألماني آنذاك باول فون هيندنبورغ.
يأتي ذلك بعد أسبوع بالكاد من إحياء هذه البلاد ذكرى فظائع الحرب العالمية الثانية، خلال الاحتفالات بالذكرى السنوية لتحرير معتقلي معسكر الموت النازي في "أوشفيتز".
يقول موقع "بي بي سي" إنه لخزي عظيم لكثيرين أن يصبح لحزبٍ يميني متطرف مثلُ هذا التأثير، وأن حزباً سياسياً رئيساً قد قبل أن يدعمه، عن علم أو بدونه، وأن يبدو حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" الذي تنتمي إليه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل كما لو أنه قد توافق معهم.