يتابع غورغي دانوليتسيو، المعروف أيضاً باسم غيتا تشوبانول (غيتا الراعي)، أكثرُ من 50 ألف متابع على فيسبوك، بعد ظهوره في حملة إعلانية انتشرت انتشاراً كبيراً، لكنه يعيش حياة راعٍ تقليدي متواضعة.
وخلال رعايته 1500 رأس من الغنم في غربي رومانيا، تتغير حياة دانوليتسيو بتغيُّر الفصول. في موسم ولادة النعاج بفصل الربيع، ينام بالكاد أربع ساعات في الليلة، وفي الشتاء يقود خرافه في رحلة تتراوح مدتها بين ثلاثة وأربعة أسابيع بين الجبال نزولاً إلى المرعى في الوديان.
وحتى حين تنخفض الحرارة لأقل من 30 درجة مئوية تحت الصفر، ينام دانوليتسيو بجوار حيواناته، ملتحفاً بجلد خرافه تحت السماء الملأى بالنجوم، ومستعداً لحماية قطيعه في حالة أي هجمة من ذئب.
يقول دانوليتسيو لصحيفة The Guardian البريطانية: "ورثت هذا الدور عن أبي الذي كان يملك بضع مئات من الغنم، لكني أيضاً أحبه، وأحب الحيوانات".
غير أنه مثل كل رعاة الغنم الرومانيين الذين يملكون قطعاناً صغيرة ومتوسطة الحجم، يصارع دانوليتسيو في سوق تهيمن عليه مجموعة صغيرة من مُصدِّري الحيوانات الحية، والفلاحون الكبار، والمحال التجارية الضخمة.
ويتابع: "أصبحت تجارة الخراف مُسخة! نبيع الغنمة الواحدة مقابل 100 ليو روماني (23.5 دولار). لا يمكنني أن أتحمل دفع مرتبات جيدة ولم أعد أجد عمالاً. يرى صغار الشباب أن الأمر برمته في تدهور. لديَّ انطباع بأن هذا أمر سياسي، وأنهم يحاولون تدمير هذا القطاع".
صناعة أساسية في رومانيا
أصبح تصدير الحيوانات الحية صناعة أساسية في رومانيا. في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، شاهد العالم في رعب، غرق أكثر من 14 ألف رأس من الغنم في ميناء ميديا بالبحر الأسود وهي في طريقها إلى المملكة العربية السعودية.
حتى ذلك الحين، كان عدد قليل من الناس -حتى في رومانيا- يدركون حجم تجارة تصدير الحيوانات الحية. ففي واقع الأمر، صدرت رومانيا عام 2018 حيوانات بقيمة 357 مليون يورو (393.6 مليون دولار)، وهو ما جعلها أكبر مُصدّرِ حيوانات حية لأوروبا، وعاشر أكبر مُصدِّر للماشية الحية عالمياً.
ترجع الترتيبات الحالية إلى انهيار نظام نيكولاي تشاوشيسكو في أواخر الثمانينيات، إذ بدأت الشركات الشرق الأوسطية آنذاك السيطرة على سوق تصدير الحيوانات الحية الروماني. حتى مطلع الألفية الجديدة، كانت صادرات الحيوانات الحية تذهب بشكل أساسي إلى دول جنوبي أوروبا مثل اليونان وكرواتيا. ولكن في العقد الثاني من هذا القرن، صارت ليبيا، والأردن، ولبنان، وإسرائيل أسواقاً نفيسة.
لا تملك رومانيا مسالخ لتصنيع اللحوم التي تحتاجها. برغم أنها تستقبل دعماً بإجمالي 26 مليار يورو منذ أن انضمت إلى منطقة اليورو عام 2007، يوجَّه المال إلى الإنتاج بدلاً من بناء أنظمة التجهيز التي تحتاجها الدولة بشدة. ومن ثم، برغم الرقم الضخم الذي تصدّره من الحيوانات، يتوجب عليها استيراد اللحوم ومنتجات مصنَّعة أخرى.
"ثمن بخس"
لا يملك دانوليتسيو خياراً مثل أغلبية رعاة الغنم والخراف في رومانيا سوى بيع حيواناته لمراكز جمع المنتجات الخاصة مقابل مبلغ زهيد، 18 جنيهاً إسترلينياً (23.5 دولار) للرأس.
تبيع شركات التصدير الحيوانات الحية بعشرة أضعاف هذا السعر في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، برغم أن "أسعار الحيوانات تختلف مثل أسعار الأسهم"، وفقاً لما قاله رجل أعمال لبناني بإحدى كبرى مزارع التصدير في رومانيا.
إذ إن المزارعين حبيسو وضع مستحيل. وبرغم عمق جذور الرعي في رومانيا، تُستهلك لحوم الضأن فقط في عيد الفصح. إضافة إلى أن غالبية الأغنام من سلالات مختلطة -سلالة التوركانا- ويُحتفظ بها من أجل الحصول على الألبان واللحوم، وهو ما يجعل اللحوم مرغوباً فيها بدرجة أقل في السوق الأوروبي.
ويتضح من الواقع المالي أن تربية الأغنام ذات ربح طفيف، وأن عديداً من الرعاة يتخلَّون عن ذلك.
يتشابه الموقف كذلك مع مزارعي الماشية. إذ يحاول سباستيان آيل، الذي يملك 28 بقرة من نوع أنجوس، أن يزيد قوته في التفاوض مع المُصدِّرين بتشكيل اتحاد مع ثمانية مزارعين آخرين، وهو ما يعني أن بإمكانه بيع الكيلو بسعر أعلى -2.5 يورو مقارنة بالسعر الحالي المقدر بـ1.8 جنيه يورو- وهو ما يحصل عليه المزارعون الأصغر. لكن طموحه يتجاوز ذلك.
يقول آيل: "منذ عامين، بدأت مشروعاً كبيراً للقيام بالسلسلة كلها، بدءاً من تربية الحيوانات، ومروراً بالتصنيع، ووصولاً إلى بيع اللحوم. لكن الأمر يستدعي وقتاً طويلاً، وسنحتاج دعماً وطنياً أو دعماً من الاتحاد الأوروبي لإنجاز المشروع".
حالات نقل الماشية
في ديسمبر/كانون الأول، دعا الاتحاد الأوروبي إلى تحديث التشريعات الحالية المتعلقة بنقل الحيوانات لمسافات طويلة، بالإضافة إلى مناقشة استدامة تجارة الحيوانات الحية مقارنة بتجارة اللحوم. وفي الوقت الحالي، تجعل تشريعات الاتحاد الأوروبي الموضوعة منذ 2005، دول الاتحاد مسؤولة عن الحيوانات المصدَّرة فقط داخل أراضي الاتحاد الأوروبي، بدلاً من أن تكون مسؤولة عنها حتى وصولها إلى وجهتها.
عقدت الحكومة الرومانية لجنة زراعية؛ لوضع مسودة قانون جديد ينظم صادرات الحيوانات الحية، وهو ما قد يجعل رومانيا مسؤولة عن حالة الحيوانات، لا فقط إلى حين الوصول لوجهة التصدير؛ بل حتى طوال وقت احتجاز الحيوانات. وإذا جرى تطبيق هذا القانون، فسيصبح الأولَ من نوعه في الاتحاد الأوروبي.
يمكن أن يلزم القانون الجديد السفن بأن تكون على متنها عيادة بيطرية. ويقترح بعض أعضاء اللجنة استخدام كاميرات لمراقبة الحيوانات حتى الوصول إلى وجهتها، مستلهمين الأمر من الإطار القانوني للمسالخ في المملكة المتحدة.
وتقول ماري بانا، رئيسة المزارعين في رابطة Acebop لمربي الثروة الحيوانية ومُصدِّريها، والتي تعد جزءاً من اللجنة الزراعية: "هذه خطوة إيجابية واضحة نحو الاتجاه الصحيح". ويتماشى المطلب القانوني الجديد مع أولوية الرابطة الحالية الرئيسية: رفاه الحيوان".
وتأمل بانا، في غضون خمس سنوات، أن تستطيع رومانيا التحرك نحو تصدير اللحوم بدلاً من الحيوانات الحية. وتضيف: "لفعل ذلك، نريد من الحكومة الموافقة على بناء مسلخين أو ثلاثة مسالخ ذات سعة ضخمة على الشاطئ، وذات ثلاجة تخزين، وحينها سيُحل جزء كبير من المشكلة".
يبدو أن نيتشيتا أدريان أوروس، وزير الزراعة والتنمية الريفية في رومانيا، يوافق على ذلك. إذ قال معلقاً على حادث مدينة ميديا، إنه يأمل ألا تتكرر المأساة، وأضاف: "بالنسبة لرومانيا، سيكون الأفضل اقتصادياً عدم تصدير حيوانات حية؛ بل تصدير اللحوم عوضاً عن ذلك".
وبالنسبة للمزارعين -الذين يكافحون في مواجهة الظروف الصعبة منخفضة الأجور، بالإضافة إلى الفساد في إعانات الاتحاد الأوروبي وملكية الأراضي- يمكن أن توفر لهم هذه التطورات بعض الدوافع للبقاء في مزارعهم.
يقول دانوليتسيو متشائماً: "الرعي تقليد نملكه منذ مئات السنين في رومانيا، والنخبة السياسية والاقتصادية التي تلاحق مصالحها الأنانية تتمكن ببطء من تدمير كنز وطني". ويتابع: "أنا وطني، وأحاول أن آمل أن شيئاً ما سيتغير في هذا البلد لوضع أفضل. لكن إذا لم يحدث ذلك، فسنذهب إلى لندن، لأننا لا نملك خياراً آخر".