يبدو ألا أحد يفكر كثيراً في بلدة أبوديس الفلسطينية الواقعة على جانب أحد التلال، ولا حتى مُحافظها، الذي يجد صعوبة في تحديد سبب توليه المنصب. إذ قال متحدثاً عن ذلك: "في الحقيقة، لا أعرف. هناك الكثير من الجرائم والمخدرات".
وحين كانت البلدة تُطِل على المنظر الخلَّاب لمسجد قبة الصخرة الذهبية وجبل الزيتون، كان أهاليها يمشون عبر الوديان إلى القدس لبيع الأغنام والماعز والجبن، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
أما الآن، فقد أدَّى الجدار العازل الذي يبلغ ارتفاعه ثمانية أمتار والذي بناه الجيش الإسرائيلي إلى حجب معظم هذا المنظر. والأهم من ذلك، أنه عزل أهالي البلدة البالغ عددهم حوالي 30 ألف شخص عن حقولهم والمدينة المقدسة.
أفكار إسرائيلية شديدة التطرف
وبعد سنواتٍ من الإهمال، يريد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وضع هذه المدينة المعزولة -بشوارعها المُدمَّرة غير الممهدة ومتاجرها التي أصبح أغلبها مغلقاً- على الخريطة. إذ تسعى "رؤيته للسلام"، التي أعلنها يوم الثلاثاء الماضي 28 يناير/كانون الثاني، إلى تغيير صورة أبوديس والمناطق المجاورة في إطار وضعها ضِمن عاصمة "دولة" فلسطين المستقبلية.
وتعكس الخطة، التي رفضتها القيادة الفلسطينية برمتها بالفعل، في الكثير من بنودها بعض الأفكار اليمينية المتطرفة للغاية في التفكير السياسي الإسرائيلي. إذ تمنح إسرائيل سيطرةً عسكريةً مُطلقة على الفلسطينيين وقطاعاتٍ ضخمة من الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وفي الوقت نفسه، أعلن ترامب -في محاولةٍ ظاهرية لإظهار أنه يريد معالجة المظالم الفلسطينية- ما وصفه بأنه تنازلاتٍ لتحقيق بعض أبرز المطالب الفلسطينية، بما في ذلك الوعد بدولةٍ مستقبلية تقع عاصمتها في القدس الشرقية.
دولة بلا معنى سيكون من حق الإسرائيليين التوغل داخلها
لكنَّ الخطة المؤلَّفة من 181 صفحة، التي نُشِرَت بعد وقتٍ قصير من حديثه، أظهرت أن تفاصيل هذه الوعود جعلتها بلا معنى فعلياً. فأي "دولة" فلسطينية لن تبدو دولةً ذات سيادة، بل ستكون محاصرةً بالكامل، ولن يكون لديها جيش أو سلاح جوي، وستواصل إسرائيل السيطرة على سمائها وحدودها وبحارها.
والأدهى من ذلك أن القوات الإسرائيلية سيكون لها الحق في إجراء عمليات توغل داخل فلسطين في أي وقت. بل وتشير وثيقة الخطة كذلك إلى أن الولايات المتحدة وإسرائيل يمكنهما استخدام حق النقض (الفيتو) ضد التحرُّكات الفلسطينية من أجل الاستقلال.
الفكرة الأكثر تضليلاً.. أبوديس ستكون هي القدس ولكن بلا مقدسات
ولكن ربما يكون الجانب الأكثر تضليلاً هو تأكيد ترامب أنَّ الفلسطينيين سيحققون أخيراً رغبتهم القائمة منذ عقود في الحصول على عاصمةٍ في القدس الشرقية.
وقد أثارت هذه النقطة دهشة أهالي أبوديس، الذين وصفوا بلدتهم بأنَّها "قرية" نائية أو "ضاحية" في أحسن الأحوال، وليست جزءاً أساسياً من القدس التي تصوُّروها أنَّها ستضم مقارهم الحكومية بالتأكيد. وحتى إسرائيل لا تعتبر أبو ديس جزءاً من "عاصمتها غير المُقسَّمة" -وهو مصطلح استخدمه ترامب في خطابه- بل تستبعدها عن قصد من حدودها البلدية.
وفي حالةٍ من أشد الحالات تناقضاً مع المنطق، تقترح الخطة أنَّ الفلسطينيين يُمكنهم التفكير في إعادة تسمية أبوديس بـ "القدس"، مع أنها لا تضم أيٍّ من المواقع الدينية المقدسة التي كانت سبباً في إطلاق اسم القدس على العاصمة القديمة.
ماذا قال سكان أبوديس عن خطة ترامب؟
وفي هذا الصدد، قال المواطن يحيى عياد (53 عاماً)، الذي كان يبيع الفواكه الخضراوات في غرفةٍ مظلمة عند عند الدوَّار المروري المركزي الخامل في البلدة: "أبوديس لن تحل محل القدس أبداً. أبوديس هي أبو ديس والقدس هي القدس".
وكان عيَّاد يعمل في الماضي حارساً لأحد المسجد في البلدة القديمة بالقدس، لكنَّ تصريح السفر الإسرائيلي الخاص به لم يُجدَّد. والآن، يمكنه رؤية القدس من فوق أحد التلال لكنَّه لا يستطيع دخولها. وقال متحدثاً عن الحكومة الإسرائيلية: "في النهاية ستتخلَّص منَّا. فإسرائيل هي الطفل المدلل لدى الأمريكيين".
المفارقة أن مبنى البرلمان موجود بها
وتجدر الإشارة هنا إلى أن التصوُّر الذي وضعه ترامب لأبوديس، والذي أكده رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يعيد إحياء فكرةٍ طُرِحت في منتصف التسعينيات من القرن الماضي بإقامة البرلمان الفلسطيني في البلدة. واقترحت الفكرة آنذاك أن يعمل البرلمان هناك خلال فترةٍ مؤقتة قبل توقيع اتفاق سلام كامل.
وبالرغم من انتهاء الجزء الأكبر من البناء، لم يُفتتَح المبنى قط، وهو ما يُعزا جزئياً لاعتراضات الفلسطينيين على أن تكون أبوديس العاصمة المستقبلية البديلة.
وقال عمدة البلدة أحمد أبوهلال إن أبوديس لا تتمتع بما يؤهلها لأن تصبح أفضل، ورفض أن يترقى لعمدة مدينة. وأكد: "نحن نرفض ذلك. القدس هي عاصمة فلسطين"، بينما يقف أمام خريطة للمدينة مُعلَّقة في مكتبه.
أكبر قدر من الأراضي مع أقل عدد من الفلسطينيين
وقال العمدة إن ترامب ينفذ خطة ترسمها الحكومة الإسرائيلية منذ عقود، وهي تقوم على عزل الفلسطينيين في جيوب صغيرة للغاية بينما تستحوذ على مساحات أكبر من الأرض. وأوضح أن الجدار الإسرائيلي في البلدة فرق شمل بعض الأسر بالفعل، وأجبر المزارعين في أبوديس على ترك الزراعة.
على الجانب الآخر، كان قادة إسرائيل أكثر ترحيباً بخطة ترامب؛ إذ قَبِلوها أساساً للمحادثات، وقالوا إنهم سيتحركون على الفور لبدء تنفيذ بعض أجزائها المفضلة، بما في ذلك ضم مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية.
إلا أنَّ القادة الفلسطينيين أدانوا ترامب. وقال الرئيس الفلسطيني محمود عباس: "صفقتكم مؤامرة لن تمر".
وحماس لن تسلم سلاحها
وفي قطاع غزة، المُطِل على البحر المتوسط والمنفصل جغرافياً عن بقية الأراضي الفلسطينية، قال مسؤول من حركة حماس التي تدير القطاع المحصور إنَّ الحركة لن توافق أبداً على بنود صفقة القرن، التي تشمل تخلي الحركة بالكامل عن سلاحها. وقال إسماعيل رضوان، في تصريح لصحيفة The Guardian البريطانية: "لن ينزعوا أسلحتنا ما لم يقضوا على الشعب الفلسطيني".
وفي مكان قريب، بشوارع غزة، خرج آلاف الفلسطينيين، أمس الأربعاء 29 يناير/كانون الثاني، للاحتجاج ضد الصفقة، وأحرقوا إطارات السيارات وأغلقوا الشوارع. لكن من غير الواضح ما الذي يمكن أن تحققه المظاهرات في وسط مدينة غزة. إذ يعيش المقيمون هناك تحت الحصار الإسرائيلي المصري منذ أكثر من عقد، ولم يغادر معظمهم.