الآن وقد خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بالفعل، تواجه حكومة بوريس جونسون تحدياً يتمثل في توقيع اتفاقيات تجارية كبرى مع أوروبا والولايات المتحدة لإنقاذ اقتصاد المملكة الذي يعاني، فما هي فرص عقد تلك الصفقات في العام الجاري؟
شبكة سي إن إن الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "بريطانيا بحاجة إلى عقد صفقة تجارية كبرى مع أوروبا، وتريد إبرام صفقة أخرى مع أمريكا.. لكن ربما ينتهي عام 2020 بدون إنجاز أي منهما"، ألقى الضوء على فرص جونسون الضئيلة في تنشيط الاقتصاد وإقناع المستثمرين.
غادرت الاتحاد الأوروبي، وماذا بعد؟
غادرت بريطانيا أخيراً الاتحاد الأوروبي بعد ما يقرب من أربع سنوات من عدم اليقين العميق، الذي تسبّب في عرقلة الاقتصاد وتثبيط همم المستثمرين. تترقب العديد من الشركات ما سيحدث بعد ذلك، لكن التوقعات المستقبلية حتى الآن ليست جيدة.
تبدأ المملكة المتحدة فترة انتقالية مدتها 11 شهراً يتعيّن خلالها على رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، سباق الزمن لإبرام صفقات تجارية جديدة مع أكبر الشركاء الاقتصاديين لبلاده، لأنَّ الفشل في تنفيذ ذلك يعني مزيداً من التعثّر لاقتصاد يعاني بالفعل.
اختارت بريطانيا الانفصال عن الاتحاد الأوروبي والاعتماد على نفسها بعد أربعة عقود من عضويتها في كتلة تجارية قوية. لذا، تتمثّل المهمة الأولى للمملكة المتحدة في تحديد طبيعة العلاقة التي تريدها مع الاتحاد الأوروبي، الذي يشتري حالياً نصف صادراتها تقريباً. يعتزم جونسون الابتعاد عن التكتّل الأوروبي فيما يتعلّق بالمسائل التنظيمية الرئيسية، قائلاً إنه يريد مساحة للتفاوض على صفقات تجارية جديدة مع قوى أخرى، مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
أسباب صعوبة المهمة
ومع ذلك، كلّما ابتعدت بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، زادت صعوبة إنشاء علاقات تجارية مع جيرانها، من بينهم فرنسا وألمانيا، وفي الوقت نفسه، لا تكاد العديد من الشركات البريطانية، التي تضررت بالفعل جراء حالة عدم اليقين بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تقوى على تحمّل وجود حواجز تجارية جديدة تُهدّد بعرقلة سلاسل التوريد الخاصة بها وترفع تكلفة منتجاتها وخدماتها.
ثمة أمور أخرى تقف في طريق تأمين التوصل إلى صفقات تجارية مع أوروبا أو الولايات المتحدة، من بينها افتقار فريق التفاوض البريطاني إلى الخبرة الكافية، فضلاً عن أنه سيعمل وفقاً لجدول زمني مضغوط للغاية.
قال كيم داروش، السفير البريطاني السابق لدى الولايات المتحدة، لصحيفة The Guardian البريطانية يوم الجمعة 31 يناير/كانون الثاني: "لم نجرِ مفاوضات تجارية منذ 40 عاماً". وأشار داروش إلى أن بريطانيا لم تنشر بعد أهدافها التفاوضية مع الولايات المتحدة، قائلاً: "بصراحة، لم تسنح لنا فرصة لممارسة ذلك من قبل".
ماذا سيحدث بعد ذلك؟
بينما قطعت بريطانيا جميع روابطها القانونية مع الاتحاد الأوروبي يوم الجمعة، لن تتغير العلاقات التجارية خلال الفترة الانتقالية الممتدة حتى نهاية العام الجاري 2020. قد يطلب جونسون تمديد هذا الموعد النهائي، لكنه وعد مراراً بعدم فعل ذلك.
يجب قراءة الواقع جيداً لأنَّ الحسابات الخاطئة ستكون مكلفة. ستواجه المملكة المتحدة حواجز تجارية كبيرة جديدة في حال لم تتوصل إلى اتفاقية تجارية جديدة مع بروكسل عندما يحين الموعد النهائي. هذا هو "الخروج البريطاني الصعب" الذي لطالما أصاب مجتمع الأعمال بالذعر، ودفع المديرين التنفيذيين لكبار الشركات مثل Airbus و Nissan للتحذير من العواقب الوخيمة.
تشعر أيضاً الشركات الأمريكية، التي استثمرت أكثر من 750 مليار دولار في المملكة المتحدة وتوظّف أكثر من 1.5 مليون بريطاني، بالقلق.
قالت مارجوري كورلينز، المديرة التنفيذية لمجلس الأعمال الأمريكي-البريطاني، في بيان: "نحث المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي على التحرّك سريعاً حتى يتوافر للمستثمرين والمُصدّرين الأمريكيين الوضوح اللازم لتنمية أعمالهم وخلق مزيد من فرص العمل". وأضافت أنه "من الضروري أن تمتد الفترة الانتقالية حتى تتوصل المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى اتفاق نهائي".
إنَّ التهديد الأمريكي بفرض رسوم جمركية جديدة على تداول السلع مع أوروبا ينبغي أن يجبر لندن على إعطاء الأولوية للمفاوضات مع بروكسل. وقد أكد وزير المالية البريطاني، ساجد جاويد، خلال حديثه في دافوس الأسبوع الماضي، أن الأولوية ستكون لإبرام صفقة تجارية مع أوروبا قبل الولايات المتحدة.
وفي هذا الصدد، كتب سام لوي، الزميل الباحث في مركز الإصلاح الأوروبي، أن "تحقيق الاستقرار في العلاقات مع الشركاء التجاريين الحاليين واستعادة ثقتهم ينبغي أن يكون على رأس أولويات بريطانيا بدلاً من الاندفاع نحو إبرام اتفاقية تجارية مع الولايات المتحدة".
ورغم ذلك، عادةً ما يستغرق التفاوض على اتفاقيات تجارية شاملة سنوات عديدة، وليس شهوراً. يقول خبراء إنَّ أفضل ما يمكن أن تأمل المملكة المتحدة في إنجازه هذا العام هو عقد صفقة مع أوروبا تستطيع بموجبها إبقاء مسألة الرسوم الجمركية تحت السيطرة لكنها ستواجه حواجز إدارية وتنظيمية جديدة على صادرات السلع والخدمات.
يقول محلّلون في البنك الألماني (Deutsche Bank) إنه في حال نجاح بريطانيا في التوصل إلى صفقة مع الاتحاد الأوروبي في عام 2020، ستكون صفقة غير شاملة. ومن ثمَّ، قد تواجه المملكة المتحدة صعوبات في إمكانية الوصول إلى السوق الأوروبي، ما يؤثر على قطاع الخدمات الضخم في البلاد. ومن شبه المؤكد أن قطاع الخدمات المالية في بريطانيا، الذي يمثل 7% من الناتج الاقتصادي، سيشهد قيوداً تحد من قدرته على الوصول إلى أسواق الاتحاد الأوروبي.
حتى هذا النوع من الصفقات المحدودة سيتطلب من الحكومة اتخاذ خيارات صعبة سياسياً، مثل ما إذا كان يتعيّن على بريطانيا تقييد مستوى وصول أساطيل الصيد الأوروبية إلى مياهها الإقليمية.
يسأل لوي: "هل المملكة المتحدة لديها استعداد لتقديم التنازلات المحلية الضرورية لإبرام اتفاق؟"، مشيراً إلى أنَّ "الحكومة البريطانية تكافح حتى الآن لتقديم إجابات".
صفقة مع الولايات المتحدة
قد يجد جونسون صعوبة أكبر في إتمام صفقة مع الولايات المتحدة بشكلٍ سريع، فالولايات المتحدة، التي لديها بالفعل فائض تجاري مع المملكة المتحدة، لا يناسبها منح صفقة تدر أموالاً طائلة على المملكة المتحدة بدون أن تطلب الكثير في المقابل. تعتبر المطالب الأمريكية بمثابة لعنة بالنسبة لقطاع كبير من سكان المملكة المتحدة لأنها ربما تعني ارتفاعاً في أسعار الأدوية أو انخفاضاً في معايير سلامة الغذاء.
ستضغط الولايات المتحدة بقوة لفتح السوق البريطاني أمام المزيد من الصادرات الزراعية الأمريكية، من بينها الدجاج المغسول بالكلور ولحم البقر المعالج بالهرمونات. ستطالب أيضاً بتغييرات في القواعد من شأنها التسبب في ارتفاع أسعار الأدوية.
لم يفعل جونسون الكثير لإعداد الشعب البريطاني لمواجهة هذا الواقع
قال لوي: "لن تجد المملكة المتحدة الطريق سهلاً لمجرّد ما تسميه علاقتها الخاصة مع الولايات المتحدة. إذا قاومت المملكة المتحدة المطالب الأمريكية، لاسيما في مجال الزراعة والسلامة الغذائية، فإنَّ إبرام اتفاقية شاملة للتجارة الحرة قد يستغرق سنوات".
ومن جانبه، صرَّح وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، خلال رحلة إلى لندن هذا الأسبوع بأنّ ثمة فرصة لإحراز تقدم كبير قبل نهاية العام. لكن عندما سئل ما إذا كانت الولايات المتحدة ستسعى لفرض الدجاج المغسول بالكلور على المملكة المتحدة، قال لمحطة LBC الإذاعية الإنجليزية إنَّه "ستكون هناك قضايا خلافية جدّية بشأن قطاع الزراعة".
وأضاف بومبيو: "نحن بحاجة إلى التأكُّد من عدم استخدام سلامة الغذاء حيلة لمحاولة حماية صناعة معينة"، مشيراً إلى أنَّ المستهلك سيكون "المستفيد الفعلي من هذه الصفقات الجيدة حقاً".
بالإضافة إلى ذلك، من غير المرجح أن يسمح الكونغرس الأمريكي، الذي يجب أن يصادق على أية صفقات تجارية شاملة، للرئيس دونالد ترامب بتحقيق انتصار في الشأن التجاري قبل الانتخابات الرئاسية المقرر عقدها في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. كانت بريطانيا قد عارضت بالفعل الإدارة الأمريكية مرتين مؤخراً في قضايا رئيسية. فقد سمحت بريطانيا لشركة Huawei الصينية بالمساعدة في بناء شبكات اتصالات الجيل الخامس في المملكة المتحدة، وتعهدت بالمضي قدماً في فرض ضريبة جديدة ستتأثر بها الشركات التقنية الأمريكية.
ردَّت إدارة ترامب على هذا الإجراء الأخير من خلال التهديد بفرض رسوم جمركية على السيارات المصنوعة في بريطانيا، ما يبيّن مدى ضآلة ما تعنيه العلاقة الخاصة بالنسبة للدولتين عندما يتعلّق الأمر بالتجارة. لذا، سيتطلب التحرُّك عبر هذه التقلبات غير المتوقعة قيادة ماهرة.
قال لوي: "لا يمكن التنبؤ بأفعال الرئيس ترامب، هو شخص سريع الغضب ويتعامل مع التجارة بما يشبه عمليات الابتزاز الإجرامية مقابل الحماية: أولاً يزيد حجم التهديد في صورة رسوم جمركية وعدم استقرار، ثم يعرض عليك الحماية مقابل دفع الأموال".
كيف يبدو الفشل؟
تُبيّن حالة صناعة السيارات البريطانية مدى أهمية عقد صفقات جيدة مُتّزنة على نحوٍ سريع، ووفقاً لبيانات صادرة هذا الأسبوع عن رابطة مصنعي وتجار السيارات، انخفض معدل إنتاج السيارات في المملكة المتحدة بنسبة 14% في العام الماضي. يعزى هذا الانخفاض في قطاع السيارات للعام الثالث على التوالي إلى مشاكل في الأسواق الرئيسية في الخارج، وتحوّل أوروبا بعيداً عن السيارات التي تعمل بمحركات الديزل. ويجدر الإشارة أيضاً إلى أن عدم اليقين بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أدَّى دوراً كبيراً في هذا التراجع.
يقول مايك هاوز، الرئيس التنفيذي لرابطة مُصنّعي وتجار السيارات في بريطانيا (SMMT) في بيان إن "تراجع صناعة السيارات البريطانية إلى أدنى مستوى لها منذ ما يقرب من عقد من الزمان يثير قلقاً بالغاً. ترغب كل دولة في العالم في أن يكون لديها قطاع سيارات ناجح، بالنظر إلى أنه يُعتبر محركاً لدفع عجلة التجارة والإنتاجية وخلق الوظائف".
يخشى مُصنّعو السيارات العالميون، الذين بنوا مصانع في بريطانيا، من انتهاء العام دون أن تنجح بريطانيا في الاتفاق على صفقة تجارية جديدة مع الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى عرقلة سلاسل الإمداد الخاصة بهم وتعطيل الإنتاج وتآكل هامش الربح الضئيل للغاية بالفعل.
سيسعى كثيرون بمرور الوقت إلى نقل عناصر الإنتاج إلى خارج المملكة المتحدة. وقد يسحب البعض استثماراته في البلاد تماماً.
قال هاوز: "يجب إعادة بناء قدرتنا التنافسية العالمية، وهذا يبدأ باتفاقية طموحة للتجارة الحرة مع أوروبا تضمن بريطانيا بموجبها إمكانية شراء جميع منتجات المركبات وبيعها بدون رسوم جمركية أو أعباء إضافية".