في حين تحتل ليبيا الكثير من عناوين الأخبار اليوم، فإنها ليست الدولة الإفريقية الوحيدة التي تستحوذ على اهتمام تركيا هذه الأيام، إذا تشهد العلاقات التركية الإفريقية توسعاً مطرداً في كافة المجالات بفضل النجاح الاقتصادي التركي في إفريقيا.
وفي حين أن محاولة تركيا الأخيرة (بدعمٍ روسي) للتفاوض على وقفٍ لإطلاق النار في ليبيا قد فشلت في وقف الحرب الأهلية العنيفة بالبلاد، تشي تحركات أنقرة في مناطق إفريقيا الأخرى بأن تركيا ستظل متشبثة بالسعي وراء مصالحها في ليبيا وباقي القارة، حسبما ورد في تقرير لموقع Al-Monitor الأمريكي.
العنصر الأهم في العلاقات التركية الإفريقية
عندما أعدَّت وزارة الخارجية التركية وثيقة بعنوان "خطة عمل إفريقيا" عام 1998، لم يلحظ الكثيرون ذلك.
لكن مع تنامي وضع تركيا الاقتصادي تحت حكم الرئيس رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه، تزايد انفتاح تركيا على الدول الإفريقية، وتعززت العلاقات التركية الإفريقية .
إذ تصاعدت الجهود المتراوحة بين بناء الدولة، إلى تقديم المساعدة الأمنية، وصولاً إلى السيطرة على المدارس التابعة لشبكة الداعية المقيم في ولاية بنسلفانيا الأمريكية والمتهم بتدبير محاولة 2016 الانقلابية، فتح الله غولن.
وفي الوقت نفسه، ورغم التحديات، ظلت التجارة هي العنصر الأكثر نجاحاً في العلاقات التركية الإفريقية.
أخ أكبر للصومال
ففي منطقة القرن الإفريقي باتت تركيا بصورةٍ ما أخاً كبيراً للصومال. وشهد الصومال، الذي تعصف به الانقسامات السياسية والصراع الفصائلي منذ عام 1991، كذلك موجة هائلة من الجفاف والمجاعة في عام 2011 أودت بحياة أكثر من 260 ألف شخص.
زار أردوغان، رئيس وزراء تركيا آنذاك، العاصمة الصومالية مقديشو وبدأ مهمة كبيرة لإعادة الإعمار. وحين بدأت الصومال تعاني من موجة جفاف أخرى عام 2017، دعا خبيرٌ صومالي الدول الأخرى لتحذو حذو تركيا بإشادته بـ "النموذج التركي الذي مزج بين المساعدات والتنمية" في 2011-2012.
وحالياً، تحتفظ تركيا بواحدة من أكبر قواعدها الخارجية في مقديشو، حيث تواصل تدريب قسم من الجيش الوطني. وتُسيِّر الخطوط الجوية التركية رحلات إلى العاصمة الصومالية بصورة منتظمة. كما تنشط الوكالة التركية لتقديم المساعدات الخارجية والشركات الخاصة التركية في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة الصومالية المركزية.
في الوقت نفسه، وقبالة ساحل القرن الإفريقي، تُسيِّر السفن الحربية التركية دوريات في خليج عدن كجزء من قوة مهام الأمم المتحدة لمكافحة القرصنة. وفي السودان المجاور استأجرت حكومة أردوغان ميناء مدينة سواكن الساحلية على البحر الأحمر في 2017. مع ذلك، فإن حالة هذا الإيجار غامضة منذ الإطاحة بالرئيس السوداني عمر البشير.
مصر شريكها الأكبر.. النجاح الاقتصادي التركي في إفريقيا أقل شهرة ولكنه الأكثر تأثيراً
وفي حين تحتل التحركات العسكرية والسياسية التركية في إفريقيا عناوين الأخبار، فإن النجاح الاقتصادي التركي في إفريقيا هو الأهم لاسيما التجارة.
إذ بلغ إجمالي حجم التجارة التركية مع إفريقيا 20 مليار دولار عام 2018، ولو أن هذا الرقم جزء صغير من إجمالي التجارة الخارجية التركية (قرابة 400 مليار دولار عام 2018).
تسارع تركيا الخطى. فمنذ منتصف العقد الأول بالألفية الثالثة، أبرمت تركيا اتفاقيات للتجارة الحرة مع أربعة بلدان إفريقية. في الواقع، تثبت تجارة تركيا مع إفريقيا القول المأثور إن المال لا يعبأ بالعقيدة ولا السياسة ولا لون البشرة.
على سبيل المثال، حتى مع تعثُّر العلاقات الدبلوماسية التركية المصرية من أزمة إلى أخرى، تظل مصر هي أكبر شريك تجاري لتركيا في إفريقيا بفضل اتفاقية التجارة الحرة بينهما.
ففي عام 2018، صدَّرت تركيا لمصر ما قيمته أكثر من 3 مليارات دولارات من البضائع والخدمات، في حين بلغت الصادرات المصرية إلى تركيا 2.2 مليار دولار. واتفاقيتا التجارة الحرة الجديدتان مع السودان وغانا بانتظار التصديق عليهما. وتتفاوض أنقرة كذلك على اتفاقيات تجارة حرة مع حكومات إفريقية أخرى، في محاولة لتأمين إمكانية وصول غير مقيد إلى "منطقة التجارة الحرة الإفريقية" المُقامة أخيراً.
والمغرب يتذمر
وتُقدِّم اتفاقية التجارة الحرة مع المغرب عبرة للاتفاقيات الناجحة. فكانت اتفاقية التجارة الحرة التركية المغربية، التي كان الهدف منها في الأساس استغلال اتفاقيات التجارة الحرة التي أبرمها البلد الواقع في شمال غرب إفريقيا مع كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وإمكانات البلد باعتباره مركزاً لوجستياً، تحول الاتفاق التركي المغربي بحد ذاته إلى نعمة لأنقرة.
إذ وصل حجم التجارة بين البلدين، الذي كان يبلغ 435 مليون دولار عام 2004، إلى 2.6 مليار دولار عام 2017، بفائض بقيمة 1.27 مليار دولار لصالح تركيا. هذا الخلل التجاري والتمييز المزعوم من جانب سلطات الجمارك التركية ضد الواردات المغربية أزعج مجتمع الأعمال المغربي.
وفي وقتٍ سابق من هذا الشهر يناير/تشرين الثاني، فرضت الحكومة المغربية تعريفات جديدة على المنسوجات التركية المستوردة، في حين هدَّد وزير التجارة المغربي بإلغاء اتفاقية التجارة الحرة.
رداً على ذلك، زار وزير التجارة التركي روهصار بكجان إلى المغرب في الـ15 من يناير/كانون الثاني، ودعا رجال الأعمال الأتراك للاستثمار في مشروعات مشتركة مع نظرائهم المغاربة للوصول إلى أسواق الأطراف الثالثة في إفريقيا، في اعترافٍ ذكي بمخاوف الرباط. وقال بكجان أيضاً إن أنقرة "تطرق أبواب إفريقيا بصورة أكبر".
رجال الأعمال الأتراك سعداء
وعلى الرغم من المشكلات، فإن مجتمع الأغمال التركي سعيد بتركيز حكومة حزب العدالة والتنمية على إفريقيا.
فيتفق خبيرٌ كبير في التجارة الخارجية بإسطنبول على أن إفريقيا هي موجة المستقبل بالنسبة لنمو الاقتصاد التركي.
وقال لموقع Al-Monitor الأمريكي شريطة عدم الكشف عن هُويته: "فتحنا 12 سفارة جديدة في إفريقيا. وافتتحت الخطوط الجوية التركية مكاتب في كل عاصمة إفريقية تقريباً وتُسيِّر رحلات إلى كل المدن الإفريقية الكبرى، وقد أحدث هذا فارقاً كبيراً في تجارتنا مع القارة".
إذ أن النجاح الاقتصادي التركي في إفريقيا جعل المنتج التركي الأكثر انتشاراً في كثير من دول القارة بعد المنتج الصيني مباشرة.
ويجرى إعادة نسج علاقات مع رجال الأعمال المقربين لغولن ببطء
وزعم الخبير أيضاً أنه في حين تفرض أنقرة ضغوطاً على الكثير من الدول حول العالم من أجل تحويل المدارس التابعة لحركة غولن إلى هيئات تابعة للحكومة التركية، تجري على الجبهة الاقتصادية إعادة رجال الأعمال التابعين لغولن ببطء إلى الساحة.
إذ يُزعَم أن دوائر الأعمال الموالية لحزب العدالة والتنمية تعيد بحذر بناء شراكات مع الشركات التابعة لغولن في إفريقيا. يقول الخبير: "المال لا أيديولوجيا له".
ونشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية مؤخراً تقريرا تحدثت فيه عن نجاح الحكومة التركية في حل العديد من المدارس التي أسستها حركة غولن بأفريقيا على مدى 25 سنة الماضية.
والمهاجرون الأفارقة في تركيا مؤهلون
تحدث الخبير بإيجابية كذلك عن زيادة عدد المهاجرين الأفارقة في إسطنبول، الذين يصفهم بأنهم "عمالة مؤهلة، فالكثير من أولئك الذين يصلون حاصلون على تعليمٍ جامعي وغالباً يتحدثون كلاً من الفرنسية والإنجليزية بطلاقة".
وأضاف أن التغييرات التركية الأخيرة في قوانين الهجرة والمواطنة من المقرر أن تجلب المزيد من المهاجرين من إفريقيا.
وفي الوقت الراهن، يمكن للمواطنين الأجانب الحصول على الجنسية التركية عند شراء ممتلكات تبلغ قيمتها 250 ألف دولار أو الحصول على إقامة دائمة عند شراء منزل بقيمة أقل.
لكن هذه المشكلات ما زالت تعرقل التجارة بين الجانبين
غير أن الخبير نفسه أعرب عن أسفه على العقبات الكبيرة –وبالأخص الضريبة المضاعفة والتعريفات المرتفعة- التي تقوّض التجارة التركية مع إفريقيا.
ويبدو أن غياب الروابط المالية الفعالة بين تركيا والعديد من الدول الإفريقية مصدرٌ آخر للشكوى.
فقال: "لا تعترف البنوك التركية بخطابات الضمان من البنوك الإفريقية، والعكس صحيح.. وبطبيعة الحال، يجد التجار طريقة لتجاوز هذه المشكلة، لذا فإن الأرقام الرسمية بشأن التجارة التركية مع إفريقيا ربما تكون أكثر من الأرقام الفعلية".
الدرس الذي تعلمته تركيا من الصين.. وجنوب إفريقيا شريكتها القادمة
وأشار الخبير إلى كيف تؤدي تلك المشكلات لوقوع تركيا خلف الصين في إفريقيا. فقال: "بعكس الصينيين، الذين يبيعون بضائعهم بسفن الحاويات، يمكننا أن نبيع بضائعنا مجزأة فقط".
الخبر الجيد هو أنه يبدو أن تركيا تحذو حذو الصين. فمثلما هو الحال مع الصين، لا تحمل تركيا إرث الماضي الاستعماري الإشكالي في معظم إفريقيا.
ووقَّعت الصين، على الرغم من سياساتها الاقتصادية والتجارية المثيرة للجدل في العديد من الدول، أكثر من 40 اتفاقية ثنائية للتجارة الحرة مع الحكومات الإفريقية منذ عام 2000. وحتى قبل ظهور منطقة التجارة الحرة الإفريقية، ضغطت "المملكة الوسطى" (الصين) من أجل الانضمام إلى الاتحاد الجمركي لإفريقيا الجنوبية.
من جانبها، وضعت أنقرة أنظارها صوب جنوب إفريقيا لتكون شريكتها التالية في إبرام اتفاقية تجارة حرة.
وربما يكون هذا هو الدرس الأهم لتركيا: الاستمرار في الضغط (للتوسع). ففي عام 2000، كانت التجارة الصينية مع إفريقيا 10 مليارات دولار فقط، وفكِّروا في ذلك أخذاً بالاعتبار أنه تم في ظل فضاءٍ كان يتولى فيه المستعمرون الأوروبيون السابقون زمام القيادة. لكن بالتقدم بالزمن 20 عاماً إلى الأمام، من المقرر أن تبلغ التجارة الصينية الإفريقية 220 مليار دولار.
لكن حتى لو كانت ستجري مفاوضات بخصوص المنافسة الصينية العملاقة والعقبات القانونية والمالية، يجب أن تتغير العقليات.