من بين كل المقترحات العديدة لإحلال السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين على مدى عقود، جعلت الظروف الراهنة خطة الرئيس دونالد ترامب التي أعلنها يوم الثلاثاء 28 يناير/كانون الثاني، رفقة رئيس الوزراء الإسرائيلي أكثر تلك المقترحات استبعاداً من الأخذ على محمل الجِّد.
بلا مستقبل بل والأسوأ
وتقول صحيفة The New York Times الأمريكية، على ما يبدو، فإن "صفقة القرن"، وهو الاسم الذي عُرفت به الخطة، بدا أنها لم تكن سوى محاولة إلهاء ساخرة من اثنين من الساسة يواجهان مشكلات، بمعنى آخر هي رشوة لقاعدتيهما اليمينية في محاولة لإعادة انتخاب كل منها مرة أخرى في الانتخابات الإسرائيلية في مارس/آذار المقبل والانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر/تشرين الثاني. ووصفت مجموعة من المحللين اتفاق السلام بأنه بلا مستقبل بل والأسوأ من ذلك بأنه تنازل أمريكي عن أي دور لواشنطن في الوساطة بين الطرفين في المستقبل.
غير أن الصراع امتد لفترة طويلة للغاية، وتضمن معاناة كبيرة مما يجعل رفض أي مبادرة جديدة فورياً. كانت الخطة التي تحمل اسم "رؤية لتحسين حياة الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي" قيد المفاوضات لما يقارب الثلاث سنوات، وخاض مفاوضو ترامب -صهره جاريد كوشنر، ومحاميه السابق جيسون غرينبلات- مشاورات مكثفة مع بعض القادة العرب، الذين ستكون هناك حاجة إليهم لإجبار رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى الجلوس على طاولة المفاوضات.
وفي ظاهرها، تبدو الخطة مبنية على خطط السلام السابقة؛ وتغطي كل القضايا الكبرى، بما في ذلك أمن إسرائيل، والقدس، والمستوطنات، وحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، وحزمة مساعدات بقيمة 50 مليار دولار للفلسطينيين في حال وقعوا على الاتفاق، وهو مبلغ ستوفره البلدان العربية الغنية بالنفط التي جندها ترامب. وعن طريق وصف الخطة بـ "الرؤية" بدلاً من "خارطة الطريق" أو "خُطة السلام" فقد أشار ترامب إلى أن الباب مفتوح للتفاوض بشأنها، وهو الأمر الذي يدعي الرئيس الأمريكي أنه يبرع فيه.
"دولة كخليط من جزر عنصرية"
ورغم ادعاء ترامب بأن تلك قد تكون "آخر فرصة للفلسطينيين" بأن يحظوا بدولتهم، قد يَصعب حتى على أكثر الفلسطينيين براغماتية وإنهاكاً قبول هذا الاتفاق. قد يعتقد ترامب أنه يعرض اتفاقاً للفلسطينيين لا يمكنهم في نهاية المطاف رفضه، لكن الحقيقة هي أن بإمكانهم ذلك بالتأكيد، ومن الصعب رؤية كيف ستكون هذه النتيجة في صالح إسرائيل على المدى البعيد.
لا يتطلب الأمر سوى نظرة خاطفة على الخريطة المقترحة لـ "دولة" فلسطين، ومعرفة بعض تفاصيل الخطة لاستنتاج أنها لن تكون دولةً على الإطلاق، بل ستكون خليطاً من جزر عنصرية، يُزعم أنها ستكون متصلة ببعضها البعض بجسورٍ وطرق وأنفاق، وستكون جميعها خاضعة للمتطلبات الأمنية التي ستحددها إسرائيل. بعبارة أخرى، سيكون الوضع أشبه كثيراً بما هو عليه الآن وربما أسوأ.
وعملياً، تعطي خطة ترامب لإسرائيل الحق في ضم كل المستوطنات الإسرائيلية ووادي الأردن. لكن كيف قد يكون هذا العنصر من الخطة خاضعاً لمفاوضات حسنة النية مع الفلسطينيين -مثلما قيل- في حين أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سرعان ما قال إنه سيطلب من حكومته الموافقة على عملية الضم نهاية هذا الأسبوع، على الرغم من تعليق تلك الخطوة بعدها.
تبني طمع الإسرائيليين وازدراء لحقوق الفلسطينيين
تعكس خطة ترامب في كل جوانبها تبني الرئيس الأمريكي لآمال الإسرائيليين والمتبرعين لحملته من اليهود والإنجيليين، وتعكس أيضاً سلوكاً فيه ازدراء للفلسطينيين. وفي حين أن كل خطط السلام السابقة تقبلت حاجة إسرائيل لتأمين حدودها ومنع قيام دولة مسلحة إلى جوارها، فقد سعت في الوقت نفسه إلى إيجاد صيغة للترتيبات تكون مُنقذة لماء الوجه مثل السماح لإسرائيل بـ "استئجار" الأراضي بدلاً من ضمها.
ورغم كل المداولات الحذِرة بشأن تفاصيلها، يبدو أن الخطة لا تحمل أي أمل حقيقي لوجود سيادة فلسطينية حقيقية أو أي تحسن حقيقي في أوضاع الشعب الفلسطيني.
لا يجب أي يكون أي من هذا مفاجئاً في أعقاب قرارات ترامب السابقة أحادية الجانب بنقل سفارة الولايات المتحدة لدى إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان والاعتراف بشرعية المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وجميعها أفعال مثلَّت تحولاً في السياسة الأمريكية الممتدة منذ عقود وبددت أي شكل من أشكال الإنصاف في حل الصراع.
ولم يكن ذلك الوضع هو المتوقع. فعندما أصبح ترامب رئيساً كلَّف كوشنر بالاضطلاع بمهمة التوصل إلى "أصعب اتفاق"، وحتى الفلسطينيون أنفسهم كانوا مفتونين. فحينها كان التوصل لاتفاق دائم قد أصبح أمراً لا يمكن أن تدركه الجهود المُضنية للإدارات الأمريكية المتعاقبة سواء من الديمقراطيين أو الجمهوريين، وتبدد حل الدولتين الذي لطالما حاز القبول بوصفه الهدف النهائي. اقترح أحد كبار المسؤولين الفلسطينيين حينها أن خلفية ترامب وطرقه غير التقليدية ربما تكون الأمر اللازم لكسر الجمود. وفي مايو/أيار من العام 2017، استقبل ترامب عباس في البيت الأبيض، وبعدها بشهر أجل ترامب قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس لتحسين فرص التوصل لاتفاق.
لكن تغير كل ذلك بعدما أصبحت رئاسة ترامب مثيرة وفوضوية ومُثقلة بالأعباء على نحوٍ متزايد. ففي ديسمبر/كانون الأول من العام 2017، أبدى الرئيس تحولاً كبيراً بإعلان اعتزامه نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وهي نقطة خلاف رئيسية بين اليهود والعرب لطالما كانت عنصراً أساسياً للتسوية في أي اتفاق لإحلال السلام، والآن أصبحت "غير مطروحة" على طاولة المفاوضات. وعندما رد عباس والفلسطينيون باستهجان وقطعوا اتصالاتهم مع واشنطن، قطع ترامب تقريباً كل المساعدات الأمريكية للفلسطينيين. ومنذ ذلك الوقت، كانت خطة السلام تُوضع دون أي مشاركة من الجانب الفلسطيني.
استغلال القضية الفلسطينية لأجل مصالح نتنياهو ترامب
غير أن طرح الخطة تأجل عندما تداعت حكومة نتنياهو، وفي عمليتين انتخابيتين متتاليتين لم يحصد نتنياهو أو منافسه الرئيسي بيني غانتس من تحالف "أزرق أبيض" عدد مقاعد كافياً في البرلمان لتشكيل حكومة. ومن المقرر إجراء انتخابات ثالثة في الثاني من مارس/آذار المقبل. ثم جاءت الاتهامات الموجهة لنتنياهو.
أما ترامب، الذي يخوض محاكمة لعزله، فقد يستخدم أي شيء لحشد مؤيديه ليحيط نفسه بهالة رجل الدولة.
لا يُبشر توقيت الإعلان عن الخطة إلى جانب تجاهل المصالح الفلسطينية والسجل الضعيف لترامب في متابعة المقترحات الجريئة التي يعلنها (وكوريا الشمالية خير مثال) بوجود فترة مفاوضات نشطة متعددة الأطراف للتوصل لسلام حقيقي. وأيضاً لا تبشر المتاعب المريرة التي يواجهها زعيما الولايات المتحدة وإسرائيل بذلك.
اختار ترامب ونتنياهو عدم الإتيان على ذكر المصاعب القضائية التي يواجهانها، وهذا راهن آمن، لكنهما لم يدركا أن استغلال قضية مهمة مثل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي ليكون حلاً لمشكلاتهما السياسية لم يفعل شيئاً سوى إبراز سوء استخدام الرئيسين لسلطتهما وهو الاتهام الذي يواجهانه بالفعل.